هيكل فى الميزان
قضى محمد حسنين هيكل أكثر من 17 عاماً فى الأهرام من 31 يوليو 1957 حتى أول فبراير 1974، وخلال هذه السنوات ينطبق على هيكل ما قاله أستاذ الصحافة الأمريكى روبرت براون فى كتاب له عن (فن الصحافة)، يقول فيه: حين تفحص أية صحيفة ناجحة ستجد أنها (ظل رجل واحد).. رجل له مبادئه، وكرامته، وأمانته، وشجاعته، وستجد أنه قام ببناء مؤسسته الصحفية على شاكلته، وأحاط نفسه برجال من طراز رفيع، لهم صفات تحاكى صفاته.
هذا بالضبط ما ينطبق على هيكل، فهو الذى جعل مؤسسة الأهرام إطلالة على القرن الحادى والعشرين.
ومع ذلك لم يسلم من الغمز واللمز, ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه جليل البندارى فى آخر ساعة يوم 5 ديسمبر 1962 عن ذكرياته وما جال بخاطر زملاء هيكل عندما ترك أخبار اليوم وأصبح رئيس تحرير الأهرام فقال:
تساءلنا جميعاً فى دهشة.. كيف يترك هيكل داره المتحركة مثله ليتولى رئاسة تحرير الأهرام المحافظة, الثابتة, الجامدة, جمود أهرام الجيزة, وكيف يمكن أن يتجاوب أو يتفاهم مع المحررين والصحفيين ذوى الطرابيش الحمراء الطويلة الثابتة على الجباه, والياقات البيضاء المنشاة, والقفازات, والبابيونات؟..
وهناك آراء أخرى كثيرة قد أشير إلى بعضها فيما بعد.
وقد نجح هيكل فى أن يجعل الأهرام مؤسسة شابة مليئة بالحيوية, وجعلها مؤسسة قائمة على نظام دقيق للعمل فى كل المجالات, واستعان بقيادات إدارية لديها الكفاءة والقدرة على المبادرة, والوعى الذى يجعلها لا تقع فى الخطأ, وبكفاءات صحفية أثبتت مقدرتها فى صحف أخرى, وعيّن عشرات المحررين الشبان الأكفاء, ونجح فى أن يجعل الجميع أوركسترا يعزف معه على نوتة واحدة دون أن يشذ أحد.. وكان هو المايسترو الذى وضع النوتة, ويقود الأوركسترا.
وقد عبّر هو عن هذا الدور فى ندوة فى مجلة أكتوبر فى يناير 2001 فقال: (كان دورى أننى حاولت أن أجعل من الأهرام مرآة لعصره وزمانه وعالمه, وملتقى لأفكار كثيرة مهما كانت متعارضة.. كان هدفى أن أخلق مناخاً.. كنت أفكر فيما يحدث فى الخارج, فإن ما يميز صحيفة عن صحيفة هو الروح.. الفارق بين التايمز والديلى تلجراف فى الصحف البريطانية, أو الفارق بين واشنطن بوست ونيويورك تايمز فى الصحف الأمريكية هو (الروح), وعندما تسأل عن مهمة رئيس التحرير, فهو المايسترو, الذى يضبط الإيقاع, ويترجم الحياة, والأخبار, والحوادث, بتصوره وكيفية تفسيره..
مهمة رئيس التحرير -كما قال- أن يكون المايسترو, وليس بالضرورة أن يكون عازفا على آلة.. خذ مثلاً مؤلفى الموسيقى الكبار من أمثال بيتهوفن, وهايدن, وشوبان وغيرهم, كل مايسترو يقود فرقته لعزف مقطوعات لهم يختلف عن الآخر فى رؤيته للعمل.. مايسترو يختلف عن مايسترو.. وبالتالى النص واحد, واللحن واحد, لكن الروح التى يعكسها المايسترو على اللحن تعطيه مذاقاً مختلفاً.. ولذلك أقول: إن الفرق بين عصرين فى نفس الجريدة الواحدة, والفرق بين جريدتين فى عصر واحد, هو شخصية رئيس التحرير, وطريقته فى العمل التى تنعكس على الجريدة كلها, وفهمه للعصر, وللأحداث, والروح التى يعكسها على الجريدة.. أما أنا فقد كنت فى الأهرام مشغولاً بترجمة عصرى, وعالمى, وما يجرى فيهما وأتوجه إلى قارئ مهتم بمعرفة ما يجرى فى العالم.. وأنا أعتقد أن الخبر هو الأساس فى عمل الصحف فى العصر الحديث, لأن الصحافة فى بدايتها كانت تشمل الأدب والفلسفة والآن أصبحت مهمة الصحافة الأولى هى الخبر وما يتصل بالخبر.. ترجمة الخبر وإيضاح معناه, بشرط أن يكون الخبر صحيحاً, وأن يترجم بتفاصيله وحواشيه وما ينطوى عليه, ثم على الصحيفة أن تقوم بمهمة التفسير والتعليق على الخبر.. وهذا ما كنت أفعله فى الأهرام.
***
وقد لا يعرف البعض أن هيكل فى وقت من الأوقات كان رئيساً للأهرام وأخبار اليوم ودار المعارف معاً, وكان ذلك بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر بصفته رئيساً للاتحاد الاشتراكى المالك للمؤسسات الصحفية, والهدف واضح.. كان عبد الناصر يريد أن تتوجه الصحافة بتناغم مع الأهداف والسياسات التى كان يحشد لها الرأى العام.
ويقول هيكل عن هذه الفترة: لقد حرصت على أن أحفظ لجريدة الأخبار استقلاليتها, فقمت بتعيين جلال الحمامصى مسئولاً عن التحرير, وكان فى ذلك الوقت يعمل فى الجامعة الأمريكية, وقمت بإعادة موسى صبرى رئيساً لتحرير الأخبار وحده, وإحسان عبد القدوس رئيساً لتحرير أخبار اليوم, ويوسف السباعى رئيساً لتحرير آخر ساعة, والأهم من ذلك أننا أصدرنا قانون الصحافة العربية المتحدة يحدد العلاقة بين الصحافة والسلطة, أيام أن كان الاتحاد الاشتراكى يملك الصحف, وقلنا فى هذا القانون إن الاتحاد الاشتراكى هو مالك رخصة الصحيفة, ولكن من المنظور السياسى الصحف مستقلة عن الاتحاد الاشتراكى ولا يقيدها سوى الدستور والقانون, وحساب المؤسسات الصحفية لا يكون إلا على هذا الأساس, وعندما جاء الرئيس السادات إلى الحكم ألغى قانون الصحافة العربية المتحدة, وفرحت الصحف وقالت: إن ذلك فك قبضه هيكل عن الصحافة, وهذا الكلام أدهشنى كثيراً, لأن القانون كان فى مصلحة الصحافة والصحفيين.
***
ويتحدث هيكل عن دوره فى الأهرام, فيقول: إن حال الصحافة مثل حال المدن, وعلينا أن نفرق بين المدن وعشوائيات المدن, ولابد أن نقبل الواقع وهو أن قلب المدينة شىء, والعشوائيات التى تنشأ على أطرافها شىء آخر, وقد دخل المهنة من لا يدرك رسالة الصحافة, ولابد أن نفهم ذلك, ولا نحكم على المهنة بما يحدث فى عشوائياتها, لأن مهنة الصحافة مثل أية مهنة, ومجتمع الصحافة والصحفيين مثل أى مجتمع يجب أن يكون الحكم عليه بالأغلبية وليس بالأقلية, وبالأكثر تقدماً وليس بالأكثر تخلفاً!
ويقول: لقد كنت خامس رئيس تحرير للأهرام بعد بشارة تقلا الكبير, وداوود بركات, ومطران خليل مطران, وانطون الجميل, وكانت الدعاوى الوطنية قد تزايدت وقت دخولى الأهرام, وقبل ذلك كانت قد صدرت جريدة المصرى, ثم أخبار اليوم وكان ذلك يفرض تحديات على الأهرام, ولم يكن أصحاب الأهرام يعرفون ماذا يفعلون, ومازلت أذكر الجلسة الأولى التى جمعتنى بهم عند ذهابى للأهرام, وطلبت منهم أن آخذ معى أوراق الأهرام وأذهب إلى الإسكندرية لكى أرى الصورة واضحة, وعندما فعلت ذلك استهولت ما رأيت، لكن ذلك لم يقلقنى، لكن الذى أقلقنى عند دخولى اجتماع مجلس الإدارة لتقديم تقريرى الأول, كان على الشمسى باشا الذى أحضرنى إلى الأهرام وقد انتهت مدة عضويته فى مجلس الإدارة, وكان هو عضو مجلس الإدارة الوحيد الذى يعرف اللغة العربية. كانت أمامى مدام رينيه تقلا, وكانت سيدة مدهشة أعتقد أنها من الذين حافظوا على الأهرام, لأن الصحف تمر بمرحلة لا يكون المهم فيها أن تتقدم, بل أن تنجح فى المحافظة عليها, وأنا أعتقد أن مدام تقلا, وريمون شميل قاما بدور كبير جداً فى الحفاظ على الأهرام, بينما كان بشارة تقلا الذى ورث الأهرام عن أبيه لا يزال صغيراً.
وفى هذا الاجتماع طلب منى أعضاء مجلس الإدارة أن أقدم تقريرى بالإنجليزية, بينما طلبت مدام رينيه تقلا أن يكون التقرير باللغة الفرنسية, وقلت لهم: إن إجادتى للإنجليزية أفضل من إجادتى الفرنسية لكن لا بأس سأقدم تقريرى بالفرنسية, وفى هذا الوقت ظهر لى المأزق الحقيقى للأهرام, وهو أن أصحاب أقدم جريدة عربية تغيروا طبقياً, وأصبحوا لا يعرفون اللغة التى يصدر بها الأهرام, ومع ذلك ظلوا محافظين عليه كمؤسسة.
وفى أول تقرير لى قلت: إننا لا نستطيع أن نصنع تاريخاً بدون جغرافياً ملائمة, فقد كنا فى عام 1957 بينما مطبعة الأهرام مصنوعة فى عام 1928, وماكينة (الزنكات) مصنوعة فى عام 1904, والمبنى كان بيتاً للقنصل الإيطالى بنى فى عام 1901, لكن مدام رينيه قالت: إنها لم تفهم ما هى العلاقة بين التاريخ والجغرافيا. وكانت هذه مشكلتى الثانية: كيف يمكن تحديث الأهرام فى هذه الظروف؟!
وعندما سألنى مدير التحرير كيف أريد الأهرام غداً؟ قلت له: أريده كما كان بالأمس, لأن ما يهمنى الآن ليس أن أكسب قارئاً جديداً, ما يهمنى هو أن احتفظ بقارئ ظل وفياً للأهرام طوال السنوات التى تحول فيها الأهرام إلى موقف دفاعى.. قبل أن أكسب قارئاً جديداً أريد أن يطمئن القارئ القديم.. سنظل مؤقتاً كما نحن.
***
الشىء الجديد الذى أدخله هيكل فى الصحافة أنه جعل للصحفى مكانة, وكرامة, وقد روى لى أنه فى بداية شبابه ذهب لمقابلة وزير من بشوات ما قبل الثورة, وأعجب به الوزير, وفى المقابلة الثانية أشار الوزير إلى سكرتيره فأعطاه لفافة وهو يغادر المكتب, فتحها فوجد فيها بدلة من بدل الوزير, وشعر ساعتها بمدى الهوان الذى وصل إليه الصحفيون, وبنظرة الكبار لهم على أنهم من طبقة متدنية, فعاد يرد اللفافة إلى السكرتير وعلى وجهه علامات الغضب, فقال له السكرتير مهدئاً:
- لماذا تغضب.. كلهم يأخذون.. وهذه البدلة لم يلبسها الباشا غير مرات محدودة.. وخرج هيكل غاضباً من الوزير.. ومن زملائه. وقال لى هيكل: كنت صغيراً.. ولكن لم أكن أعد نفسى لمثل هذا الهوان.!
الكرامة.. الدرس الأول من هيكل لكل من عمل معه فى الأهرام..
أما عن اهتمامه بتدريب الصحفيين الشبان وإعطائهم فرص النمو فكانت لى تجربة شخصية أذهلتنى، فبعد دخولى الأهرام بأسابيع فوجئت بأن الأستاذ هيكل رشحنى لحضور مؤتمر مهم فى سويسرا، وفوجئت أكثر عندما علمت أن حضورى هذا المؤتمر لم يكن بصفتى صحفيا يغطى أخبار المؤتمر، بل بصفتى عضوا مشاركا فيه.!
وبعد ذلك لم أدهش عندما علمت أنه عقد اتفاقا مع كبريات الصحف البريطانية لإيفاد شباب الصحفيين فى الأهرام للتدريب فيها لمدة ثلاثة شهور، وكان رأيه أن الاحتكاك بنماذج من الصحفيين فى الغرب، والحياة داخل مؤسسات صحفية، أفضل وسيلة لجعل الأهرام نموذجا للصحافة الحديثة ويعايش العصر.. وبالإضافة إلى ذلك فإنه جعل الأهرام جامعة حقيقية حيث أتاح للصحفيين الشبان فيه الالتقاء بكبار المفكرين والصحفيين والسياسيين ورؤساء الدول الذين كان يستضيفهم فى الأهرام.
***
مع أى تيار سياسى كان يقف هيكل وقاد الأهرام إليه؟.
الملاحظ أن هيكل جمع فى الأهرام كتاباً وصحفيين من التيار الماركسى, ومن التيار المحافظ التقليدى, ومن التيار الليبرالى, ومن التيار القومى الاشتراكى, وممن كانوا ينتمون إلى أحزاب ما قبل الثورة, ولكنه كان -بالطبع- يمثل التيار السياسى الذى يقود مصر فى عهد عبد الناصر, بل كان واحداً من صناع هذا التيار, إلى الحد الذى جعل البعض يرى أنه أصبح الرجل الثانى بعد عبد الناصر, وكان ذلك سبباً فى مشاكل ومكائد كثيرة سيأتى ذكرها فيما بعد.
ومع أنه كان الممثل للتيار السياسى الحاكم, وكان البعض يقول: إنه ظل لعبد الناصر, والبعض الآخر يقول: إنه الرجل الثانى فى الدولة, ووصل الأمر إلى الحد الذى جعل أنيس منصور يقول إن عبد الناصر من اختراع هيكل..! لكن ذلك لم يمنعه من أن يكتب مقالات فيها نقد للأوضاع السياسية والاجتماعية.. ولم يكن ذلك جديداً, فقد بدأ هذا الاتجاه قبل دخوله الأهرام, وكان وقتها أيضاً قريب الصلة بالثورة وبجمال عبد الناصر, ومثال ذلك المقال الذى كتبه فى آخر ساعة فى عدد الأربعاء 15 مارس 1953.. وهو رئيس التحرير.. بعنوان (حديث صريح عن صحافة مصر) وتضمن المقال مواجهة صريحة لأوضاع الصحافة بصورة لم يسبق لها مثيل, وقال فيه:
الحقيقة أن الصحافة المصرية لم تتعود على أن تطل الحقيقة بين سطورها, ذلك أننا -نحن الصحفيين- نملك الزر الذى نضغط عليه مرة فتتجه الحقائق بمنتهى البساطة لتنام فى سلة المهملات, أو نضغط عليه مرة أخرى فتجرى الأكاذيب بمنتهى الجرأة لتصبح سطوراً سوداء على الورق.. إن هوة عميقة من الشكوك بدأت تفصل بين الرأى العام وصحافته.. إن أحد المسئولين وجد أسماء عدد كبير من الصحفيين فى كشف المصاريف السرية فى أكثر من عهد من العهود..
وبعد ذلك قال:
أين هى الحقائق.؟ وأين هو النقد الذى تنشره الصحافة المصرية الآن؟.. أنا أقول -ودعونا نكن شرفاء- إننى لا أجد فى معظم الصحف المصرية الآن من الحقائق, والتوجيه, والنقد, إلا بقايا ضائعة تائهة فى طوفان من الأكاذيب, والنفاق, والضعف, فإن تلمس بعضها الشجاعة يوماً, لم يخرج عن حدود اصطناع المجد الشخصى الرخيص, والبطولات الزائفة..
وانتهى المقال بهذه السطور:
1- أوقفوا المصروفات السرية للصحفيين إذا كانت باقية لم تلغ.
2- انشروا كشوف المصاريف السرية فى كل العهود الماضية .
3- ألفوا لجانا قضائية لفحص حسابات جميع الصحف لنعرف مصادر تمويلها.
كتب ذلك وهو فى أخبار اليوم! وهو رئيس تحرير آخر ساعة. وهو من أقرب الناس إلى جمال عبد الناصر..
وأحدث هذا المقال ردود فعل عنيفة إلى حد أن طالب بعض أعضاء مجلس نقابة الصحفيين بإحالته إلى لجنة تأديب، وبالفعل تحددت جلسة 26 أبريل 1953 لمحاكمته، دون أن يسبق ذلك تحقيق أو استجواب أو سؤال كما ينص القانون، وكانت هذه أول دعوى من نوعها ترفعها نقابة الصحفيين ضد صحفى منذ صدور قانون نقابة الصحفيين سنة1941.
وقالت النقابة فى مذكرتها إن مجلس النقابة لم يتول التحقيق فى هذا الموضوع بالذات نأيا منه عن أية شبهة فى قضية وضع الكاتب نفسه طرفا فيها، ووضع الصحافة ونقابتها طرف خصومة، ومجلس النقابة ينزل عن حقه مختارا.
وكان أحمد لطفى حسونة هو محامى أخبار اليوم، وقدم مذكرة إلى مجلس التأديب- محفوظة فى أرشيف أخبار اليوم - قال فيها:
ما كنا نظن أن الثورة الجامحة الحاسدة تدفع المجلس إلى هذا التجنى، فالمقال لم يزلزل الأرض ولا السماوات، وهو دعوة صريحة إلى الجد بعد حياة الذل الطويلة، ودعوة صريحة إلى حرية الصحافة وتنزيهها عن التملق والرياء ومسح أعتاب الحاكمين..والمقال قبل ذلك وفوق ذلك لم يمس أحدا.
وتعليقا على ذلك كتب هيكل مقالا فى أخبار اليوم.. وليس فى آخر ساعة.. فى عدد 18 أبريل 1953 بعنوان( أحالونى إلى مجلس تأديب ) قال فيه: ( لقد كتبته حديثا صريحا عن صحافة مصر، ووضعت أمامى وأنا أكتبه عدة أسس لم أخرج على حدودها أبدا:
أولها- اعتزازى بشرف المهنة وكرامتها.
وثانيها- إيمانى المطلق بحرية الصحافة.
وثالثها- أن الطريق إلى الجدية هو مواجهة الحقائق برجولة، وعزة، وأن واجب الصحافة فى مراقبتها لنفسها لا يقل عن واجبها فى مراقبتها للناس.
ورابعها- أننى لا أتهم أحدا بالذات، ولا أسمح لنفسى بأن أوجه اتهاما إلى أحد بالذات.
وختم المقال بقوله: ( إنما من أجل شرف المهنة وكرامتها ثرت )
هذه القصة تكشف عن جوانب مهمة فى شخصية هيكل.. أولا حرصه على الكرامة لنفسه وللصحفيين وللصحافة.. وثانيا ممارسته لحرية التعبير وحرية الرأى إلى حد كشف المستور من خفايا الصحافة والصحفيين، وهو طبعا يعلم الكثير عنهم ويعلم أن فتح ملفات المصاريف السرية سوف يفتح عليه النار.. وثالثا أن مهاجمته لمن كانوا يتقاضون أموالا من المصاريف السرية تدل على أنه لم يكن واحدا منهم، رغم أنه كان يستطيع أن يكون على رأسهم بسهولة ويقبض الكثير، ولو كانت على رأسه بطحة أو كان بيته من زجاج ما كان يجرؤ على أن يقذف الآخرين بالطوب..!
***
وواصل المعركة.. كتب فى آخر لحظة مقالا يوم22 ابريل 1953 بعنوان
(بقية الحديث عن صحافة مصر.. أين هو مجلس التأديب الذى أحالونى عليه)؟.. قال فيه: (أريد أن أقف أمام هذا المجلس لكى أكرر كل حرف قلته فى المقال الذى أحلت بسببه إلى مجلس التأديب.. وأزيد عليه ) .
