هذا هو طريق الإصلاح الشامل
كان مؤتمر الحزب الوطنى فى عمومه مفاجأة.. وفاق ما كان متوقعا.
كانت دقة التنظيم تدل على أن كل شىء قد تم الإعداد له إعدادا جيدا، ولم نشهد مظاهر الارتجال التى نألفها فى المؤتمرات التى تحتشد فيها كل هذه الآلاف.
وكانت أوراق العمل أيضا مفاجأة.. لأننا اعتدنا أن تكون مثل هذه الأوراق تكرارا لشعارات وعبارات حفظناها عن ظهر قلب، وجعلتنا نفكر فى دائرة ضيقة مغلقة، والجميع يرددون نفس الأفكار والمعانى والكلمات دون أن ينتهى الأمر إلى شىء جديد، ويخرج المجتمعون يهمسون فيما بينهم وبين أنفسهم أن ما نبيت فيه نصبح فيه، والذى يتحدث اليوم هو الذى كان يتحدث أمس وأول أمس، وسيتحدث غدا..
هذه المرة كانت أوراق العمل فيها أفكار جديدة، وتناول جديد، ومنهج جديد، وابتعاد - يبدو أنه مقصود - عن العبارات والشعارات الرنانة التى تستدر التصفيق ولا تقدم ما يفيد.. أوراق العمل هذه المرة تقتحم موضوعات شائكة طرحت لأول مرة: مثل علاقة المواطن بالشرطة، وعلاقته بأجهزة الحكومة البيروقراطية، ودخول الدولة بكل قوتها فى خصومة مع المواطن الأعزل، والعناد فى الخصومة القضائية، وتطبيق الأحكام بطريقة انتقائية تعسفية لا تليق بالدولة.. وكثير من أمثال هذه المسائل التى تمثل السبب الرئيسى فيما نشكو منه من السلبية، وعدم الانتماء، وعدم المشاركة، لأن المواطن لا يشارك إلا إذا لمس كل يوم أن حقوقه موضع رعاية واعتبار، وأن كرامته وإنسانيته لا يمكن المساس بهما تحت أى ظرف.
كل ذلك كان جديدا.. بل كان مثيرا فى أوراق ومناقشات المؤتمر.
كان جديدا أيضا أن يرتفع صوت التيار الإصلاحى فى الحزب، بعد أن فقد التيار المتجمد القديم تأثيره فى الناس وأصبح يتحدث إلى نفسه، ويجلس الناس وكأنهم يستمعون إليه، بينما هم منصرفون، لإحساسهم بأن هذا التيار القديم يسعى إلى تحويل الحزب إلى مجرد تجمع أو تظاهرة بلا فاعلية ولا حيوية ولا تأثير، لكن فى هذه المرة كانت الأصوات الجديدة تجد آذانا صاغية، وتجاوبا، وكان الصدق فى حديثها واضحا، ولذلك كانت مؤثرة ونالت تقدير الجميع، وقديما قالوا إن ما خرج من اللسان لا يتعدى الآذان، وما خرج من القلب يصل إلى القلوب.
كان جديدا أن يقول الأمين العام إن الحزب لم يحقق سوى 40% من المستهدف.. وهذا يعنى أننا أصبحنا نؤمن بالواقعية، والصراحة، واحترام السامعين.
وكان جديدا أن يعلو الصوت فى المؤتمر بإعادة البناء الداخلى للحزب، وإعادة صياغة أساليب حل المشكلات التى تؤرق المواطنين، وفتح الأبواب لكافة القوى الوطنية، وتوسيع دائرة الحوار داخل الحزب، وبين الحزب والأحزاب الأخرى، وبين الحزب ومنظمات المجتمع المدنى، وبين الحزب والأغلبية الصامتة غير المنتمية.. وكان ذلك أيضا توجها جديدا يدل على الجدية، والرغبة فى العمل فى الاتجاه الديمقراطى الصحيح دون مناورة.
وكان خطاب الرئيس مبارك وثيقة حددت معالم الطريق، كما كان هذا الخطاب رسالة واضحة بأن الرئيس ينحاز إلى التيار الإصلاحى، وإلى أصوات الشباب، وإلى منهج تكاملى فى الإصلاح يربط بين الإصلاح الاقتصادى، والإصلاح السياسى، والإصلاح الاجتماعى، والإصلاح الثقافى، وهذا المنهج كان غائبا عن سلطات التنفيذ والتوجيه وكان الجميع يرددون أن كل إصلاح مؤجل إلى حين إتمام الإصلاح الاقتصادى، وكان ذلك بعيدا عن منطق الحياة التى لا يمكن فيها تحقيق نهضة فى جانب واحد، والإبقاء على التخلف فى بقية الجوانب.
وكانت دعوة الرئيس مبارك واضحة، ومحددة، ومباشرة، وهو يقول لكل قيادات الحزب والحكومة: لابد أن يكون للشباب والمرأة دور محورى فى المشاركة السياسية الفاعلة، مع ما يستلزمه ذلك من تطوير الثقافة السياسية السائدة، وتحويلها إلى ثقافة دافعة للعمل المنتج والمشاركة فى خدمة المجتمع.
كان مبارك معبرا عما فى ضمائر الشعب كله عندما ارتفع صوته معلنا بأن فى هذه المرحلة ستقوم الدولة بدفع الكفاءات من الشباب لتولى المسئولية فى مواقع العمل الحزبى والحكومى، وتحقيق المزج بين الخبرة الطويلة والرؤى الجديدة، وهذا مطلب شعبى جارف فى مجتمع يمثل الشباب فيه أكثر من النصف ولا يمثله فى كل المواقع نسبة يمكن ذكرها.
وكان مبارك فى مكانته العالية كزعيم للأمة وليس زعيما للحزب الوطنى فقط فى دعوته كافة الأحزاب إلى تطوير نفسها، وتنشيط قواعدها، وإزالة العقبات من أمامها، وتنظيم وسائل تمويلها، ودعوتها إلى حوار وطنى متصل تشارك فيه الحزب الوطنى، لأن هذا الوطن وطن كل المصريين وليس وطن الحزب الوطنى وحده.. وفى مبادرة مهمة جدا أعلن الرئيس عن دعوة الأحزاب إلى إعداد ميثاق ينظم العلاقة بين جميع الأحزاب ويحدد سلوكياتها فى المنافسة وإدارة الحملات الانتخابية.. وحين دعا إلى تعزيز بناء الثقة بين المواطن والدولة، وما أعلنه من إجراءات عملية مثل إلغاء الأوامر العسكرية، وتطوير الإدارة المحلية، وتجديد دماء العمل السياسى.. والدعوة إلى تطوير النقابات المهنية والعمالية وإعادة النظر فى قوانين النقابات المهنية لتحديثها وتطويرها.
كانت مفاجأة أن المجلس الأعلى للسياسات فى الحزب أصبح بحق جهاز التفكير التقدمى ومحرك عملية التطوير والإصلاح السياسى والتشريعى والاجتماعى، وسيذكر لهذا المجلس أنه بدأ مسيرة التغيير فى المناطق المتجمدة الراكدة فى المجتمع، وأعاد الحياة إلى قطاعات فى المجتمع كانت على وشك أن تفقد الحياة، وقدم مبادرات عملية ولم يردد العبارات التقليدية المحفوظة التى ليس وراءها عمل.. أثبت هذا المجلس أنه خلال سنة واحدة أو سنتين استطاع أن ينقل الحزب عشر سنوات إلى الأمام، وإذا استمر دون عوائق أو عقبات أو عراقيل فسوف يجعل عجلة الإصلاح فى مصر تدور بالسرعة التى تمكنها من تدارك السنين الطويلة التى ضاعت عندما سيطر على الحزب أصحاب نظرية تبريد الحزب، حتى وصلوا إلى تجميد الحزب، وكادوا أن يصلوا إلى قتل روح الحزب وسلب الحياة من القلب ومن الأطرف.
وكالعادة، يخرج الناس من كل مؤتمر وهم يسألون بعضهم ويسألون أنفسهم: هل هذا الكلام بجد.. هل سيطبق منه شىء..؟ هل سيتحول إلى عمل أو سيبقى فى نطاق الكلام؟
والإجابة ليست عندى.. ولكن عندى إحساس أن الكلام هذه المرة صادر عن روح جديدة هدفها العمل، ولا تبحث عن بريق الأضواء، وإن كان البعض يريد أن يكسب لنفسه موقعا أو منصبا، أو يقول أنا هنا، فإن الأيام سوف تكشف من الذى يعمل بالتفانى والإخلاص ونكران الذات، ومن الذى يعمل وعينه على الجائزة أو الثمن.
وبناء الأمم لا يقوم إلا على الذين ينكرون ذاتهم، ويكونون أول من يضحى وآخر من يستفيد.. أما الذين هم أول من يستفيد وآخر من يضحى فليسوا من بناة الأمم ولا حتى من بناة أنفسهم!
العمل السياسى تضحية وليس مغنما.
هذه هى الرسالة الأولى والأخيرة فى المؤتمر لمن كانت لديه البصيرة والوعى بما سيكون.