ذكريات 6 أكتوبر
حرب 6 أكتوبر كانت حربا بالمعنى الحقيقى، كانت حربا فى أكثر من ميدان.. الحرب العسكرية فى سيناء أثبتت قدرة وبطولات رجال القوات المسلحة، والحرب السياسية التى كان يقودها السادات والدبلوماسية المصرية.. والحرب الاقتصادية التى تحمل فيها الشعب الكثير من التضحيات عن رضا وقبول.. والحرب النفسية التى تنبه لها الشعب المصرى ولم ينخدع بأساليبها.
وكانت عملية إعداد الدولة للحرب فى ذاتها ملحمة عظيمة.. على الجانب العسكرى لم يكن لنا التفوق فى السلاح، ولكن شجاعة الرجال عوضت نقص السلاح.. كذلك لم يكن الاقتصاد المصرى فى أحسن أحواله.. ولم تكن المواد التموينية كافية.. ومعروف أن الاستهلاك يتضاعف فى رمضان ولا يصبر الناس على نقص السكر والزيت والدقيق والياميش..
ولكن عظمة الشعب المصرى ظهرت فى الجبهة الداخلية بنفس القوة والصلابة التى ظهرت بها عظمة الرجال فى جبهة القتال.. لم يتحدث أحد عن التموين أو الياميش.. تحول شهر رمضان إلى صيام وصمود.. ولم تظهر الطوابير المعتادة أمام المجمعات الاستهلاكية.. بل لم تسجل أقسام الشرطة حادثة قتل أو سرقة أو ضرب ولم يحرر فيها محضر واحد.. ولم تتلق بلاغا واحدا من مواطن ضد مواطن.. مع نبأ العبور تحول المواطنون جميعا.. رجالا.. ونساء.. وأطفالا.. إلى جنود. وحدث فى داخل كل منهم عبور تسامى به على الصغائر.. وتوحد الشعب المصرى.. حالة من التوحد العجيب المذهل.. كأن ملايين الشعب المصرى أصبحت رجلا واحدا..
حقيقة أن العبور أعاد الروح إلى الشعب المصرى فظهرت حقيقته وطبيعته.. وظهر معدنه الأصيل.. شعب قادر على تحمل أشد الصعاب.. قادر على تحقيق ما يبدو مستحيلا.. أسلحته الإيمان وروح التحدى وإرادة النصر.
والشعب المصرى فى 6 أكتوبر هو ذاته الشعب الذى صمد فى معارك سابقة.. معارك سياسية وعسكرية تعددت فيها مصادر التهديد، وتنوعت أدوات الصراع، وتداخلت مراحله.. هو الشعب الذى وقف خلف رجاله فى 1948، وفى 1956، وفى 1967.. تأكيدا على أن تحرير أرض مصر الكامل هو المعركة الكبرى التى يرخص فيها كل غال.. وأن أمن مصر أغلى من أرواح أبنائها.. وأن المؤامرات التى تحاك لزعزعة الثقة بالنفس ونشر اليأس والسلبية لا يمكن أن تحقق هدفها، وفى وقت الجد يتبدد كل أثر لهذه المؤامرات مهما تكن حبكتها وقوتها، ويظهر معدن هذا الشعب، وينتفض كالمارد.
معركة 1973 كان تتويجا لجهد وعرق وتضحيات الرجال منذ 1967.. عندما قبلوا التحدى.. صحيح أن قوات إسرائيل- مؤيدة بالتأمين الكامل من الولايات المتحدة- استطاعت أن تستولى على الضفة وغزة، وسيناء، والجولان.. لكن لم تستطع هزيمة الشعب.. لم تستطع كسر إرادة التحرر.. لم تستطع فرض الاستسلام.. وهذا هو أعظم ما فى الشعب المصرى والقيادة المصرية.. هناك شعوب تحتاج إلى عشرات السنين لتجاوز الهزيمة واستعادة إرادة القتال مرة أخرى.. لكن الشعب المصرى رفض الاعتراف بنتيجة حرب 1967 ورفع شعار إزالة العدوان.. وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.. ولا صوت يعلو على صوت المعركة.. وجفف الدموع سريعا.. وبدأ العمل بجدية.. وكان بناء القوات المسلحة أولا لتوفير الدفاع على طول قناة السويس وفى عمق البلاد.. ثم انتقل العمل إلى مرحلة ثانية هى بناء القوة الهجومية لتحرير سيناء والأراضى المحتلة..
وكانت المعارك السياسية مستمرة ومنها معركة إصدار قرار مجلس الأمن الشهير 242 فى نوفمبر 1967 الذى قرر انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضى التى احتلتها، والاعتراف بحق كل دولة فى المنطقة فى أن تعيش فى سلام فى حدود آمنة ومعترف بها.. ومنذ مارس 1968 تم بناء القوات وبدأت عملية الدفاع الجوى الإيجابى.. ومنذ أبريل 1969 تصاعدت العمليات على طول القناة وازدادت عمليات الاشتباك الدموى مع قوات الاحتلال الإسرائيلى فى سيناء، والعمل داخل سيناء.. وتوالت أنباء الدوريات من القوات المصرية داخل الخطوط الإسرائيلية، وعمليات الاشتباك مع الطيران الإسرائيلى.. وفى أوائل عام 1970 تم توقيع اتفاقية مع سوريا لتشكيل قيادة سياسية بين البلدين.