وانتهت المحاكمة بأن حكمت محكمة الاستئناف بالبراءة مما نسب اليه بسبب المقال، ونشر خبر حكم البراءة فى جريدة الأخبار يوم 3 يوليو 1953.
وعقب صدور الحكم نشر مقالا فى آخر ساعة فى عددها الصادر يوم 8 يوليو 1953 بعنوان ( 6 تهم أمام مجلس التأديب ) بدأه بسرد التهم التى وجهتها النقابة إليه، وأعاد بعض فقرات من مقاله الذى كان موضوع المحاكمة، وفقرات من مقال آخر لحظة، وأضاف اليها قوله: ( لقد قلت إن أحد المسئولين قال لى إنه دهش حينما اطلع على كشف المصروفات السرية فوجده يضم اسماء عدد كبير من الصحفيين، والكارثة أن هذا المسئول الذى تحرجت من ذكر اسمه فى آخر ساعة، كتب الواقعة فى مجلة أخرى غير آخر ساعة، ثم وضع اسمه تحتها صراحة وبدون مواربة، وكان هو بنفسه البكباشى جمال عبد الناصر..
ثم كرر بعد ذلك فقرات من مقاله فى آخر لحظة يقول فيها :
(إن هناك محاولة رخيصة لصنع آلهة لا يريدون هم أنفسهم أن يؤلههم أحد)
ويختم المقال بتكرار المطالب الثلاثة التى ذكرها فى مقاله الأول بوقف المصاريف السرية للصحفيين، ونشر كشوف المصاريف السرية فى كل العهود الماضية، وتأليف لجان قضائية لفحص حسابات جميع الصحف لمعرفة مصادر تمويلها.
وما أشبه الليلة بالبارحة.!
***
لم يكن هيكل - كما قال البعض - يطلب السلامة، أو يهادن،فقد اثار عليه موجة من العداء من كبار وصغار الصحفيين الذين كانوا يتقاضون أموالا من المصاريف السرية، ومن غيرها من جهات، وفهموا أن هيكل اطلع على أسرارهم وعرف خفاياهم، وأصبحوا مكشوفين ليس فقط أمام قادة الثورة، بل أمام الرأى العام أيضا، وسقطت الهالة التى كان بعض الصحفيين الكبار يضعونها على رؤوسهم ويصورون للناس أنهم أنبياء الوطنية والرعاة الأول للشرف والنزاهة والكرامة.. ولم ينس له هؤلاء ذلك أبدا.. وربما يكون قد دفع الثمن مؤجلا فيما بعد عندما حانت لهم الفرصة للانقضاض عليه والنيل منه.. ولكن هيكل هو هيكل !
***
بعد ذلك شن معركة على السياسة الأمريكية فى وقت كان عملاء وأنصار أمريكا كثيرين فى الصحافة وفى المجتمع المصرى، وخاض معركة لنقد اوضاع الحكم فى بعض الدول العربية مطالبا بالتحديث؛ لأن نهضة الأمة العربية لن تتحقق الا اذا تغيرت احوال كل الدول العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا؛ لتكون نهضة حقيقية يمكن بعدها تحقيق الوحدة التى تمثل حلم الشعوب.. وخاض معركة ضد سياسات الاتحاد السوفيتى؛ لأن المفروض أنه نصير دول العالم الثالث لكنه لا يقدم الدعم الكافى لدول العالم الثالث ومنها مصر.
وكانت أكبر معاركه عندما كتب سلسلة مقالات وجه فيها نقدا شديدا للاتحاد الاشتراكى وأسلوب العمل فيه وسيطرة مجموعة محدودة عليه وغياب الديمقراطية الحقيقية فى داخله، وأثارت هذه المقالات عليه ثائرة على صبرى الذى كان مركز قوة ولا يستطيع أحد الاقتراب منه، وطلب المكتب السياسى من جمال عبد الناصر أن يستدعى هيكل للتحقيق معه، وفعلا ذهب إليهم وخرج منتصرا!
ودخل عش الدبابير عندما نشر مقالات عنيفة فى نقد ممارسات المخابرات فى عهد صلاح نصر، وكانت هذه جرأة غير مسبوقة، ودفع ثمنها لفترة طويلة وبأساليب مختلفة كان آخرها إطلاق رصاصتين على باب الأهرام قبل أن يخرج منه بلحظات، وقيل إن الفاعل مجهول، وقيل أيضا إن الرصاصتين هما رسالة إليه لا يخفى عليه مصدرها ومضمونها.
ومن أكبر معاركه الحملة التى خاضها فى نقد ممارسات وإجراءات لجنة تصفية الإقطاع التى كان يرأسها المشير عبد الحكيم عامر بكل ما كان له من نفوذ وقوة، ولم تمر هذه الحملة بسلام، ومع ذلك لم يتوقف.. وعموما فإن معارك هيكل موضوع طويل قد تتاح الفرصة للحديث عنها.
***
ما هو بالضبط الموقع الفكرى الذى يمكن تصنيف هيكل على أساسه.؟
وأين كان انتماؤه الطبقى . ؟
تختلف الآراء ..
البعض يقول إن هيكل ليبرالى، وعندما عينه عبد الناصر وزيرا للإرشاد اعتبروا ذلك انتصارا للجناح الليبرالى، وعبرت عن ذلك صحيفة الزمان اللبنانية مثلا فى تحليل نشرته يوم 4 نوفمبر 1970 فقالت : ( يعتقد المراقبون الدوليون أن مجىء هيكل إلى الحكم يعنى إبراز الجناح الليبرالى فى الحكم المصرى، ويصنف المراقبون الليبرالية المصرية بأنها تهدف إلى التحرر من الأفكار المجردة والنظريات العامة والعقائد الجامدة، لتعالج الواقع، لذلك كان الجناح الليبرالى فى مصر- والذى يعتبر هيكل أحد أبرز رجاله - أول من طرح الشعار الذى انقسم حوله اليسار العربى بعد الهزيمة، وهو:أيهما أهم: الدفاع عن الوطن أم الدفاع عن النظام ؟ وأكدت مصادر مصرية مأذونة بأن الجناح الليبرالى المصرى ليس يمينيا بالمعنى الرجعى، أو بالمعنى المتداول عند الثوريين النظريين، ولكن هذا التيار اذا لم يستطع السيطرة على نوازعه ولم تكن لديه القدرة على امتلاك زمام الأحداث، من الممكن أن يصبح يمينا متطرفا).
وأعتقد أن من الممكن اعتبار هيكل ليبراليا، ولكن الليبرالية عنده ذات بعد اجتماعى واضح، فهو بالفعل ليس ليبراليا تقليديا، فقد كان منحازا للثورة، بل كان أحد أركانها، وربما يكون العقل المدبر لكثير من السياسات والإجراءات،ويكفى أنه هو الذى تولى صياغة الميثاق الوطنى (مانفيستو الثورة ) وبيان 30 مارس الذى كان بمثابة ( عقد اجتماعى ) بين عبد الناصر والشعب فى أعقاب هزيمة يونيو 67. ثم إن هيكل كان وراء قرارات يوليو الاشتراكية والمفسر لها والمدافع عنها..
وهناك من يعتبره ممثلا لقوى اجتماعية متخلفة كما قال د. فوزى منصور فى مقال كتبه فى الجمهورية يوم 2 أبريل 1971 - بعد رحيل عبد الناصر - وأشار فيه إلى هيكل - بالتلميح وليس بالتصريح - فى معركة ثارت فى أعقاب مقالات هيكل عن إمكان تحييد أمريكا فى الصراع العربى الإسرائيلى، وقال: هناك قوى اجتماعية ( غير القيادة ) لا تزال بقاياها وامتداداتها قائمة فى مجتمعنا تتمنى على الولايات المتحدة الأمانى.
والذين يتصورون أن هيكل ينتمى فكريا إلى المجتمع الطبقى الذى كان قائما قبل الثورة يستشهدون فى ذلك بعلاقاته مع الباشوات وزعماء الأحزاب،واستمرار صداقاته معهم حتى بعد الثورة، وزواجه من ابنة باشا من باشوات القصر رغم أن الزواج تم بعد الثورة وبحضور جمال عبد الناصر، ويستشهدون أيضا بأسلوبه فى الحياة الذى يشبه أسلوب اللوردات الإنجليز، ويستشهدون بأنه كان يدخن السيجار من كوبا فى وقت لم يكن المصريون يجدون فيه الضروريات..
وأذكر أننى قلت مثل هذا الكلام لكاتب كبير آخر هو لطفى الخولى، كان يعيش عيشة برجوازية بينما هو شيوعى دخل المعتقلات بسبب انتمائه الشيوعى، وكتاباته كلها دعوة لليسار، وصداقته مع المفكرين والسياسيين الاشتراكيين فى العالم معروفة، وهو أيضا يدخن السيجار الفاخر، فقال لى وهو يضحك:
أنا اشتراكى الفكر.. برجوازى السلوك !
وأظن أن ذلك ينطبق على هيكل ، وهو لا يخفى شيئا من سلوكه البرجوازى،
فهو يعيش عيشة لورد، وله ضيعة ريفية فى برقاش، ويلعب صباح كل يوم الجولف فى نادى الجزيرة، ويركب سيارة مرسيدس حتى بعد خروجه من الأهرام، ولا يقود سيارته، وفى بيته موظفون يعملون فى سكرتارية مكتبه، ولديه فيلات فى الغردقة والساحل الشمالى.. وينزل فى أوربا وأمريكا فى الفنادق التى ينزل فيها الملوك وقد ازداد بعد خروجه من الأهرام، وأصبحت كتبه ومقالاته التى ينشرها فى بريطانيا واليابان وتترجم إلى كل لغات العالم تدر عليه دخلا كبيرا.. وكان ذلك أيضا موضع حسد وحقد شديدين.. فى مرة قال إن الناشر البريطانى لكتبه ومقالاته قال: إن الصحف البريطانية تدفع له ثلاثة دولارات عن كل كلمة، فشن عليه موسى صبرى حملة شعواء بسبب ذلك.
وبمناسبة السيجار الذى كان يستفز بعض زملائه من كبار الصحفيين، يقول إنه ذهب إلى البيت الأبيض على موعد لمقابلة الرئيس جون كنيدى، وقيل له إن دخول سيجار من كوبا فى البيت الأبيض ممنوع ويمكن أن يسبب أزمة ويؤدى إلى إفساد المقابلة مع الرئيس، ولكنه ذهب وفى جيبه عدد منها، وأثناء المقابلة قدم له كنيدى علبة السيجار وأعطاه واحدة، لكن هيكل قال له بأدب: أنا معتاد على هذا السيجار وأخرج سيجارا كوبيا وأشعله بينما أشعل كنيدى سيجارا من العلبة وقال لهيكل:
- هل تعرف أن وجود هذا السيجار فى البيت الأبيض جريمة؟
فقال له هيكل : نعم أعرف.
وبعد لحظة تسللت رائحة السيجار الكوبى إلى أنف الرئيس كنيدى
فقال لهيكل :
- هات واحدا ..
ثم قال له :
- هل تعرف أن ذلك يمكن أن يؤدى إلى طردى من البيت الأبيض؟!
***
وليس من الصعب تصنيف هيكل فهو وطنى، ليبرالى ينتمى إلى التيار الاجتماعى، ولم يدافع أبدا عن القوى المتخلفة أو عن الأفكار الرجعية حتى قبل الثورة.. بل كان يساند الثورات فى إيران أيام ثورة مصدق، وفى غيرها.. وهو ينتمى إلى فكر ثورة يوليو بل هو من أهم صناع هذا الفكر، وفى نفس الوقت هو براجماتى، ليس صاحب أفكار ومواقف جامدة، ولأنه يجيد فهم التغيرات العالمية فإنه يطور أفكاره ومواقفه، وهذا هو سر حيويته واستمراره، فهو قادر على التعامل مع الظروف المتغيرة والتجاوب معها وقيادتها!
فى نفس الوقت هناك من يرى أنه يمثل اليسار، وفى تقرير كتبه عبد الحميد الأحدب لصحيفة (لسان الحال) اللبنانية نشرته فى 3 أغسطس 1969 قبل رحيل عبد الناصر قال إن هيكل دون شك هو الممثل لليسار المصرى والعربى. وزكريا نيل الذى عمل مبكرا مع هيكل فى الأهرام له كتاب صدر عام 1972 بعنوان (أسرار سياسية) قال فيه: (إن هيكل أحد الرواد الثوريين من أصحاب الفكر والقلم والرأى الذين ساروا على درب الحرية والالتزام والتفتح بإرادة قوية وروح عالية وإصرار).
وهناك من يرى أن هيكل كان يدافع عن الاشتراكية وهو فى الحقيقة ليس اشتراكيا، وعبرت عن هذا الرأى صحيفة النهار اللبنانية فى مقال كتبه توفيق وهبة فى عدد 22 سبتمبر 1971 قال فيه: (إن هيكل يتجاهل عن عمد بعض المسائل الداخلية الشائكة، فهو لا يتحمس لعقيدة معينة، فالتأميم، والإقطاع، والبرجوازية، والنظام البرلمانى، وأشكال الحكم، والدستور، وعلاقة رأس المال بالعمل، والنقابات وما إلى ذلك موضوعات لا تستهويه إلا لماما، وقد وقف قلمه على قضية فلسطين، والاحتلال، والحرب، والقتال).
وأعتقد أن ذلك أمر طبيعى لكل كاتب، فليس المفروض أن يكتب الكاتب فى جميع القضايا، وهيكل من الذين أرسوا مبدأ التخصص فى الصحافة المصرية، كما أن القضايا التى كتب فيها كانت القضايا الساخنة بل كانت قضايا المصير!
وصلاح حافظ كتب قبل ذلك فى روز اليوسف فى عدد 22 أغسطس 1967 ينتقد تناول هيكل للديمقراطية ويقول: (إن رئيس تحرير الأهرام جاء يطرح قضية تطوير الديمقراطية، فإذا به يركز الضوء على ما تشكو منه الطبقات التى ضربت الثورة مصالحها، وجعل نقطة البدء توفير ضمانات قانونية لهم تقيد تصرفات السلطة الاشتراكية ضد الذين تخاصمهم أو يخاصمونها) وهكذا كان الاتهام لهيكل أنه طالب بمراعاة الحقوق القانونية والإنسانية لمن اختلفت معهم الثورة، ولعل ذلك يكون الرد على الذين قالوا إنه كان صوت السلطة فى الحق والباطل. وفى الصواب والخطأ، وهم الآن يهاجمون ممارسات لجنة الإقطاع والاعتقالات والسجن الحربى وحمزة البسيونى بعد أن انتهى ذلك العهد، بينما كان هيكل يهاجمه أثناء وجود أصحاب هذه الممارسات فى السلطة.. وقد يكون ذلك دليلا على انحياز هيكل لفكرة حقوق الإنسان مع من كانوا يسمون أعداء الثورة.. وهذه الآن تحسب له.. وكانت وقتها تحسب عليه!
***
والذين يتهمونه بأنه ليس اشتراكيا يستندون إلى أنه طالب بأن يكون التأميم والتطبيق الاشتراكى فى حدود القانون، وليس خضوعا للهوى والنزعات الفردية، وطالب بحق كل مواطن بأن يعرف ماذا يمكن أن يحدث له غدا، وكان هيكل يطالب بذلك لحماية الثورة من أن تتحول إلى عملية انتقام وتصفية حسابات مع رجال (العهد البائد) وعائلاتهم، ولحماية المواطن المصرى-أيا كان-من أن يعاقب على جريمة لم يحددها قانون، أو أن تتخذ ضده إجراءات غير منصوص عليها فى قاعدة عامة.. فهو إذن لم يدافع عن الاعتقالات.. ولم يهلل لإجراءات الحراسات التعسفية والتصرفات غير القانونية وغير الإنسانية التى كانت تقوم بها لجنة تصفية الإقطاع. بل كان يهاجمها فى عز عنفوانها، وتسبب ذلك فى مشاكل بينه وبين المشير عبد الحكيم عامر رئيس لجنة تصفية الإقطاع والمشرف على السجن الحربى.. لأنه كان يطلب تقنين الثورة وسيادة القانون فى وقت كان فيه تيار قوى يرفع شعار القانون فى إجازة.
***
والبعض قال إن هيكل هو رجل المخابرات الأمريكية فى مصر، وصحيفة (لسان الحال) اللبنانية ذكرت آراء هؤلاء فى مقال كتبه ميشال الحلوة فى عدد 29 أبريل 1970 بعنوان (الرياح الأربعة) قال فيه: (يقول مايلز كوبلاند رجل المخابرات الأمريكية البارز فى الشرق الأوسط صاحب كتاب (لعبة الأمم ) إن محمد حسنين هيكل الصحفى الذى كان محررا فى الدار الصحفية التى يملكها مصطفى وعلى أمين، مع وليام ليكلاند المستشار السياسى الأول فى السفارة الأمريكية فى القاهرة، كانا فى بداية الثورة هما حلقة الاتصال بين الثورة المصرية والحكومة الأمريكية. ومنذ ذلك الحين بات هيكل أقرب المقربين إلى الرئيس جمال عبد الناصر، كما بات أقرب الناس فهما للعقلية الأمريكية وأساليب السياسة الأمريكية)!
وصحيفة (الحرية) اللبنانية قالت عنه (هو رجل الحوار مع أمريكا وذلك فى عدد 5 أبريل 1970 ) وصحيفة (الدنيا اللبنانية) فى عدد 16 ديسمبر 1970 نقلت عن صحيفة (الثورة العراقية) أن هيكل عميل لوكالة المخابرات الأمريكية.. وسألته صحيفة (لسان الحال) اللبنانية ونشر إجابته فى عدد 17 ديسمبر 1970 التى قال فيها: (إن إهانتى من صحيفة الثورة العراقية شرف لى، وهو أمر يستحق السخرية ).
وحسين عبد الرازق كتب فى الجمهورية عدد 21 أغسطس 1967 مقالا بعنوان (رد على رئيس تحرير الأهرام) قال فيه: (إن كل الذين اشتركوا فى مناقشة آراء هيكل، لا يخافون التهديد بالتجريح أو تقليب صفحات الماضى، بل لعلهم فى شوق غامر إلى وقت يتاح لهم فيه فتح صفحاتهم وصفحات غيرهم قبل وبعد 1952 ونشرها على الملأ كاملة). وقد نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط هذا المقال ونشرته الصحف العربية وخصوصا الصحف اللبنانية مثل (النهار والأنوار) يوم 22 أغسطس 1967.
ومثل هذه التلميحات التى تنطوى على اتهامات لم يقدم أصحابها دليلا أو قرينة أو شبهة، لا يمكن أخذها مأخذ الجد، وفى العالم الثالث تكون أسهل تهمة هى تهمة الخيانة والطعن فى الوطنية، والخلافات غالبا تنحرف من خلافات على أفكار ومواقف إلى خلافات شخصية تستسهل الطعن فى الآخر، ويتحول العداء للفكرة إلى عداء لصاحبها.
وأقوى دليل على كذب هذا الاتهام الذى روج له البعض بحماس أنه بعد رحيل عبد الناصر، وبعد أن غضب السادات على هيكل وألقاه فى السجن فى اعتقالات 5 سبتمبر الشهيرة، وقاد الرئيس السادات حملة تشهير على هيكل لم يجد سوى أن هيكل يدعى أنه صديق الرؤساء، وأنه يظن نفسه مشاركا فى الحكم، و.. و.. ولم يكن بين هذه الاتهامات تهمة الاتصال بالمخابرات الأمريكية رغم أن كل الحقائق والوثائق والأسرار كانت تحت يد الرئيس السادات، وكان يهمه تشويه هيكل خاصة بعد أن ثارت الصحافة العالمية بسبب اعتقاله.
وعموما فإن هذا الاتهام لم يصدر إلا من الذين كانوا يحقدون على هيكل حقدا شخصيا، وكلهم كانوا بعيدين عن مطبخ السياسة المصرية وليس فيهم من يعلم الأسرار وبواطن الأمور.. وما أسهل إلقاء التهم جزافا على رجل اتخذ مبدأ يعلمه الجميع بأنه لن يرد على من يهاجمونه، ويقول لو شغلت نفسى بالرد على كل تهمة وكل هجوم فسوف أضيع حياتى فى الرد ولن أجد وقتا لشىء آخر!
***
وزكريا نيل يصنف المواقف المختلفة من هيكل على النحو التالى: الثوريون الناصريون يهاجمونه ويتهمونه بأنه يوقع الجماهير العربية فى تناقضات، وخاصة بعد حرب الأيام الستة.. والثوريون المتطرفون يرون فيه ذروة الفكر الثورى والوطنية العاقلة، وأنه عندما يحرك قلمه تتحرك معه الجماهير لتستكشف معه مواقع تجار السياسة والمضللين ونظم الحكم المتعفنة التى تكتم أنفاس الجماهير، وهؤلاء لا يلبثون أن يحملوا عليه بعنف إذا خفف من حملاته على أعداء التحرر فى الوطن العربى.. والاستقلاليون فى الرأى ممن لا يدينون بمذهب عقائدى يعجبون به مجرد إعجاب بكاتب مقتدر. والعقلاء ممن يرقبون مسيرة الأحداث فى الوطن العربى يرون أن قلم هيكل أشبه بمبضع طبيب يتناول به مواطن الداء).
تعريف فيه خلط واضح، لأنه لم يحدث أن هاجم الثوريون الناصريون هيكل، وهو المعبر عن الفكر الناصرى، ولم يحدث أن أعجب به الثوريون المتطرفون لأنه ببساطة ليس منهم، ولأنهم متطرفون فإنهم لا يرضون إلا عمن ينتمى إليهم كلية، ومن الغريب أن يرى زكريا نيل أن الناصريين وجدوا فى فكر هيكل تناقضات لم يرها غيرهم، ثم ينتهى إلى أن العاقلين هم الذين يتفقون مع هيكل هم والمتطرفون.. كيف؟ وهو يفرق بين العقلاء وبين الاستقلاليين فى الرأى ويوحى فى كلامه بأن الناصريين والثوريين المتطرفين والاستقلاليين ليسوا جميعا من العقلاء، وهذا التصنيف غريب فى الفكر السياسى.. وما أكثر من قالوا وقيل عن هيكل!
***
ويقول جوردون بروك شبرد : إن هيكل من ذلك الطراز النادر.. وطنى مصرى، ولكنه لا يصل فى غلوه إلى حد العدوانية وكراهية كل ما هو غير مصرى، وقد أحسست على الفور بأن له تأثيرا حقيقيا فى سبيل التقدم والديمقراطية أينما، وكلما كانت قابلة للتطبيق على مسرح السياسة المصرية المتوتر.
وأظن أن هذا كلام أقرب إلى الصحة.
أما هيكل فيقول عن نفسه فى كتابه (عبد الناصر والعالم):
وأما ظروفى الشخصية فإنى أعرف أنها دقيقة، ذلك أننى تعرضت لليمين الرجعى فى العالم العربى، كما تعرضت لليسار المغامر فيه، وليس يهمنى أن أحصل على رضا أيهما، وقد اعتبرت، وما زلت أعتبر، أن هذا الرضا شرف لا أسعى إليه.. ووسام ليس بين أحلامى أن أعلقه على صدرى) وهو يتحدث عن موقفه الفكرى والطبقى فى حديث نشرته صحيفتا (الأنوار والصياد) فى لبنان يوم 9 يونيو 1971 فيقول:
(أعرف أن كثيرين وضعونى فى خانة اليمين وارتاحوا، ولكن هذا لا يمنعنى من إعلان رأيى بضرورة إعادة النظر فى المعانى التقليدية لليسار واليمين بعدما تخطاها عصرنا المذهل.. وحتى لو اعتمدنا المفهوم القديم فأنا يسارى بمعنى أننى وطنى، لأن الوطنى لا يمكن إلا أن يكون يسارا، وكل وطنى لابد أن يلتزم-اجتماعيا- مع اليسار.. ويستكمل بتحديد موقفه من الناصرية فيقول: الناصرية باختصار شديد هى: استقرار السلطة فى يد تحالف قوى الشعب العامل، وملكية هذا التحالف للموارد الاقتصادية، والانتماء لمعسكر التحرر العالمى، والعداء للاستعمار، والانتماء العربى).
هذا هو هيكل.
***
ومن هم معارضوه ؟
فى الأهرام عدد 18 أغسطس 1967 يصنف هيكل معارضيه فى ثلاث فئات:
1- الذين يتقاضون أجورهم كى يرددوا ما تلقنوه.
2- الذين فتحوا للوطنية محلات بيع وشراء.
3- الذين ينتهزون فرصة نكسة لتحقيق أمانيهم.
والحقيقة أن هيكل تعرض لما لم يتعرض له أحد فى مصر من هجوم، وافتراءات، ويبدو أنه كان على وعى بأن ما وصل إليه من مكان ومكانة لابد أن يثير عليه ثائرة كثيرين، وهذه طبيعة البشر على أية حال، فكل ناجح يتجمع عليه الفاشلون ليحبطوه ويسيئوا إليه وهم-ربما- على قناعة بأنهم كانوا الأحق منه والأجدر.
وعموما : ليس من الموضوعية أن نصدق من يقول إن هيكل يحسب على تيار اليمين المحافظ، لأنه- على العكس- كان دائما داعية للتغيير والتطور، وناقدا للحاضر، ومبشرا بما سيأتى به المستقبل،وناقدا للداعين إلى التمسك بالأوضاع القائمة على أنها غاية ليست بعدها غاية، ومحاربا لأصحاب الدعوة للعودة إلى الوراء، والمطالبين باستعادة الماضى على أنه الفردوس المفقود، كذلك لا أظن أنه كان يوما نصيرا للقوى الاجتماعية الرجعية، أو للطبقة المستبدة المسيطرة على مقدرات الشعب.. أما الاتهام الذى يحلو للبعض أن يثيره بأنه كان رجل المخابرات الأمريكية مستشهدين فى ذلك بكتاب مايلز كوبلاند فهذا أقرب إلى الخداع، فهيكل لــم يكــن يعمــل ويتحــرك بعـــيدا عـــــن عــــين عبد الناصر ورجاله، ولو كان يوما على صلة بالمخابرات الأمريكية لكانوا رصدوه وقدموه صيدا ثمينا لعبد الناصر كما فعلوا بغيره.. وما أكثر الاتهامات المرسلة التى تلقى من أشخاص ليسوا على علم بالأسرار الخفية أو الظاهرة، ويسهل عليهم تأليف تهمة يقذفون بها الناس بغير حق.. وفى النهاية لا يصح إلا الصحيح.. والمثل الصادق هو الذى يقول إنك قد تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت ولكنك لا تستطيع أن تخدعهم كل الوقت.. وها هو ذا هيكل.. وها هى ذى ملفات المخابرات الأمريكية مفتوحة بعد زوال السرية عنها بمضى المدة.. فأين دليلكم؟
***
إن كان من الضرورى تصنيف هيكل فى إطار التصنيفات التقليدية أعتقد أنه ينتمى إلى اليسار الوطنى القومى المعتدل.
هيكل ليس من أنصار أنصاف الحلول، ولا من أنصار تمجيد الماضى. أو تجميد الحاضر، بل هو رجل التجديد والدعوة والتحرك إلى الأمام، وتطوير المجتمع، والتفكير والعمل من أجل المستقبل.
وهو مؤمن بالعلم، وبالمنهج العلمى، ويطبق ذلك على نفسه، ويتبدى ذلك فى كتاباته، وبعد إنهاء مرحلة أخبار اليوم أصبح يكتب بمنطق، وبمنهج علمى، وبعقلانية، ولا يقفز إلى النتائج إذا لم تكن ناتجة بالضرورة عن مقدمات صحيحة.
وهو متفائل، يؤمن بأن الغد أفضل إذا عملنا من أجله وسرنا إليه على الطريق الصحيح، ولكنه عندما يصطدم بواقع لا يدعو للتفاؤل يغلب الحقيقة ويقول الحق ويتحمل نتائجه.
وهو معتدل وواقعى لا يؤمن بالحلول الجاهزة للمشاكل، ولا يستعير أفكار الإصلاح أو يستورد نظريات من الخارج يطالب بتطبيقها فى المجتمع دون أن يراعى اختلاف الظروف ودرجة التطور وقدرات الناس.. فهو يفكر تفكيرا عمليا، بمعنى أنه لا يكتب عن أحلام بعيدة أو مستحيلة التحقيق، ولكنه يكتب فى حدود الممكن، وهو مؤمن بالانفتاح الفكرى والثقافى والاجتماعى، وهو نفسه النموذج العملى لذلك، فهو مع فتح النوافذ على العالم والحوار مع كل الاتجاهات والمذاهب، والتفاعل مع التطور فى الفكر والسياسات لكيلا نهمش أنفسنا أو ننغلق على ذاتنا ونفقد أهم ما يميز الأحياء.
والبعض يرى أنه الممثل للفكر الناصرى.. وهذه قضية تحتاج إلى مناقشة بالتفصيل لأن الناصرية ليست مذهبا سياسيا واجتماعيا تبلور فى شكله النهائى مثل النظرية الماركسية مثلا، ولكنها تيار سياسى.. اتجاه فى الفكر والعمل يدعو إلى التحرر من التبعية والاستعمار.. وإلى العدالة الاجتماعية.. وإلى القضاء على الاحتكار والإقطاع وسيطرة طبقة واحدة على مقدرات المجتمع.. وإلى الوحدة العربية.. إلى غير ذلك من الأهداف.. هى أهداف.. أما كيف يكون الوصول إليها.. فهذا متروك للظروف الدولية والداخلية.. الوسائل فى أيدينا.. وكلما وجدنا طريقا يمكن أن يؤدى إلى هذا الهدف علينا أن نسير فيه. الأهداف ثابتة والوسائل متغيرة، وهذا شىء مختلف عن المذهب السياسى بمعناه الدقيق.
الناصرية ليست فكرا جامدا، ولكنها فكر حى متحرك ومتطور.. وعلينا أن نتذكر أن عبد الناصر لم يبدأ اشتراكيا، ولكنه بدأ بالوسائل الرأسمالية.. بدعوة الرأسمالية الوطنية لتحقيق مشروعه فى التنمية، فلما وصل إلى أن الرأسمالية فى ذلك الوقت تريد أن تأخذ ولا تعطى، ولا يهمها التنمية ولا تطور المجتمع ولا بناء مستقبل، ومع وجود احتكارات أجنبية تعمل لنفسها وليس للبلد، وجد نفسه مضطرا للتأميم وتدخل الدولة لتمويل مشروعات التنمية وتحقيق عدالة التوزيع فى بلد الثروة فيه محدودة والسلع والخدمات فيه والناتج القومى كله لا يكفى سكانه.
عموما فإن قصة التحول فى فكر عبد الناصر وهل ما فعله كان تطبيقا للنظرية الاشتراكية أو لم يكن.. فهذه قصة تحتاج إلى فرصة أخرى.. وما يهمنا أن نقول: إن هيكل كان مؤمنا بالطريق الذى اختاره عبد الناصر سياسيا واجتماعيا، وكان يدعو إليه، بل كان هو الذى قام بالدور الأكبر فى الترويج والإقناع بفكر هذه المرحلة.. ومن هذه الناحية كان من أكبر الدعامات لنظام عبد الناصر.. كما كان من أهم العقول التى ساعدت على بلورة فكر عبد الناصر.
وبعد عبد الناصر بدأ هيكل مرحلة أخرى.
***
وهيكل ضحية لحملات كثيرة ظالمة.. وكما يقول هو: إن إحدى أزماتنا أن هناك رواة كثيرين، وروايات أكثر، لكن لا أحد يدقق، المشكلة أيضا أن أحدا لا يسجل، ويكتفى الجميع بالاعتماد على الذاكرة، والنتيجة أنهم فى كل مرة يتكلمون فيها عن واقعة أو رواية يضيفون جزئية صغيرة يحاولون بها تجميل صورة، أو تشويه صورة، وهذا عمل إنسانى مفهوم، ولكن مع الوقت واستمرار الحذف والإضافة تظهر الروايات عن الوقائع والأحداث فى صورة بعيدة عن الحقيقة، وليس لها علاقة بالواقع، وتصدر الأحكام بناء عليها.
ويضرب مثلا بما قاله حسين الشافعى نائـب رئيــس الجمهوريــة فـى عهدى عبد الناصر والسادات، فقد روى خلال عام 2002 وبعد أن أثرت السنون فى ذاكرته.. روايات فى إحدى القنوات الفضائية عن فترتى حكم عبد الناصر والسادات وصفها هيكل بأنها (غير مضبوطة) وذلك بسبب اعتماده على الذاكرة التى تأثرت بفعل السنين.
ويضرب مثلا ثانيا بنفسه، يقول: حتى أنا وقعت فى هذا الخطأ، فقد قمت بكتابة كتابين عن السويس، واحد اعتمدت فيه على الذاكرة فكانت الأخطاء فيه فظيعة؛ والثانى اعتمدت والتزمت فيه بالوثائق.
والوثائق هى سلاح هيكل الذى احتفظ به لنفسه واستخدمه فى الوقت المناسب ووجه به الضربة القاضية لكل من افترى عليه كذبا.
وهذه أيضا قصة أخرى..!
والحديث يطول عن هيكل.. فهو ظاهرة غير مسبوقة، ولم تتكرر على الأقل حتى الآن.. رجل جمع فى يديه خيوط الصحافة والسياسة معا، واقترب من أعلى قمة فى السلطة، وكان من الممكن أن يفقده الغرور توازنه.. ومع ذلك ظل محتفظا بتوازنه، وبرأسه بين كتفيه، ولم يقل أنا نصف إله!!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف