معارك ومتاعب هيكل
حياة هيكل كلها متاعب ومعارك.. منذ البداية وحتى اليوم.. وربما يكون قد قرر اعتزال الكتابة على أمل أن يكف عنه الأذى ويصرف عنه كيد الحاقدين عليه، ولكن ذلك لن يتحقق، ومكتوب عليه أن تتكاثر عليه المتاعب كلما صعد نجمه.. ولأن نجمه صعد إلى ذرى عالية لم يبلغها أحد قبله، فكان عليه أن يلاقى من المتاعب والمصاعب والمكائد ما لم يلاقه أحد قبله.. وهو يعلم ذلك جيداً.. وذكاؤه هو حصن الأمان.. ولذلك وضع لنفسه قاعدة ألا يرد على الاتهامات والافتراءات التى توجه إليه، وقال لنفسه: إما أن تضيِّع عمرك فى الدفاع عن نفسك، وإما أن تغمض عينيك وأذنيك عما يفعله الآخرون ضدك.. وتتفرغ لعملك.. وكانت نتيجة هذه الفلسفة آلاف المقالات وعشرات الكتب واسم له بريق فى العالم.
وعلى سبيل المثال هناك كتاب ألفه ضياء الدين بيبرس بعنوان (هوامش على قصة محمد حسنين هيكل) ونشره فى بيروت عام 1975 وبعض ما فيه يصلح لمعرفة جوانب من شخصية هيكل وتاريخه.
يروى ضياء الدين بيبرس قصة خطاب أرسله هيكل إلى مصطفى أمين يدافع فيه عن نفسه؛ لأنه نشر فى آخر ساعة عام 1946 حديثاً مع على الشمسى باشا أجراه معه فى مكتبه بالبنك الأهلى، ولكن على الشمسى باشا أرسل تكذيباً قال فيه: إن هذا الحديث مختلق، ونشر مصطفى أمين التكذيب، ويقول هيكل فى خطابه إن الحديث صحيح ولا توجد لديه أسباب شخصية أو عامة تدعوه للاختلاق. وقرأ مصطفى أمين الخطاب ووضع عليه تأشيرة.. (دوسيه هيكل) والخطاب محفوظ فى أرشيف أخبار اليوم إلى اليوم.
كان مصطفى أمين يعلم أن هيكل صادق، وأن تكذيب على الشمسى باشا هو المكذوب، لأن الشمسى باشا هو الذى أخبر مصطفى أمين بأن الحديث صحيح وأنه صرح بنشره، ولكن هناك عناصر حزبية شاءت استغلاله للإساءة إليه وإلى البنك الأهلى. من هنا فوجئ هيكل بنشر التكذيب وهو لا يعلم أنها كانت صفقة هو ضحيتها.. وبعد عشر سنوات كان على الشمسى باشا يطرق باب هيكل ويطلب منه أن يقبل رئاسة تحرير الأهرام، وسأله: أمازلت غاضباً من قصة التكذيب إياه؟. وأجابه هيكل: غاضب لا.. مندهش نعم! وإذا بعلى الشمسى باشا يحكى له القصة كلها..
ويروى ضياء الدين بيبرس أن أحد عشر صحفياً من ألمع محررى أخبار اليوم ذهبوا إلى على أمين فى عام 1949 وقالوا له: إما نحن، وإما هيكل. وفوجئ على أمين بالإنذار، وكان يعلم أنهم جادون لأن جريدة (المصرى) كانت تتفاوض معهم للانتقال إليها، وسألهم على أمين: لماذا؟ فقال أولهم: هيكل غامض، وقال ثان: هيكل خطير، وقال ثالث: هيكل أُلعبان، وهكذا إلى أن جاء الدور على عبد الرحمن الشرقاوى فقال: إنه ليس عنده شخصياً شىء يأخذه على هيكل، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل رأى كل هؤلاء فيه، وضحك على أمين وقال لهم: هذه شتائم وليست اتهامات.. وأنا أطلب ذكر واقعة محددة تثبت أنه خطير أو أنه أُلعبان أو.. أو.. فقال أحدهم: إن هيكل حذر أكثر من اللازم ولا يعطى لأحد فرصة ليمسك عليه دليلاً.
***
وفى عهد عبد الناصر، وفى أوج مجده فى الأهرام، كانت هناك جهات تكيد لهيكل، ولم يسلم من الإيذاء بشكل مباشر وغير مباشر.. مثلاً تم القبض على نوال المحلاوى مديرة مكتبه والأمينة على أسراره، وقيل: إن هذه (شدة أذن) لهيكل نفسه، كما تم القبض على أقرب الناس إليه: الدكتور جمال العطيفى ولطفى الخولى.. وكانت هذه السهام موجهة إليه شخصياً.. وفى عهد عبد الناصر!
ويروى ضياء الدين بيبرس كيف أن هيكل لم يكن يعطى لأحد فى أخبار اليوم فرصة لينال منه، ويحكى أن الصحيفة صرفت له 800 جنيه تحت حساب رحلة لتغطية الحرب فى كوريا، وذهب إلى ميادين الحرب شهراً كاملاً، وعند عودته رد المبلغ لأن التكاليف كانت على حساب الجهة المضيفة، وكان ذلك -طبعاً- سبباً لإثارة ضغينة زملائه! وحدث مرة أن مدير حسابات أخبار اليوم وهو يراجع كشف حساب قدمه هيكل عن رحلة لسوريا لتغطية أنباء انقلاب حسنى الزعيم أن شطب بنداً ذكر فيه هيكل ثمن باقة زهور أرسلها إلى زعيم الانقلاب السورى يوم أذيع خبر جراحة عاجلة أجريت له، ورد هيكل على ذلك بأن أرسل إلى مدير الحسابات باقة من الزهور، ولما سأله عن المناسبة أجاب باسماً: نوع من الشكر لك لحرصك على أموال الدار!
وعندما قامت الثورة اعتقلت مصطفى أمين وعلى أمين فى ثالث أيامها يوم 25 يوليو 1952 وصدر بيان أعلن أن ذلك إجراء تحفظى بعد أن أثبتت رقابة التليفونات نشاطهما ضد الثورة، وذهب هيكل إلى جمال عبد الناصر وقال له: إن مصطفى وعلى أمين نجمان صحفيان عالميان. والثورة محتاجة إلى كسب الصحافة العالمية فى صفها، وسوف تكسب أكثر إذا أطلقت سراحهما وكسبتهما إلى صفها، وكان فى ذلك ما يقنع عبد الناصر فأطلق سراحهما مع بلاغ رسمى يبرئهما فيما يشبه الاعتذار لهما.
ولم يسلم هيكل من كيد زملائه بعد أن صعد إلى موقع رئيس تحرير الأهرام، لأن مصطفى أمين وعلى أمين طلبا إليه أن يستمر فى رئاسة تحرير آخر ساعة بالإضافة إلى رئاسة تحرير الأهرام لمدة سنة، وأثار ذلك حفيظة من كانوا يتعجلون الحصول على مكانه فى آخر ساعة.
وفد دفع هيكل ثمن المكانة التى حظى بها..
فى مايو 1953 ارتج مبنى أخبار اليوم، لأن جمال عبد الناصر جاء إلى الدار واتجه إلى مكتب هيكل وهو رئيس تحريرآخر ساعة.. وبعد وقت طويل دار فيه حوار منفرد بينهما رفع هيكل سماعة التليفون وطلب على أمين فى مكتبه وقال له:
- عندى مفاجأة لك.. تفتكر من عندى ويريد أن يراك؟.
وأجاب على أمين:
- إن قلت إنه عبد الناصر فأنا أعلم أنه عندك.
قال هيكل:
- إذن فتعال.. فهو يريد أن يراك.
وكان حضور عبد الناصر إلى هيكل فى مكتبه حدثاً.. فهذه أول مرة يذهب فيها الحاكم إلى الصحفى، ولا يقف الصحفى على باب الحاكم.. ولم يكن ذلك سهلاً على جيله من الصحفيين الذين كانوا يرون أنهم أحق منه بهذه المكانة.. وهذه طبيعة البشر!
وقد أراد أحد رؤساء التحرير أن ينافس هيكل ويثبت لعبد الناصر أنه أقدر من هيكل فى تدعيم مكانته فى نفوس الناس، فكتب مقالاً- فى أكتوبر- 1964 قال فيه: إن عبد الناصر خسارة فى الشعب المصرى، وإنه كان يجب أن يكون زعيماً لشعب متحضر مثل الشعب الإنجليزى أو الشعب الأمريكى لكى يثمر فيه جهد عبد الناصر.. وأغضب المقال عبد الناصر؛ لأنه رأى فيه مبالغة فى النفاق تسىء إليه وإلى الشعب المصرى..
وحدث أن حضر عبد الناصر جلسة سرية لمجلس الأمة عام 1965 صارح فيها الأعضاء ببعض الأسرار، وطلب منهم أن يحفظوها سراً بينه وبينهم لثقته فيهم، وكان رؤساء تحرير الصحف حاضرين فى هذه الجلسة وكان عبد الناصر يعلم أن ما قاله فى الجلسة السرية سوف ينتشر فى أدنى البلاد وأقصاها، ولكن سيكون ذلك شفاهة ولن ينشر منه شىء.. وفى اليوم التالى طلع هيكل على القراء بمقال حام فيه حول تصريحات عبد الناصر دون أن يذكر شيئاً منها، وشعر رئيس تحرير صحيفة أخرى أن هيكل سبقه وظهر وكأنه يعلم الخفايا فنشر نص حديث عبد الناصر- يوم 19 مايو- 1965 بتوقيعه الصريح، وبعد ساعة من طرح الصحيفة فى السوق كان مفصولاً من عمله (!) وظل الصحفى الكبير طول حياته يحمل فى قلبه الضغينة لهيكل.
وقبل ذلك- فى عام- 1955 كان عبد الناصر فى باندونج وكان رؤساء التحرير وكبار الصحفيين معه، وأثار الجميع أن هيكل يلتقى وحده مع عبد الناصر وينفرد بالأخبار، فذهب اثنان من كبار الصحفيين إلى عبد الناصر وقالا له: إن الوفد الصحفى المصرى مستاء من انفراد هيكل باهتمام الرئيس، وإنهم يعتقدون أن هيكل يدس لهم عند الرئيس، وإلا فلماذا يظفر هو بأخبار الرئيس وحده؟. وكان الصحفيان يعتبران أنهما صديقان قديمان لعبد الناصر، لكنه فاجأهما بقوله: لا مانع من عودة من يريد منكم إلى القاهرة وبتذاكر من الرئاسة دون انتظار طائرة الرئيس للعودة.. ثم قال لهما: إن عليهما أن يتعلما الصحافة من هيكل.. ولم يكن ذلك سهلاً عليهما وعلى غيرهما. وكان على هيكل بعدها أن ينتظر المكائد والدسائس فى الخفاء وفى العلن!
***
وازداد الحقد عليه بعد أن أصبح الصحفى الوحيد الذى يحضر جلسات المباحثات والاجتماعات الخاصة التى يعقدها عبد الناصر، ولكى يحسم عبد الناصر الجدل حول حضور هيكل كان يضع اسمه ضمن وفد مصر الرسمى، ويكلفه بنقل رسائل غير رسمية.. وكان من نتيجة ذلك أن تعرض عبد الناصر لضغوط لم يسبق لها مثيل، ليس من الصحفيين الكبار فقط، ولكن من زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة، ونواب الرئيس، والوزراء، وظل البخار يتجمع سنة بعد سنة إلى أن خصصت اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى جلسة كاملة فى عام 1969 لمحاكمة هيكل، وسبق الجلسة تحضير واتصالات لكى يقف الجميع ضده بعد أن فاض بهم الكيل من الحظوة التى يتمتع بها عند عبد الناصر حتى أصبح أقرب الناس اليه وأكثرهم اطلاعا على أسراره.
فى هذه الجلسة تحدث على صبرى وكان قد أصبح أكبر رأس فى الاتحاد الاشتراكى بعد عبد الناصر وعامر.. عن تأثير علاقة هيكل بعبد الناصر على الصداقة الأبدية بين مصر والاتحاد السوفيتى.. بعد هذه الجلسة بأسابيع قامت الجمارك فى مطار القاهرة بفتح حقائب على صبرى وهو عائد من زيارة للاتحاد السوفيتى ووجدت فيها كميات من السجاد الفاخر والنجف الكريستال والحلى الذهبية، وفى اليوم التالى نشرت الصحف الخبر، ولم ينشره الأهرام! واضطر على صبرى إلى تقديم استقالته من مناصبه.
لكن هذه الجلسة العاصفة فى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى أثارت عبد الناصر؛ لأنه- بذكائه- أدرك أن كل ما قيل فيها أمامه كان مدبراً (ومتفقاً) عليه.. قيل:إن ما يكتبه هيكل يثير البلبة فى الرأى العام، ويؤدى إلى شعور بالإحباط والانهزامية- بعد النكسة- خاصة بعد مقاله (تحية إلى الرجال) الذى شرح فيه لأول مرة الصعوبات التى ستعترض القوات عند عبور قناة السويس، وصوروه على أنه سيؤدى إلى التأثير فى معنويات القوات المسلحة، بينما كان عبد الناصر يرى أن هذه المقالة مفيدة؛ لأنها موجهة إلى الإسرائيليين والأمريكيين ليضعوا فى حساباتهم أنه لن يحارب بينما هو يعد الجيش للحرب.. لذلك أصغى عبد الناصر إلى الجميع بهدوء وخرج هيكل أقوى مما كان.
قبل ذلك كان هيكل قد دخل فى كمين دون أن يدرى ولو كان قد وقع فيه لكانت نهايته.. كان فى موسكو مع رئيس الأركان وكان وقتها الفريق عبد المنعم رياض، الذى كان يجرى مباحثات سرية جداً حول الأسلحة اللازمة لإعداد القوات المسلحة للحرب، وأراد عبد المنعم رياض أن يضمن ألا تقع الرسالة فى أيدى أحد من عفاريت الظلام المنتشرين فى العالم، فأعطى هيكل رسالة مغلقة فيها أدق تفاصيل عروض التسليح، وطلب منه أن يسلمها إلى القائد العام الفريق محمد فوزى.. وقال له: هذه أحسن طريقة لضمان السرية، لأنه لن يتصور أحد أن أدق أسرار الدولة يحملها صحفى ضمن أوراقه.. وفرضت على هيكل رقابة محكمة طول الوقت- دون أن يدرى طبعا- وكان المتوقع أن يدفع الفضول الصحفى هيكل إلى فتح المظروف لمعرفة ما فيه حتى لو لم يكن للنشر.. ولكن تحركات هيكل المرصودة أكدت أنه سلم المظروف كما هو إلى الفريق فوزى دون أن يحاول معرفة ما فيه.. وكانت فكرة الكمين للفريق فوزى، ربما لتكون دليلاً أمام عبد الناصر على أنه يضع ثقته فى رجل لا يستحقها!
يقول ضياء الدين بيبرس: فى وقت من الأوقات كانت المخابرات السوفيتية تقوم برصد تحركات ومقابلات هيكل فى خارج مصر بالتعاون مع المخابرات المصرية، وجاءت النتيجة مؤكدة التزام هيكل لولائه الكامل لمصر ولعبد الناصر.
لذلك لم يكن غريبا أن يدافع عبد الناصر عن هيكل فى جلسة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى .
قالوا إن هيكل يدعى أنه يتحدث باسم الرئيس.. فقال لهم عبد الناصر: هاتوا كلمة واحدة تؤدى هذا المعنى.
وقالوا إن هيكل يثبط همة الشعب والجيش بعد نكسة 5 يونيو ويقول باستحالة الحرب فى سيناء، فقال عبد الناصر: إن هيكل قال ما أقوله وما يقوله أى إنسان أوتى ذرة من الفكر الاستراتيجى، فقد أثبتت النكسة أن الجيش المصرى فى حاجة إلى إعادة البناء وليس فقط إعادة التسليح.. إعادة بناء العلاقات بين الجندى والقائد، وبين الجيش والشعب، وإعادة تدريب لاختراق حائط الخوف أو أسطورة إسرائيل التى لا تقهر وإعادة حسابات الموازين الدولية.. وسكت قادة الاتحاد الاشتراكى عندما وجدوا عبد الناصر يكرر عبارات من مقالات هيكل.
***
وعندما أصدر عبد الناصر قراراً بتعيين هيكل وزيراً للإرشاد مع استمرار بقائه رئيسا لتحرير الأهرام كانت هذه سابقة لم تحدث فى أى بلد فى أى وقت.. وزير وصحفى فى نفس الوقت.. ومع أن وزارة الإرشاد قدمت إليه مرتب الوزير مع مذكرة تقول إن قرار تعيينه تضمن الجمع بين المنصبين. وهذا يعطيه الحق فى الجمع بين مرتب الوزير ومرتبه من الأهرام رفض استلام مرتب الوزير وظل كذلك إلى أن استقال من الوزارة عقب وفاة عبد الناصر. وكان قرار التعيين مفاجأة لهيكل لأنه ظل يرفض عروض عبد الناصر المتكررة لمنصب وزير الإرشاد، وقيل إن جميع الوزراء تسبق أسماؤهم كلمة السيد فلان فى القرار الرسمى لتشكيل الوزارة، لكن القرار حين عرض عبد الناصر لتوقيعه شطب كلمة (السيد) ووضع بخطه كلمة (الأستاذ) وكانت هذه أول مرة وآخر مرة رغم تعيين أعداد من (الأساتذة) وزراء قبل ذلك وبعده. ومازالت النسخة الأصلية للقرار عليها الشطب وخط عبد الناصر.
وفى الاجتماع العاصف للجنة المركزية قال عبد الهادى ناصف - أمين الدعوة والفكر- إن هيكل يتصرف كما لو كان فوق القانون،فهو يهاجم الاتحاد الاشتراكى، رغم أنه موظف تابع للاتحاد الاشتراكى وكل الصحف مملوكة للاتحاد الاشتراكى وهو بذلك يعطى الانطباع بأن القيادة السياسية تريد أن تقلم أظافر التنظيم السياسى الذى يتولى قيادة تحالف قوى الشعب العاملة، وأن هيكل مضى فى استفزاز التنظيم الدستورى فى مصر إلى حد أنه تحدى علنا الأمين العام للاتحاد الاشتراكى السيد على صبرى.
وأمسك عبد الناصر بالسبب الحقيقى لهذه الحملة..
لأن هيكل كان قد فرغ من إعادة تنظيم الأهرام وأخبار اليوم، واستغنى عن حوالى 40 من المشاغبين، وغير المنتجين، وعواجيز الفرح، واستغلت قيادات الاتحاد الاشتراكى الفرصة، وتحرك الأمين العام للاتحاد الاشتراكى بنفسه ليبدو فى صورة المدافع عن حرية الصحفيين. وهو يعلم أن هؤلاء ليسوا صحفيين ولكنهم محسوبون على الصحافة ويسيئون اليها.. ولكنها لعبة السياسة.. مع أنه لم يتحرك أحد فى الاتحاد الاشتراكى حين قام رئيس تحرير صحيفة أخرى بفصل طه حسين و38 من أكبر الكتاب.. وكتب على صبرى بصفته الأمين العام إلى هيكل يطلب إليه إعادة هؤلاء العاطلين، فرد عليه هيكل بأن ما أجراه من تعديلات من صميم اختصاصه وهدفه الصالح العام، وأحال على صبرى هذا الرد إلى عبد الناصر فكان تعليق عبد الناصر: عندما يصل الاتحاد الاشتراكى إلى مستوى تنظيم الأهرام فإننى سأعطى على صبرى الحق فى أن يدس أنفه فى شئون هيكل!
وهذا ما كان يقصده عبد الهادى ناصف بقوله: إن هيكل يتحدى سيادة الأمين العام للاتحاد الاشتراكى، والتقط عبد الناصر ما كان خافيا من دوافع هذا الهجوم المنسق، وأدرك ما هو أبعد من ذلك: إن الهدف الحقيقى هو ضرب أقرب رجاله وتقليم أظافره هو شخصيا.. وطبعا فطن عبد الناصر إلى اللعبة، وحسم الجدل بقوله: يا إخوانى.. هيكل موضع ثقتى وموضع ثقة البلد.. ونصف خدماته للنظام وللبلد لا يصل إليكم كما ينبغى، والنصف الآخر أنتم لا تعرفونه أصلا.. وعلى كل حال أنا حر فى اختيار أصحابى..
وسكت الجميع..
والحكاية من المحاضر السرية للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى التى نشرت بعد ذلك.
***
وطلب الاتحاد السوفيتى من عبد الناصر بصفة رسمية إقصاء هيكل من رئاسة تحرير الأهرام.. المرة الأولى قدموا الطلب بالطريق الدبلوماسى إلى عبد الناصر.. والمرة الثانية قدموه إلى السادات.. ونشرت الصحف السوفيتية المعبرة عن الحكومة والحزب الشيوعى مثل برافدا، وازفستيا، مطلب الاتحاد السوفيتى بإقصاء هيكل واستياء القيادة السوفيتية مما يكتبه هيكل فى الأهرام لأنه لا يخدم العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى.. ولم يستجب عبد الناصر والسادات..
كان الاتحاد السوفيتى غير راض عن فكرة القومية العربية التى ينادى بها عبد الناصر ويروج لها هيكل. لأن القومية تتعارض مع نظرية الدولية الشيوعية، ولأن الاتحاد السوفيتى كان يحارب ويقمع النزعات القومية فى داخله، وكان غير راض أيضا عن النهج الذى تسير عليه مصر ويرى أنها لا تطبق الاشتراكية العلمية الماركسية وترفع شعار الاشتراكية العربية، أحيانا ترفع شعار التطبيق العربى للاشتراكية، وحدث تباعد بين السياسة العربية والسياسة السوفيتية من عام 1958 حتى عام 1962 عندما حدث فى مصر التحول الاشتراكى، بينما كان الشيوعيون فى المعتقلات، وعندما زار خروتشوف مصر طلب أن يذهب هيكل إلى موسكو ويركب معه السفينة البحرية إلى الإسكندرية ويقضى معه أربعة أيام فى البحر يلتقى به خلالها ثلاث ساعات كل يوم، ولكنه كان يقضى معه الليل بطوله فى حوارات عن الشرق الأوسط والعالم العربى، ولكن ذلك لم يمنع هيكل فى عهد السادات من الهجوم على التآمر السوفيتى والأمريكى مع العدوان الإسرائيلى للإبقاء على حالة اللاسلم واللاحرب، وكان هيكل أول من كشف أن الروس يعطون السلاح لمصر بتقتير وبالثمن وبالقدر الذى يضمن الدفاع فقط، واحتج الاتحاد السوفيتى وطلب من السادات إبعاد هيكل عن الأهرام، لكن هذه المقالات كانت تمهيدا لقرار السادات بطرد السوفييت.
***
وفى يوليو 1972 نظم هيكل ندوة فى الأهرام عن العلاقات المصرية السوفيتية شارك فيها إسماعيل فهمى وكان وقتها الوكيل الأول لوزارة الخارجية، وقال فى الندوة: إن الاتحاد السوفيتى خطط لاستمرار حالة اللا سلم واللا حرب وكان يمكن أن يساعد العرب أكثر مما فعل، وأنه يمد العرب بالسلاح بالقطارة وبشكل غير فعال من حيث الكم والكيف، وأن الاتحاد السوفيتى فى طريقه للمساومة مع أمريكا على حساب مصالح العرب.. وكان من نتيجة نشر هذه الندوة أن أصدر وزير الخارجية- الدكتور مراد غالب- قراراً بإحالة إسماعيل فهمى إلى المعاش لأنه تخطى واجبات وظيفته وأدلى بآراء تسىء إلى علاقات مصر بدولة تربطها بها معاهدة صداقة.. وبعد أيام صدر قرار جمهورى بإخراج مراد غالب من الوزارة وتعيينه سفيرا بها، وإعادة إسماعيل فهمى إلى منصبه..
ودارت الأيام ووجد السادات أن إسماعيل فهمى هو الرجل المناسب ليكون وزير الخارجية فى وقت كان يحتاج فيه إلى وزير له موقف إسماعيل فهمى المعادى للسوفييت.
***
مشكلة هيكل الكبرى أنه ظل موضع هجوم فى العلن وفى السر.. وهو يروى بنفسه بعض ما عرفه مؤخراً وكان من أسباب الحملات الدائمة عليه فيقول:
(قيل لأحد كبار القانونيين- وقد كتب ونشر ما قيل له- إننى كنت وراء ضرر أصابه، ولم أعرف الرجل فى حياتى ولا تشرفت بلقائه. وكان موقفى منه على عكس ما نقل إليه، وفضلاً عن اهتمامى به لقيمته العلمية- والإنسانية باعتباره مواطناً- فقد كان قريباً لصديق كبير لى هو على الشمسى باشا).
وقيل لأحد الزملاء الصحفيين: إنه دعى مرة لمنصب صحفى مهم عن طريقى، وإننى لم أبلغه بالدعوة الموجهة إليه وهكذا ضاعت الفرصة منه، وقد كتب ونشر ما قيل له، ومن ذلك عرفت لأول مرة حكاية أنه كانت هناك دعوة له!
وقيل للكثيرين: إننى كنت وراء اضطهاد تعرضت له (العائلات) فى مصر، بينما كان مكتبى ملجأ لكل (عائلة) لها ما تريد أن ترفع صوتها به. ولا أريد أن استشهد بأحد، لأن الاستشهاد بأحد فى هذا الصدد قد يصبح نوعاً من المن عليه لا يجوز لى ولا يليق به، وقد أعفانى أحد كرام الناس- وهو رجل لم أقابله منذ سنوات- من كل حرج، وهذا الرجل هو محمد على فرغلى (باشا)، وكان من أبرز نجوم الحياة الاقتصادية والاجتماعية فى مصر قبل الثورة وكان يلقب بملك القطن، وقد أصدر كتاباً يحوى مذكراته بعنوان (عشت حياتى بين هؤلاء) تضمن فصلاً عن تجربته معى، وقد امتد هذا الفصل على مساحة عشر صفحات كاملة من 187 إلى 196، وقد روى فيها تفصيلاً كيف (وقفت معه ومع مئات غيره فى ظروف صعبة دون انتظار حتى كلمة شكر) وأثار صدور الكتاب اهتماماً كبيراً فى مصر؛ لأن صاحبه وإن كان من الذين أضيروا بالقرارات الاشتراكية إلا أنه حاول أن يرتفع فوق مصالحه الشخصية.
ولم يجئ صحفى عربى إلى مصر، أو كاتب أو مفكر، إلا وقصوا عليه حكايات أننى حجبت الكل- عنوة- ولا أعرف كيف؟ حتى أصبح (الكاتب الأوحد)، وكان العجب يبلغ من السامعين مبلغه لأن السجلات أمامهم تشهد بالعكس على طول الخط.. لقد كنت أنا الذى تعاقد للأهرام مع صفوة من أقلام مصر وأحسن صحفييها. ولقد تمنيت مرات لو طاوعنى الحياء- أو لعلها الكبرياء- فأنشر بعضاً من رسائل أصحاب هذه الحكايات إلىّ بخط أيديهم يشهدون فيها ويشيدون، فلم يكن هناك بينهم- وبدون استثناء-واحد لم أقف معه، ولم أفتح له طريقاً أمامه بحكم صلات الزمالة لكننى كنت أراجع نفسى وأردها حتى عن مجرد الوقوف أمام طواحين هواء فضلاً عن معارك معها.
***
ويضيف هيكل:
هل نُسى كل ما شهدوا لى به، وآخره ما كتبه الأستاذ على أمين فى (فكرة) قبل أيام من انفجار خلافى مع الرئيس السادات وخروجى من الأهرام.. هو الذى كتب بخط يده يقول: (كنت أتتبع الجهود الضخمة التى يبذلها هيكل لرفع الظلم، ولكن الأقلام الكبيرة أُصيبت بالخرس).. كان هو الذى كتب.. وكنت أنا الذى قررت ألا أنشر.
وكنت أنا -أيام مسئوليتى عن أخبار اليوم بالإضافة إلى الأهرام- الذى أعدت جلال الحمامصى مشرفاً على تحرير أخبار اليوم، وعينت إحسان عبد القدوس رئيساً لتحرير أخبار اليوم، وعينت يوسف السباعى رئيساً لتحرير آخر ساعة.. وكانت هذه أحسن الاختيارات التى وجدتها فى السوق لأعطى أخبار اليوم الفرصة لمنافسة الأهرام، وقد ظل هذا الوضع قائماً قرابة سنتين ثم كنت أنا الذى طلبت الإعفاء من مسئولية أخبار اليوم عندما اكتمل مبنى الأهرام الجديد، ووجدت نفسى أمام مسئوليات الانتقال إليه، وما تفرضه من ضرورات إعادة تنظيم العمل على أسس تلائم نقطة تحول أساسية فى الصحافة المصرية (بالإضافة إلى سبب آخر لا أرى داعياً لذكره الآن).. وقد قُبل طلبى.
وإلى جانب ذلك فلقد كانت جريدة الجمهورية هى جريدة التنظيم الطليعى فى الاتحاد الاشتراكى، وفيها كانت قيادات الصف الأول كلها تكتب، ومعظم ما كتب كان فى معارضة آرائى واعتبار ما أقوله مروقا على خط الاتحاد الاشتراكى.
وكانت هناك دور صحفية أخرى لها رؤساء تحريرها ولها محرروها.. دار الهلال على سبيل المثال، وروز اليوسف.. وهكذا فإننى طوال هذه السنين كلها لم أتجاوز حدود الصحيفة التى كنت أرأس تحريرها وهى الأهرام. وحتى عندما عينت رئيساً لمجلس إدارتها فإننى اعتبرت أن ذلك قرار سياسى وليس قرار مهنة، ولهذا لم أضع اسمى مرة واحدة على الأهرام كرئيس لمجلس الإدارة- وإذن فإن الصحافة لم تكن فى ذلك الوقت صحفياً واحداً- ومع ذلك فإن هذا (الصحفى الواحد) ترك لهم مكانه فى الصحافة المصرية.. وإذن فلماذا؟
***
ويقول هيكل:
قيل لى مرات: إن خطيئتى الكبرى أن الأهرام نجح عالمياً- وكذلك كتاباتى فى الدنيا الواسعة بعد خروجى من الأهرام- وإن هذا النجاح فى حد ذاته جريمة لا تغتفر! ولم أقبل هذا التفسير، فلم أكن صانع الأهرام الحديث وحدى، ثم أليس من سنن الطبيعة أن يقدم كل جيل إضافة إلى ما صنعته أجيال سبقت؟
ولم أكن أطلب من أحد أن يرد لى جميلاً، ولكنى- أيضاً- لم أكن أتوقع جزاء (سنمار).
ومرات حاولت أن أعزى نفسى: لقد كان ذنبى أننى ابتعدت عن كل سلطة، أو لم يحدث ذلك لغيرى؟ ألم يتحول الملك فاروق- على نفس النمط- من الوطنى الأول والعامل الأول والفدائى الأول لكى يصبح بعد نزوله عن عرش مصر وخروجه منها أفاقا ولصا وهاتك أعراض على نفس المكان من صحف أخبار اليوم؟، ألم يتحول مصطفى النحاس- على نفس هذا النمط- وهو الذى كان- على الأقل طوال حقبة الثلاثينات- رمزا للمقاومة ضد الاحتلال وضد القصر.. إلى خائن وفاسد وألعوبة فى يد زوجته، على نفس صفحات أخبار اليوم؟، ألم يتحول جمال عبدالناصر وهو رمز حركة الحرية والتحرر والعدل الاجتماعى، إلى طاغية وجلاد، بعد أن تأكد رحيله إلى رحاب الله بنفس الأقلام وإن اختلفت ألوان الحبر؟. وأنا بالقطع لا أريد أن أقارن نفسى بالملك فاروق، ولا أتجاوز فأضع نفسى على نفـس الدرجــة مــع مصطفى النحـاس،ولا أتجاسـر علـى مقــام جمال عبد الناصر، وإذا كان قد حدث لهؤلاء ما حدث.. فلماذا لا يحدث لى نفس الشىء؟.
ثم تفتحت عيناى على حل بسيط لكل هذه المفارقات!! ذنبى أننى كنت شاهدا أتيح له أن يرى ويسمع كل شىء، وكان فى موقع يمكنّه من هذا، والذين يخشون الحقيقة لابد لهم أن يتخلصوا من شهودها.
هناك كثيرون لم يروا ولم يقرأوا.. أجيال جديدة لم تكن معنا منذ البداية.. هناك كثيرون رأوا وقرأوا، لكن الذاكرة تضعف مع الأيام ثم لا يظل فى الأذهان إلا ما تراه العيون وتسمعه الآذان لحظتها.. ثم إن هناك من رأوا وقرأوا، لكنهم يعتقدون فى الحكمة القائلة بأنه إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب، خصوصا إذا كان فيه ما يزعج السلطان.. وإذن فقد كانت ذنوبى أننى ابتعدت عن أية سلطة، ثم إننى كنت شاهدا رأى معظم جوانب الصورة، ثم إننى قادر على الكلام فى يوم من الأيام، وأعترف، ويشهد على ذلك كل من قابلنى فى هذه الفترة الحافلة بالصخب والضجيج، أننى كنت أتابع ما يكتب وينشر وكأننى أتابع ظاهرة لا تتصل بى ولا تمت إلّى بسبب.. وقد بدأت الحملة بدعوى كتابى (خريف الغضب) فى جريدة الشرق الأوسط، وهى الصحيفة التى تشترى من الأستاذ مصطفى أمين بابه اليومى (فكرة) وتنشره فى نفس الوقت مع الأخبار، وجريدة الشرق الأوسط جريدة سعودية تصدر فى لندن، وكان السيد كمال أدهم هو ممولها وصاحب حصة الأغلبية فيها حتى باع حصته إلى أحد الأمراء السعوديين.. كانت الحملة على وجه اليقين أكبر بكثير من حجم الكتاب، وكان رأيى أن الكتاب تعلة.. وأما العلة الحقيقية فيها، فقد كانت لها أهداف أخرى، إرغامى على اتخاذ موقف الدفاع عن نفسى، أو إغراقى فى الصمت إلى الأبد حتى لا أتكلم.. أو إضعاف مصداقية ما أقول إذا ما قررت يوما أن أحكى ما رأته عيناى، وسمعته أذناى،ولم يكن الخوف فقط من فتح ملفات ما جرى فى الصحافة المصرية، وربما أعيد التذكير بما قلت من أن الصحافة فى أى بلد هى جزء من الحياة السياسية فيه، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، وفى العالم الثالث عموما فإن السياسة ليست مجرد صراع مصالح اجتماعية وتيارات فكرية ورؤى مستقبلية، إنما هى مع الأسف أيضا- وهذه طبائع التطور ومراحله- حروب دامية من أ جل البقاء، ومعارك ظاهرة وخفية، ومطامع ومؤامرات، ثم هى أيضا مخططات قوى عظمى تلعب بمصائر ومقادير شعوب وتحاول فرض سيطرتها على الآخرين وترويض همهم وإفقادهم الثقة بكل شىء حتى يصبحوا على استعداد للقبول بأى شىء، ثم إعادة تشكيل أفكارهم وأحلامهم بوسائل عديدة تبدأ بالكلمة والصورة، وتنتهى بالمدفع والدبابة!
هكذا يلخص هيكل بنفسه انطباعاته على الحملات المحمومة التى وجهت إليه بصورة توحى بأنها لم تكن تلقائية، ولكنها كانت عملية اغتيال تسمى فى السياسة الاغتيال المعنوى، أو اغتيال الشخصية.
وكل ذلك لم يكن سوى جانب مما لاقاه، ومازال يلاقيه وما سوف يلاقيه ثمنا لنجاحه، ولأن نجاحه كان مذهلا فإن درجة الحقد عليه أيضا مذهلة.
***
واضح أن عبد الناصر كان مدركا لما يمكن أن يسببه قرب هيكل منه من متاعب، لذلك حاول أن يساعده فى الفصل بين شخصيته وشخصية هيكل.. فكان عندما يعتب عليه بعض الزعماء والساسة بسبب ما يكتبه هيكل كان يقول إنه شخصيا لا يقرأ مقالات هيكل.. وجاء ذلك فى المحاضر الرسمية لمباحثات الوحـدة الثانيــة مــع بعــث العراق وبعث سوريا فى عام 1963، عندما اجتمع زعماء البعث على مقال هيكل (أنى أتهم) الذى فتح فيه النار عليهم، قال عبد الناصر رسميا إنه لا يقرأ مقالات هيكل إلا أحيانا، وبذلك فهو لا يعرف مقدما ما يكتبه، وكرر عبدالناصر ذلك فى لقاءات مع زعماء الاتحاد السوفيتى، والملك حسين، والحبيب بورقيبه، وكان هيكل أيضا يردد ذلك أمام الزعماء ويقول إن عبدالناصر لا يقرأ كل مقالاته.
ومن مشاكل هيكل أنه كان أحيانا يدخل فى معارك مع خصوم عبد الناصر، وعندما تفرض مقتضيات السياسة أن يمد عبد الناصر يده إلى خصوم الأمس تبقى خصومتهم لهيكل، فرجال السياسة قد يتناسون مع نظرائهم ولا ينسون ما يقوله غيرهم.
كتب هيكل كثيرا ضد السياسة الأمريكية، وكتب كثيرا معارضا لمواقف السوفيت، ولكنه فى مواقف كتب مؤيدا للعلاقات المصرية السوفيتية فى وقت كانت فيه مصر محتاجة إلى الاتحاد السوفيتى، وبعد نكسة يونيو 1967 وصلت العلاقات بين مصر وأمريكا إلى أسوأ حالاتها، وكان هو الصوت الوحيد الذى ارتفع بأن التناطح مع أمريكا غير ممكن، وعلى مصر أن تعمل مع أمريكا وتسعى إلى تحييدها.. وقامت عليه الحملات، والذين أرادوا اغتيال هيكل بسبب هذا الرأى هم أنفسهم الذين صفقوا لواقعية وحكمة السادات عندما قال فى يوم 16 أكتوبر 1973 بأنه لا يستطيع أن يحارب أمريكا! وبعد رحيل عبد الناصر كتب هيكل يقول: إن مشكلة الشرق الأوسط لن تحل إلا إذا اتفقت القوتان العظميان، وبدون ذلك فلا حل.. وأطلقت عليه قيادات الاتحاد الاشتراكى ومراكز القوى النار وحركت خلايا التنظيم الخاص للهجوم عليه فى كل مكان.. ويوم 13 مايو 1971 انتشرت شائعة عن استقالة هيكل من الأهرام فسهر كبار محررى الجمهورية جميعا لإعداد صفحتين كاملتين تشيعه فيهما بأقلام الشامتين.. و فى آخر الليل صدر نفى عاجل من هيكل لخبر الاستقالة بعد مقابلة عاجلة بينه وبين السادات.
ومن الطرائف التى تروى أن عبد الناصر كان فى جلسة مع هيكل فى أعقاب الثورة عام 1952 وجاء ذكر الحلاق، فقال عبد الناصر إنه فعلا يحتاج إلى حلاق يؤتمن على دخول البيت والمكتب، فقال له هيكل إن لديه حلاق أخبار اليوم- الأسطى محمد محمود- وله صالون عند مدخل صالة التحرير بها، وأنه يحلق له شخصيا، فقرر عبدالناصر أن يتخذ الأسطى محمد محمود حلاقا خاصا له.. وكانت هذه الحكاية سببا فى ازدياد الحقد على هيكل!
***
فى حياة عبد الناصر كان هيكل أقل حرية وأكثر أمنا، وبعد عبد الناصر أصبح هيكل أكثر حرية وأقل أمنا.
بعد وفاة عبد الناصر بثلاثة أسابيع أعلن هيكل استقالته من منصب وزير الإرشاد لكى يتفرغ لجمع أوراقه وذكرياته عن عبد الناصر، واستشهد بأنور السادات شخصيا بأن عبد الناصر ترك على عاتقه أمام حسين الشافعى وعلى صبرى كتابة تاريخه، لأنه يعرف كل شىء، وقامت قيامة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، وطالبت بألا ينفرد بكتابة تراث عبد الناصر فرد واحد وتقرر تشكيل لجنة لإحياء تراث عبد الناصر.
وفى ذكرى الأربعين كتب هيكل مقالا بعنوان (عبد الناصر ليس أسطورة) قال فيه: إن عبد الناصر ليس له خلفاء ولا صحابة يخلفونه ويتحدثون باسمه، وأن خلفاء عبدالناصر الحقيقيين هم كل الشعب، فقامت القيامة فى الاتحاد الاشتراكى وأثار على صبرى الأمين العام فى أول اجتماع برئاسة السادات ما قاله هيكل واتهمه بالخيانة العظمى، وما كان من السادات إلا أن دعا هيكل لحضور الجلسة التالية فيما يشبه المحاكمة، وكان حاضرا على صبرى، ولبيب شقير، وضياء الدين داوود، وشعراوى جمعة، والدكتور محمود فوزى، وبدأ هيكل حديثه بقوله: فى البداية أريد أن أحدد ثلاث نقاط:
أولا: أننى لست طالب عمل لأنى أستطيع أن أعيش بقلمى فى أى مكان.. ثانيا: أننى لست طالب منصب، وقد اعتذرت عن منصب الوزير مع عبد الناصر فى عام 1956، وعام 1958 وعام 1961 وعام 1967.. ثم فوجئت به رغما عنى فى عام 1970 يكلفنى ثم ابتعدت عن المنصب فورا غداة رحيل من كلفنى به.. وثالثا: أننى باق فى عملى رغم علمى بمخاطره، وبالظروف المقبلة فى مصر، وهى ظروف ليست فيها غنائم، إنما كلها ضرائب وأجدنى مستعدا لدفع نصيبى منها.. وبعد ذلك قال لهم: إن عبد الناصر-فعلا- ليس أسطورة، والذين يحاولون أن يجعلوا منه نبيا يسيئون إليه.. وبعد أن أفاض هيكل فى الحديث وظهر أنه كسب المعركة أعلن السادات أنه يعتبر الموضوع منتهيا.
وعندما دخل السادات معركته مع (مراكز القوى) فى 15 مايو 1971 كان الجميع فى الصحافة والسياسة مع خصوم السادات لأنهم كانوا المسيطرين على القوات المسلحة والمخابرات والداخلية والإعلام والتنظيم السياسى والتنظيم الخاص. وكان هيكل وحده مع السادات وهو الذى قام بالإخراج السياسى للعملية كلها.. وقبل ذلك كانت قد تجمعت هذه القوى ضد السادات عندما وقّع اتفاق الوحدة مع ليبيا وسوريا دون أن يشاورهم، وقالوا: إن السادات بذلك ألقى مصر فى أحضان البعث.. وعقدوا اجتماعا للجنة التنفيذية العليا كان أقرب إلى جلسة محاكمة للسادات، بقصد الانقضاض عليه، وتولية على صبرى مكانه باعتباره هو الممثل للفكر اليسارى الثورى الناصرى، ووقف هيكل فى هذه المعركة إلى جانب السادات، وذهب معه إلى اجتماع اللجنة المركزية، وتحدث طويلا عن أن ما فعله السادات ليس خروجا على الخط السياسى لعبد الناصر، كما يقولون، وقدم المحضر الرسمى للاجتماع الذى تحدث فيه عبد الناصر عن الوحدة والذى يؤكد أن الفكرة هى فكرة عبد الناصر، وكان السادات قد قال لهم ذلك فكذبوه، فلما قدم هيكل المحضر الرسمى للاجتماع الذى تحدث فيه عبد الناصر عن مشروع الوحدة مع سوريا وليبيا سكت الجميع.. وخرج السادات منتصرا.
***
يذكر ضياء الدين بيبرس واقعة تدخل فى باب التاريخ الذى نسيه التاريخ.. وهى أن هيكل فقد منصبه فى الأهرام عام 1963 فى عهد عبد الناصر لمدة 13 يوما، وذهب مكانه عبد اللطيف البغدادى واحتل مكتبه مشرفا على الأهرام، ولم ينشر حرف واحد عن ذلك، وكان ذلك انتصارا للمشير عبد الحكيم عامر على عبد الناصر بعد انفصال سوريا، وفرض رجال المشير على المواقع الحساسة وإزاحة رجال عبد الناصر منها، وكانت الحجة أن هيكل ضد الحل الاشتراكى، لأنه كتب يقول:إن الاشتراكية يجب ألا تكون شماعة تعلق عليها مشاكل النظام، وأن التطبيق الاشتراكى يجب أن يمهد له بجهاز إدارى كفء وفعال، لأنه إن خاب أو انهار جعل من مصر أمثولة فى المنطقة بدلا من أن يجعلها مثلا أعلى.
لقد ظل هيكل يكتب خطب عبد الناصر وبياناته ورسائله المهمة دون أن يسبب له إحراجا، وفعل ذلك مع السادات أيضا، ولم يحدث أن استغل موقعه لتحقيق منفعة أو لاستغلال نفوده، وعلم عبد الناصر أن هيكل معروض عليه أن يترك الأهرام ويكتب فى الصحف العالمية مقابل أجر يماثل ما يتقاضاه من الأهرام عشرات المرات، ورفض هيكل هذه العروض دون أن يبلغ عبد الناصر عنها، وعرض عليه أن يشترى قصرا من القصور المصادرة والتى حصل عليها من هم أقل منه، ورفض. وبعد 15 مايو ظهر من أوراق الاتحاد الاشتراكى أن كبار وصغار الصحفيين كانوا يحصلون من خزانة التنظيم السياسى على أموال طائلة، ولم يكن من بينهم هيكل.. بينما كان فى الأوراق أن شخصا واحدا كان يحمل الشهادة الابتدائية تقاضى من خزانة الاتحاد الاشتراكى 22400 جنيه (تساوى الآن نصف مليون جنيه) حولت له بالعملة الصعبة (ولم يكن مسموحا بتحويل أكثر من عشرة دولارات لكل مسافر) بحجة قيامه بجولات فكرية وعقائدية لتوعية الشباب المصرى فى الخارج.!
***
روايات ضياء الدين بيبرس كثيرة..ومثيرة.. يلخصها بحديثه عن الاستقامة الشخصية لهيكل، ماليا، ونسائيا، لأنه كان يسير على الصراط ولا يعطى فرصة لمن يتابعونه فى السر والعلن لاصطياده والنيل منه، وليس فى ملفات أية جهة ما يمكن أن يؤخذ عليه.
يقول ضياء الدين بيبرس إن المدعى الاشتراكى فى ذلك الوقت الدكتور مصطفى أبو زيد فهمى روى له أنه استمع إلى 82 شريطا مسجلا فإذا بها تحتوى على حكايات وأصوات وأسرار كان يمكن أن تقضى على مئات البيوت لكثير من ذوى الأسماء اللامعة فى السياسة والفكر والصحافة والاقتصاد.. ولم يكن فى التسجيلات ما يمس هيكل من قريب أو بعيد.
وقد أوحت شخصية هيكل إلى توفيق الحكيم بقصة عن قديس ناسك مات دون أن يرتكب خطيئة واحدة فى ديره المنعزل، فلما صعدت روحه إلى السماء رفضت ملائكة جهنم قبوله، لأنه بلا ذنوب، ورفض حارس الجنة قبوله لأنه لم يندم على خطايا ارتكبها ويتوب ليغفر له الله، فأعادته السماء إلى الأرض لكى يواجه موقفا فيه إغراء الشيطان ليقرروا هل يدخلونه الجنة أو النار!
هذا هو هيكل..
ويبدو أن حكايات هيكل لا تنتهى !