ودائما كانت مصر تتعرض للضغوط السياسية والاقتصادية لإعاقة نمو قوتها الذاتية.. ودائما كانت مصر تنجح فى مقاومة هذه الضغوط والخروج من كل حصار سياسى واقتصادى ونفسى يفرض عليها.. ودائما كانت مصر تحبط المحاولات الخبيثة للإيقاع بينها وبين الدول العربية الشقيقة وهى السند الحقيقى والعمق الاستراتيجى وضمان النصر فى كل معركة.. ودائما كانت الجبهة الداخلية فى مصر معرضة للغزو والحرب النفسية، لكن ذلك لم يؤثر فى معنويات الشعب المصرى.. وتاريخ الشعب المصرى هو تاريخ نضاله المستمر من أجل السيادة، والاستقلال، وتحرير الإرادة الوطنية، وكان هذا هو ما عبر عنه السادات فى زيارته إلى موسكو فى فبراير 1972 عندما أوضح للقيادة السوفيتية أن خوض الحرب قرار مصرى، وأن القيادة المصرية هى التى تحدد حجم العمل العسكرى ومداه، وأن مصر لن تعمل وحدها ولكنها ستعمل مع سوريا، ورفض مصر لوجود جندى أجنبى على أرضها فى وقت الحرب، ولا تطلب من أحد أن يحارب لها معركتها.
ويجب أن نذكر أن مصر لم تنقطع أبدا عن السعى لتحرير الأراضى بالمفاوضات والعمل السياسى، ودائما كانت تجعل الخيار العسكرى هو الخيار الأخير، بدليل أن مستشار الرئيس السادات، محمد حافظ إسماعيل، ذهب إلى واشنطن فى نهاية فبراير 1973 -أى قبل الحرب بشهور- لمقابلة لم يعلن عنها إلا بعد ذلك، مع هنرى كيسنجر مستشار الرئيس الأمريكى، بينما كان وزير الدفاع- أحمد إسماعيل على- فى موسكو لاستكمال احتياجات القوات المسلحة من الأسلحة.. ولما لم تصل المباحثات مع أمريكا إلى الحل الذى ترتضيه مصر كان قرار الحرب.. وبدأ الإعداد للحرب بتولى الرئيس السادات رئاسة الوزارة.. وفى خطابه فى عيد العمال أول مايو 1973 هاجم السادات الولايات المتحدة بأنها أقرت خطة العدوان الإسرائيلية وأسهمت فى تنفيذها فى 1967، وأنها تعمل على الحفاظ على وقف إطلاق النار بينما إسرائيل تحتل الأراضى العربية.. وأعلن أن مصر ترفض حلا مرحليا أو حلا منفردا، ومع ذلك التقى محمد حافظ إسماعيل مرة ثانية مع كيسنجر فى باريس فى مايو 1973 فى محاولة أخيرة للحل السياسى بتدخل أمريكى، ولكن كان الموقف الأمريكى يتلخص فى طلب توفير ما تطلبه إسرائيل للحفاظ على أمنها، وإزاء هذا الموقف فى انحيازه لإسرائيل بالكامل، نقلت مصر الجهد السياسى للحل إلى مجلس الأمن، وفى 26 يوليو 1973 وافقت 14 دولة على مشروع قرار بإدانة الاحتلال الإسرائيلى وإحياء مهمة الوسيط الدولى بين مصر وإسرائيل للتوصل إلى حل، واستخدمت الولايات المتحدة الفيتو فلم يصدر القرار.. ولم يعد أمام القيادة المصرية سوى الحرب.. وهذه هى الصورة التى وضعها الرئيس السادات يوم 30 سبتمبر 1973 أمام مجلس الأمن القومى فكان القرار ضرورة المعركة، وفى اليوم التالى - أول أكتوبر- أصدر السادات توجيها إلى القائد العام للقوات المسلحة بالقيام بعمل عسكرى حسب إمكانات القوات المسلحة يكون هدفه تحدى نظرية الأمن الإسرائيلى، وفى يوم 5 أكتوبر أصدر السادات التوجيه الاستراتيجى إلى القائد العام بتكليف القوات بتنفيذ ما يلى: إزالة الجمود العسكرى بكسر وقف إطلاق النار اعتبارا من 6 أكتوبر 1973، وتحرير الأرض المحتلة على مراحل حسب نمو وتطوير الإمكانات لدى القوات المسلحة، وهكذا خرج المارد المصرى من القمقم.
وما أعظم ذكريات 6 أكتوبر، التى ستبقى محفورة فى القلوب، وتتناقلها الأجيال.