«البلطجية».. والقانون
لا يشترط القانون الجنائى المصرى حدوث ضرر فعلى لفرض العقوبة على عمل من أعمال البلطجة، بل يكفى أن يتوافر «احتمال» تحقق الضرر، أى «التهديد» لحق أو لمصلحة يحميها القانون.. ويعتبر القانون من جرائم البلطجة كل عمل لإرغام شخص على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل مشروع لا يلزمه القانون بالقيام به، وكل عمل يتسبب فى تعطيل القوانين أو مقاومة تنفيذ أحكام القضاء الواجبة التنفيذ ويعاقب القانون على هذه الأعمال حتى إذا لم تترتب عليها نتيجة للبلطجى مادامت تحدث الرعب فى نفس المجنى عليه.وفى الدراسات التى أجراها المركز القومى للبحوث الاجتماعية فإن التشريعات وحدها لا تكفى لمواجهة البلطجة، وهذه الحقيقة أكدها الخبراء والمسئولون عن الأمن فى جميع دول العالم فى مؤتمراتهم التى عقدت فى ميلانو عام 1985، وفى كاراكاس عام 1990، وفى القاهرة عام 1995، وتوصلوا فيها إلى أن تشديد العقوبات فى القوانين وزيادة قوات الشرطة والسجون، لن تقضى على البلطجة، ولكن البلطجة تختفى تلقائيًا كلما تحققت التنمية وتم تخفيف حدة البطالة والفقر، وشعر الفقراء بأن الاحتياجات الأساسية لمعيشتهم مكفولة، والخطأ الأساسى فى المواجهة مع البلطجة هو تصور أن التوسع فى استخدام الشرطة هو الحل، والنتيجة أن تتحمل الشرطة بأعباء ومخاطر تثقل كاهلها ولا يتم القضاء على البلطجة.
المشكلة أن بعض السياسيين والكُتاب ومحترفى الحديث فى الفضائيات يبررون أعمال البلطجة مثل قطع الطرق، وتعطيل المواصلات، والتوقف عن العمل، وتعطيل مصالح الناس، لفرض الرأى، أو للحصول على ماهو حق وأحيانًا للحصول على ما ليس حقًا، والحقيقة أن هذه الأفعال لا تدخل ضمن الأعمال المشروعة للاحتجاج أو إعلان المطالب، أو للحصول على الحقوق، ولا يمكن تبريرها حتى لو كانت من أجل مطالب مشروعة، بل إنها تدخل فى إطار البلطجة التى تسبب الضرر لمصالح الوطن والمواطنين، والمطالب المشروعة لا تتحقق بوسائل غير مشروعة، وكيف يمكن قبول تجمهر أعداد من الناس لمنع السيارات والقطارات وإيذاء المواطنين الأبرياء الذين لا شأن لهم بهذه المطالب، ولا قدرة لهم على تلبيتها، وكيف يقول فلاسفة هذا الزمان الذين يسعون إلى إثارة الفوضى إن هذه أعمال تدخل ضمن حقوق الإنسان وهى فى حقيقتها اعتداء على حقوق الإنسان وتتعارض مع القانون ومع مصلحة المجتمع ومصالح الأفراد، وتؤدى إلى إثارة الفوضى والقلق فى النفوس.
وقانون العقوبات يحدد الأفعال التى تعتبر من أفعال البلطجة، ويعتبرها من الجرائم الخطرة حتى ولو لم تترتب عليها نتائج إجرامية، ويكفى أن تثير الخوف لدى الناس.. والملاحظ أن جرائم البلطجة التى حدثت فى مصر مؤخرًا كانت تهدف إلى التأثير على المواطنين ومصالحهم، والاعتداء على الدولة وهيبتها بشكل مباشر.. ولذلك فإن القانون يفرض عقوبة السجن المشدد من ثلاث إلى خمسة عشر سنة على كل من يقبض عليه متلبسًا بفعل يؤدى إلى ترويع المواطنين، ويهدد سلامتهم أو ممتلكاتهم، أو أهلهم، أو يعتدى على منازلهم، أو يهدف إلى السرقة بالإكراه والتهديد أو يقطع الطرق.
وعلى الرغم من العقوبة المشددة فى القانون إلا أن جرائم البلطجة استمرت وكأن القانون لم يصدر، وهذه جريمة أخرى هى الاستهانة بالقوانين، وحدث أيضًا أن أصدرت المحكمة الدستورية حكمها بعدم دستورية هذا النص القانون لعدم عرضه على مجلس الشورى، ولذلك صدر مرسوم بقانون رقم 8 لسنة 2011 لحماية المواطنين من البلطجة، ويقضى بعقوبة لا تقل عن سنة وإذا وقع الفعل من شخصين أو أكثر فتكون العقوبة السجن لمدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات، وشدد القانون العقوبة إذا ارتكبت الجريمة ومع المجرم سلاح نارى أو سلاح أبيض أو آلة حادة أو عصا أو أداة كهربائية أو مادة حارقة أو كاوية أو مادة مخدرة أو منومة أو أية مادة أخرى ضارة، وشددت العقوبة أيضًا إذا وقع الفعل الإجرامى على انثى أو على حدث يبلغ ثمانى عشرة سنة، بل إن قانون العقوبات شدد العقوبة إلى الإعدام إذا ارتبطت بها جناية القتل العمد، واعتبرت البلطجة ظرفًا مشددًا فى جميع الجنايات والجنح التى يرتكبها البلطجية.
هذا ما شرحته بالتفصيل د. هالة غالب فى بحثها عن المواجهة الجنائية لجرائم البلطجة، ولكنها لاحظت أن المعالجة التشريعية للبلطجة اقتصرت على عقوبة الحبس واعتبارها ظرفًا مشددًا فى الجنايات والجنح والمرتبطة بها، ولكن التشريع لم يتضمن النص على سرعة المحاكمات فى هذه الجرائم ومعلوم أن العدالة البطيئة فى هذه الحالات تؤدى إلى نسيان الناس للجريمة بحيث يفقدون متابعة المحاكمة ولا يشعرون بجدية العقاب وجدواه، ولهذا كررت د. هالة غالب مطالبتها بوضع أحكام إجرائية لسرعة الفصل فى هذا النوع من القضايا، وهى تطالب أيضًا بتشكيل دوائر خاصة فى كل محكمة تتخصص وتتفرغ لنظر قضايا البلطجة.
ومع ذلك فإن القانون ليس كل شىء، ومشكلتنا أننا نتصور أن الجريمة سوف تختفى بمجرد إصدار قانون وتشديد العقوبات، والناس فى مصر اعتادوا على تجاهل القانون، أو الجهل به، أو الاعتقاد بأنه لن يطبق وسوف ينتهى إلى النسيان كغيره من القوانين التى صدرت ولم تنفذ، والمثال على ذلك الذى يتكرر ذكره على ألسنة الناس قانون المرور الأخير الذى شدد العقوبات على مخالفات المرور واعتبرها جرائم عقوبتها الحبس، وصاحب صدور هذا القانون تصريحات نارية بأنه سيطبق على الكبار قبل الصغار، ثم انتهى الأمر به إلى سلة المهملات ولم يطبق أبدًا.. والأمثلة كثيرة تستعصى على الحصر، ومن الأمور المعلومة أن فى مصر «غابة من القوانين» يعجز أى إنسان عن الإحاطة بها حتى من المتخصصين والمشتغلين بالقانون وبالقضاء فى مصر آلاف القوانين بعضها يرجع إلى عصور الحكم العثمانى وبعضها يرجع إلى أيام سلطة الاحتلال، وفى كل مناسبة يتجدد الحديث عن «ثورة تشريعية» لتنقية القوانين ومراجعة القوانين الميتة والنصوص التى لم تعد تصلح لهذا العصر وللمفاهيم القانونية الحديثة، ولكن لا شىء يحدث غير التصريحات والأحاديث.
وبالإضافة إلى ذلك فإن البلطجة فى حقيقتها ظاهرة اجتماعية وسياسية كما هى ظاهرة إجرامية ولابد من دراستها من جميع الجوانب ومواجهتها سياسيًا واجتماعيًا قبل المواجهة القانونية
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف