فى ذكرى 11 سبتمبر رؤية لأمريكا من الداخل
المفكر الأمريكى المشهور نعوم تشومسكى يوجه النقد بقسوة إلى من يتولون الفكر والسياسة فى الولايات المتحدة ويسميهم (حراس الأيديولوجية المهيمنة)، وينكر صراحة وجود ديمقراطية حقيقية فى الولايات المتحدة، ويعارض المجموعة المسيطرة على الإعلام ومراكز القرار الذين يؤمنون إيمانا أعمى بمبدأ القوة، وهم المسئولون عن سياسة الغطرسة والهيمنة والاستعلاء الأمريكية.
وله كتاب مهم بعنوان (تصنيع الرأى العام) يقول فيه: إن فى أمريكا هامشا للحرية ليس موجودا فى أى مكان فى العالم، ولكن هناك خطا أحمر ممنوع الاقتراب منه، فإذا وجهت نقدا إلى النخبة الحاكمة أو من أسميهم حراس الأيديولوجية المهيمنة، فإنك سوف تحرم من العمل فى مواقع معينة، فأنت فى أمريكا يمكنك أن تقول ما تشاء، وتوجه النقد كما تريد، ولكن عليك أن تعلم أن مستقبلك لن يتعدى وظيفة سائق لورى أو تاكسى أو ما شابه ذلك من الوظائف ولن تكون أبدا أستاذا فى الجامعة أو فى مركز قيادى فى الصحافة أو تجد فرصة للوصول إلى مقعد فى الكونجرس، وفى نفس الوقت لن يتم اعتقالك أو سحلك كما يحدث فى بلاد أخرى.. وعندما سئل: لماذا لم تتعرض للأذى وأنت معارض شديد البأس للسياسة الأمريكية؟ أجاب: بالنسبة لى، أنا حالة خاصة، فأنا رجل متقدم جدا فى العمر، والمجتمع الدولى يعرفنى ويقدّر إنجازاتى العلمية، ولذلك يمكنك اعتبار حالتى الاستثناء مع بعض الشخصيات الكبرى فى المجتمع الأمريكى التى تفرض وجودها.
وهو يقول أيضا: إن المواطن الأمريكى يعيش فى حالة عزلة تامة عما يجرى فى العالم من أحداث خارج الولايات المتحدة، وهو لا يهتم بمعرفة هذه الأمور إلا إذا كانت مؤثرة فى حياته بشكل مباشر وحاسم، فنحن فى أمريكا لا نعرف الكثير عن الشرق الأوسط، بل لا نعرف الكثير عن كندا وهى أقرب إلينا من غيرها من دول العالم.
ويقول إن النظام العالمى الجديد ليس سوى فرض للهيمنة الأمريكية أكثر مما هى عليه الآن، وفى مرحلة كانت أمريكا تسعى إلى الهيمنة تحت شعار محاربة الشيوعية، وبعد انهيار الشيوعية أصبحت الآن تسعى إلى الهيمنة تحت شعار محاربة الإرهاب.
والبعض فى أمريكا يصفون تشومسكى بأنه الأستاذ المتمرد، والبعض يحاربه علنا إلى حد أنه يجد صعوبة فى بعض الأحيان فى طباعة كتبه فيلجأ إلى طباعتها خارج أمريكا. ومنذ سنوات بدأ فى قراءة صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية كل صباح، ويختار منها بعض الأخبار والتعليقات والتصريحات ويحلل مضمونها بمنهج علمى، فيكشف ما فى الإعلام والفكر والسياسة فى الولايات المتحدة من الكذب والخداع، وهو يتابع عددا كبيرا من الصحف من مختلف دول العالم بنفس المنهج التحليلى المقارن، ويستنتج الحقائق التى يخفيها التضليل السياسى والإعلامى هنا وهناك، والذين يزورون تشومسكى يشعرون بالدهشة لأكوام الصحف والمجلات، ومن متابعته الدقيقة للبرامج السياسية المهمة فى محطات الإذاعة وشبكات التليفزيون، وقد وصفه الكاتب الأمريكى فريد جارندنر بأنه مفكر يملك فهما عميقا للتاريخ والسياسة الدولية المعاصرة وتبدو هذه القدرة النادرة فى كتابه (قراصنة وأباطرة).
***
وتشومسكى له مؤلفات فى اللغويات تعتبر من أكبر وأهم المراجع فى العالم وهو فى الأساس أكبر عالم لغويات، وفى نفس الوقت فإن له مقالات ومقابلات صحفية وتليفزيونية كثيرة جدا فى التحليل السياسى لأوضاع العالم، وللفكر السياسى الأمريكى بوجه خاص، وفى كتاب صدر بالعربية مؤخرا بعنوان (تواريخ الانشقاق) ترجمه محمد نجار ونشرته دار الأهلية فى الأردن تسجيل لمقابلات أجراها معه ديفيد بارساميان حول العلاقة بين اللغة والسياسة، يقول فيه تشومسكى: إن السياسة تعتمد على اللعب بالمصطلحات، ومثال ذلك أن الولايات المتحدة عندما تحولت إلى دولة ذات نفوذ لا يقاوم، وأصبحت تمثل تهديدا لدول العالم قامت بإطلاق اسم وزارة الدفاع بدلاً من اسم وزارة الحربية، وعندما أصبحت الولايات المتحدة هى الراعى الأكبر للإرهاب الدولى أطلقت إدارة ريجان مصطلح (الإرهاب الدولى) ووضعته ضمن استراتيجيتها، ومن يدرس الديمقراطية الأمريكية يجدها لا تختلف عن الدول التى تصفها بأنها قمعية وغير ديمقراطية، والفارق أن التوجيه السياسى فى الولايات المتحدة يتم بطريق إيحائى وغير مباشر بينما يتم فى تلك الدول بشكل مباشر.
يقول أيضا: إن إسرائيل تحولت إلى قوة استراتيجية، ومنذ عام 1978 تستأثر إسرائيل بما يتراوح بين 30% و50% من المساعدات الخارجية الأمريكية، وأمريكا تدعمها لتكون دولة متفوقة عسكرياً وتكنولوجياً، ووضع إسرائيل كدولة يؤكد أنها عاجزة عن الاستقلال عن أمريكا أو تنمية اقتصادها حتى الآن، وهو لا يتفق مع الذين يقولون: إن إسرائيل تتحكم فى سياسة أمريكا، ويرى العكس، أن أمريكا هى التى تستخدم إسرائيل لتحقيق استراتيجيتها، وقد استخدمت أمريكا كلا من إسرائيل وإيران فى حكم الشاه كحراس للخليج، واستخدمت إسرائيل كرأس حربة لتحقيق مصالحها فى أفريقيا وفى مناطق أخرى فى العالم، وبذلك فإن إسرائيل بالنسبة لأمريكا مصدر استراتيجى لقوتها.
وتحت عنوان (الإرهاب لغة السياسة) يؤكد تشومسكى على خطورة المصطلحات وإساءة استخدامها على الصعيد السياسى، حتى تبدو اللغة فى ذاتها عاملا سياسيا، ومثال على ذلك مصطلح (المصلحة الوطنية) فإن دلالته توحى بأنها هى مصلحة المواطنين جميعا، ولكنه فى حقيقته يعنى مصلحة النخبة فقط، وقد استخدمت أمريكا مصطلح (التهدئة) فى فيتنام فكانت تهدئة عن طريق القتل الجماعى، وكذلك مصطلح الإرهاب استخدمته حكومة السلفادور المدعومة من الولايات المتحدة وقتلت خمسين ألفا من مواطنيها فى عام واحد، ولم يركز الإعلام الأمريكى على هذا القتل الجماعى، بل ركز على قرارات لجنة العفو الدولية عن قتل إحدى الدول عددا لا يتجاوز 15 من مواطنيها وردد الإعلام والسياسة فى أمريكا أن ذلك ليس إلا (إرهاب الدولة)، وكذلك كان الهجوم الأمريكى على ليبيا عام 1986 فى حقيقته مناورة من مناورات العلاقات العامة، بدأت باتهام ليبيا بأنها وراء حادث اغتيال جنود أمريكيين فى إحدى الحانات الأوربية، وبعد تصعيد الأمر إلى حد القول بأن وجود الأمريكيين فى أوربا أصبح خطرا على حياتهم بسبب الإرهاب الذى ترعاه ليبيا، ثم جاءت المرحلة الأخيرة من التصعيد بشن الهجوم على ليبيا، واختارت الولايات المتحدة اتهام ليبيا لأنها لم تكن تستطيع اتهام الاتحاد السوفيتى فاختارت دولة تستطيع أن توجه إليها ضربة وتحقق فيها ما يمكن تصويره على أنه انتصار.
***
وعن (نظام الدعاية والإعلام) يتحدث تشومسكى عن خداع الألفاظ وتزوير الدلالات كما يفعل السياسيون، وكانت البداية فى عهد الرئيس الأمريكى (ودرو ويلسون) حين عرض عليه المؤرخون والإعلاميون القيام بحملة تضليل عن طريق اللعب على الدلالات، وأطلقوا على هذه الحملة اسم (الهندسة التاريخية)، وكانت عبارة عن إعادة صياغة الحقائق التاريخية وإخراجها بأسلوب يخدم المصالح الأمريكية، وعبّر عن هذا الاتجاه الكاتب المعروف والتر ليبرمان فى عام 1921 بأن فن ممارسة الديمقراطية يتطلب صناعة الرضا والقبول والحصول على موافقة الرأى العام (ولو بطرق احتيالية) وعدم الاختلاف معه، وبعده عبر المؤلف الأمريكى (أوتيرو) عن هذا الاتجاه بأن النظام الديمقراطى هو الذى يحدد النقاط الكاملة للفكر والتفكير مما يعنى خنق الآراء، ثم جاء شعار (سقوط الأيديولوجيات) وبعده شعار (نهاية القوميات).. وكل من هذه الشعارات والمصطلحات كانت له وظيفة فى الدعاية السياسية والاستيلاء على عقول المواطنين داخل أمريكا وخارجها.. وإذا كانت هناك دول تمارس الدعاية السياسية بالعصا والتهديد، فهذه على أية حال دعاية واضحة وصريحة تعلن حقيقتها دون غش أو رياء، وتفرض على الناس أفكار ومبادئ وتوجهات السلطة، ويمكن للناس أن يرفضوها حتى ولو لم يعلنوا ذلك، وفى هذا احترام للحرية، ولكن فى الولايات المتحدة يختلف الأمر.. فالدعاية السياسية تستخدم وسائل المواربة والاحتيال على الألفاظ للضغط على الناس وإجبارهم على الاقتناع بمبادئ وتوجهات السلطة تحت ستار أن هذا الاقتناع وليد الاختيار الحر.
وعن (الهندسة التاريخية) يتحدث تشومسكى عن المكافآت التى يتلقاها مؤيدو النظام والمشاركون فى دعم توجهاته وإقناع الجمهور بها، وعن العقوبات التى ينالها المخالفون للنظام، فيقول: إن العقاب لهؤلاء يختلف من دولة إلى دولة، ففى الاتحاد السوفيتى كانت العقوبة للمخالف أو المنشق هى السجن أو النفى، أما فى السلفادور فكانت العقوبة البتر أو التشويه، أما فى داخل الولايات المتحدة فإن العقوبة تتوقف على درجة قوة ومكانة المعارض فتكون العقوبة شديدة إذا كان ضعيفا وليس له من يسانده. فإذا تمرد أمريكى أسود فإن عقابه قد يكون القتل على يد الشرطة، كما حدث لفريد هامبتون الذى قتل على طريقة الجستابو، أما إذا كان المعارض أبيض من الطبقة الوسطى، فإن احتمال القتل أو الاعتداء يقل كثيرا، ويتحول العقاب إلى إخراجه من دائرة النخبة صاحبة الامتيازات، وربما يتحول مع الوقت إلى سائق تاكسى أو شاحنة وينتهى أمله فى العودة إلى دائرة النخبة التى تتمتع بالامتيازات، وفى بعض الأحيان يختار بعض المعارضين هذا المصير طوعا.
***
وعن المغالطات التاريخية التى يسمونها الهندسة التاريخية يذكر تشومسكى فقرة فى إعلان الاستقلال الأمريكى وهو بمثابة التوراة الأمريكية، وفى هذه الفقرة إدانة للملك جورج ملك بريطانيا لأنه ساعد فى إطلاق العنان لوحشية الهنود الحمر- وهم السكان الأصليون- فى إبادة الأمريكيين المهاجرين.. وهذا مثال من أهم أمثلة خداع الهندسة التاريخية، لأن هذه الفقرة المقدسة قائمة على الكذب، والحقيقة أن الهنود الحمر هم الشعب الأصلى لأمريكا وهم الذين تعرضوا للإبادة وليس العكس.. وفى هذا السياق يمكن ذكر ما تقوم به إسرائيل من قتل للفلسطينيين وهدم لبيوتهم واغتصاب لمزارعهم وحصار لقراهم ومدنهم وقصفهم بالطائرات والصواريخ، ثم الادعاء بأن الفلسطينيين هم المعتدون وأنهم يعرضّون أمن إسرائيل للخطر (!)، ويقول تشومسكى: إن الأمريكيين يظهرون بمظهر المدافع عن الأقليات بينما يحرضون الأقليات على التمرد، وهم يعلمون أن هذا التمرد مقدمة لإبادتها، ولعل معاناة الأكراد معهم خير دليل على ذلك.
وتشومسكى له كتاب بعنوان (حقوق الإنسان والسياسة الخارجية الأمريكية)، يقول فيه: إن سياسة كل دولة تنبع من بنائها الاجتماعى الداخلى، وفى حالة الولايات المتحدة فإن الذى يرسم ويحدد السياسة الخارجية هى جماعات المصالح والمؤسسات، وحجم المصالح الأمريكية الهائل يجعل مفهوم سياستها الخارجية مسألة معقدة، فالمسألة لا تقف عند الاستئثار بالصفقات مثل بيع صفقات الطائرات العملاقة والصواريخ والأسلحة والفوز بالعقود الضخمة وغيرها، بل تتعداها أحيانا إلى خلق المناخ لتحسين الأسواق وازدهارها بخلق الحاجة إلى السلاح أو إلى الإعمار أو إلى إنشاء شبكات إلكترونية واسعة ومتقدمة، وينعكس ذلك بالطبع على مزيد من الثروات لأصحاب المصالح فى أمريكا، وكذلك اللعب فى سوق النفط لصالح أثرياء النفط الأمريكيين، وفى سبيل تحقيق هذه المصالح لا تراعى أى اعتبارات أخرى بما فى ذلك حقوق الإنسان، أما العدو الداخلى المتمثل فى الرأى العام الأمريكى فإن صحوته قليلة ومع ذلك فإنها تؤخذ فى الاعتبار.. وتحكم الأقوياء فى أمريكا ليس فى السياسة الخارجية فقط، بل فى السياسة الأمريكية عموما، ومثال على ذلك فضيحة ووترجيت حيث قام الجمهوريون الذين يمثلون حزب نيكسون- حين كان هو الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت- بالتنصت على الحزب الديمقراطى المنافس، وبما أن الديمقراطيين أقوياء فقد طرحوا المسألة على أنها فضيحة، مع أن فى أمريكا حزبا آخر هو الحزب الاشتراكى كان التجسس عليه كما كانت مضايقة الشرطة لأعضائه أمورا يومية إلا أن أحدا لم يثر المسألة لأن هذا الحزب ليست له قوة الحزب الديمقراطى.. وفى حسابات القوة لابد أن يؤخذ فى الاعتبار ما قام به خصوم نيكسون الأقوياء- وهم قادرون- إذا اجتمعوا بتحدى الرئيس الأمريكى والإيقاع به.. وهناك أسماء معروفة من هؤلاء الأقوياء الذين تجمعوا على نيكسون مثل توم واطسون، وماكجورج بوندى، وجيمس رستون.
***
وعن سلطة النخبة ومسئولية المفكرين يقول إن النخبة فى أمريكا مسموح لها ببعض التجاوزات بعكس غيرهم ممن لا قوة ولا نفوذ لهم فإنهم يتعرضون لألوان مختلفة من العقاب إذا تجاوزوا حدودهم، والعقاب يبدأ بالإقصاء والتهميش، وينتهى بالقتل على يد الشرطة.
سئل تشومسكى عن رأيه فيما يقال من أن العرب المحيطين بإسرائيل ليسوا سوى قبائل غير متحضرة ومتوحشة فقال إن هذا انحياز مألوف فى التاريخ الأمريكى، فقد قام المهاجرون الأوائل من أوربا بإبادة سكان البلاد الأصليين فى أمريكا بنفس هذا الادعاء، ومن الناحية السياسية والاقتصادية فإن الإدارة الأمريكية تعمل دائما على تخويف الأمريكيين من الخطر.. كان الخطر هو الخطر السوفيتى وكان ذلك مبررا لزيادة الإنفاق على التسلح، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى يجرى تخويف الشعب الأمريكى من الإرهاب واعتبار ذلك مبررا لغزو دول أخرى وإشعال الحروب.. وبعد الغزو الأمريكى لبنما اختلفت السياسة الأمريكية ولم تعد تخشى الردع السوفيتى، وأصبح للولايات المتحدة مطلق الحرية لاستخدام القوة، ولقد كان غزو بنما والقبض على حاكمها نورييجا ومحاكمته وسجنه فى أمريكا هو التمهيد لإعادة التجار البيض إلى الصدارة فى بنما، وفى حديثه عن (بدائل إمبراطورية الشر) يطرح تشومسكى فكرته عن عالم ذى أقطاب اقتصادية ثلاثة، وقطب عسكرى واحد، وحروب متعددة بديلة عن الحرب الباردة والصدامات التى تخللتها، ويقول تشومسكى: إن الولايات المتحدة تستخدم الأمم المتحدة وتستغلها لمصلحتها بعد أن كانت تعوق عمل الأمم المتحدة أيام الحرب الباردة وتعرقل قيامها بدورها العالمى، ودائما كانت الولايات المتحدة تختار عدوا ليكون ذريعة تبرر خروجها على النظام الدولى، فالولايات المتحدة أعطت لنفسها الحق فى غزو بنما وجرينادا، وفى نفس الوقت كانت تحتج على انتهاك حرمة الدول عندما يكون ذلك متفقا مع سياستها.. فالولايات المتحدة تهدف دائما إلى خدمة مصالحها فقط، وما يخدم مصالحها يكون جيدا، ومقبولا، وإنسانيا، وما يتعارض مع مصالحها يكون شرا، ومرفوضا، وغير إنسانى. وأكثر من ذلك يتعرض تشومسكى لأسلوب الحماية الأمريكى، ويقول: إنه أشبه بأسلوب المافيا فى حماية زبائنها، كما أن الولايات المتحدة تلهث وراء فرص لاستعراض قوتها العسكرية وقدرتها على التأديب وفرض الحماية، وذلك بمعارضة وعرقلة أى حل دبلوماسى لأية أزمة.. وهذا ما فعلته فى فيتنام، واتفاقات كونتادورا، وخطة ارياس لتحقيق السلام فى أمريكا الوسطى عام 1987، وأخيرا رفضها حل الأزمة العراقية وتصعيدها إلى مرحلة الحرب الواسعة، وإذا لم تتوافر الفرصة للحرب العسكرية فإن الولايات المتحدة تلجأ إلى الحرب الاقتصادية التى أصبحت تمارسها دون رادع وبشكل مؤثر فى حياة مئات الملايين من البشر خصوصا بعد غياب الاتحاد السوفيتى.
***
هل يمكن أن يستعيد الأمريكيون حريتهم الحقيقية؟
يجيب تشومسكى بأن أمام الأمريكيين خيارين: إما أن يفقدوا الأمل فى الحرية، وإما المراهنة على وجودها والسعى إلى توعيتهم بالتناقضات والأوهام التى جعلتهم يوافقون على السياسات الأمريكية، وهى موافقة على حساب حريتهم وحقهم فى التفكير والاطلاع على الحقائق.. فالرؤساء الأمريكيون يعملون على إشعال الحروب، وكل منهم يعمل على تهيئة الظروف لحربه الخاصة، ولو حاكمناهم وفقا لمبادئ محاكمات نورمبرج فإنهم سيحاكمون كمجرمى حرب، وستوجه التهمة إلى رؤساء ما بعد الحرب العالمية الثانية. فإن هذا العنف الخارجى إنما يتم على أساس خداع داخلى ومراوغة للشعب الأمريكى، الذى أصبح منتجا للعنف الداخلى، حتى أن شباب بوسطن لا يعتبرون أنفسهم رجالا ما لم يصابوا برصاصة حقيقية، وقد تحول ذلك إلى قضية كرامة بالنسبة لهؤلاء الشبان.
هذا ما يقوله تشومسكى.. فماذا يقول عن وجود ميليشيات وجماعات إرهابية من الأمريكيين البيض والأمريكيين السود والتصادم بينها وبين السلطة، وكان انفجار أوكلاهوما الذى نفذه الأمريكى تيموثى ماكفاى صورة من هذا النشاط الإرهابى الأمريكى الداخلى..
الإدارة الأمريكية تريد تنويم الشعب الأمريكى ودول العالم تنويما مغناطيسيا لكى يصدق الجميع ما تقوله وإن كان كذبا، ويفعل الجميع ما تريدهم أن يفعلوه..
وهذا ما جعل صمويل هنتنجتون يعلن مؤخراً عن تآكل المصالح الأمريكية، وضرورة تغيير معايير هذه المصالح لإعادة الموضوعية والعقلانية فى تعاملات الولايات المتحدة مع الآخرين وإعادة حساباتها فى تصنيف الأعداء والأصدقاء.
***
ونعود إلى كتاب تشومسكى عن 11 سبتمبر.
يقول تشومسكى: دعنا نفترض أن أسامة بن لادن كان وراء هذه الهجمات، فما السبب الذى جعله يفعل ذلك؟.. من المؤكد أن تدمير مركز التجارة العالمى ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية لن يؤدى إلى مساعدة الضعفاء والفقراء والمظلومين فى أى مكان فى العالم، ولن يفيد الفلسطينيين أيضا، أسامة بن لادن يشارك شعوب المنطقة فى الشعور بالغضب بسبب التواجد العسكرى الأمريكى فى الأراضى العربية، وخاصة فى السعودية، وبسبب الأعمال الوحشية ضد الفلسطينيين، وبسبب تدمير المجتمع المدنى فى العراق.. وأمريكا هى السبب فى كل ذلك. وهذا الشعور بالغضب يشعر به الأغنياء والفقراء، والسياسيون وغير السياسيين فى المنطقة، وكثير ممن يعرفون الظروف جيدا يشعرون بالشك فى قدرة بن لادن على تخطيط هذه العملية المعقدة التى لا يمكن تصديق أنها تحدث فى كهف من كهوف الجبال فى أفغانستان، أما القول بأن شبكة أسامة بن لادن متورطة فى الحادث وأن أسامة بن لادن هو مصدر الإلهام لمن قاموا بهذه العملية، فهذا أمر جدير بالتصديق؛ لأن شبكة أسامة بن لادن عبارة عن خلايا لا مركزية ولا تخضع لقيادة واحدة بشكل مباشر، وقد يكون بينها اتصال محدود، ومن المحتمل أن يكون أسامة بن لادن صادقا عندما أعلن أنه لم يكن يعلم بهذه العملية، وهو واضح بالنسبة لما يريد، وأحاديثه تركز على أنظمة حكم قمعية فاسدة ووجود أجنبى، ولذلك لا يعتبرها إسلامية، وهو يرى أنه هو وشبكته يساندون المسلمين ضد من يعتبرهم الخونة فى كل مكان، سواء فى الشيشان أو البوسنة، أو كشمير، أو الصين الغربية، أو جنوب شرق آسيا، أو شمال أفريقيا، وربما أماكن أخرى، وقد حاربوا حربا مقدسة فى أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتى، وتحولوا بعد ذلك إلى العمل على خروج الأمريكيين من السعودية، وهو يوجه الاتهام إلى الولايات المتحدة، ولكن الواقع أن جرائمه تضر إضرارا بالغا بالفقراء والمضطهدين فى المنطقة، وهجمات 11 سبتمبر كانت ضارة جدا بالفلسطينيين، ولكن إذا نجحت الولايات المتحدة فى قتله فمن المحتمل أن يصبح أكثر قوة كشهيد، وسيستمر صوته باقيا من خلال شرائط الكاسيت المتداولة، ويتحول إلى رمز.
ويقول تشومسكى: إن دور الولايات المتحدة فى صناعة الإرهاب الذى تحاربه الآن معروف للجميع، وكذلك دورها فى مساندة زراعة وتجارة المخدرات والعنف، وكمثال على ذلك يقول جون كولاى John Cooley المتخصص فى دراسات الإرهاب وجماعات العنف: إن مسئولى المخابرات الأمريكية ساعدوا عن عمد على دخول الشيخ عمر عبد الرحمن إلى الولايات المتحدة عام 1990 فى الوقت الذى كان مطلوبا فيه فى مصر لاتهامه فى أحداث إرهابية، وفى عام 1993 كان متورطا فى حادث نسف مركز التجارة العالمى، والذين قاموا بالتفجير نفذوا تعليمات كانت تلقنها المخابرات الأمريكية للمجاهدين ضد السوفيت فى أفغانستان! وكانت الخطة تشمل نسف مبنى الأمم المتحدة، وأهداف أخرى من بينها نفق معروف باسم نفق لنكولن، وادين الشيخ عمر عبد الرحمن فى هذا الحادث، وصدر عليه حكم بالسجن لمدة طويلة فى الولايات المتحدة.
فإذا كان بن لادن هو الذى خطط لأحداث 11 سبتمبر، وكانت المخاوف السائدة بين الأمريكيين حقيقية من تكرار هذه الأفعال، فما السبيل لتقليل الخطر أو القضاء عليه؟
إن التعامل الصحيح يتحدد لكل حالة على حدة، بريطانيا تتعامل مع قنابل الجيش الإيرلندى التى تنفجر فى لندن بطريقة مختلفة عن أمريكا، فهى لا ترسل سلاح الجو لقصف مواقعهم، ولا تدمر بوسطن، ولا ترسل قوات عسكرية للقبض على المشتبه فى تورطهم أو قتلهم، أو خطفهم لمحاكمتهم فى لندن، ولا تصادر أموالهم.. بريطانيا تنفجر فيها قنابل يضعها الجيش الإيرلندى فتتبع القانون لمعاقبتهم.. وفى أمريكا أيضا عندما تفجر مبنى أوكلاهوما ارتفعت فورا أصوات تنادى بقصف الشرق الأوسط، وكان من المحتمل حدوث ذلك لو ظهرت إشارة ولو من بعيد إلى قيام أحد من الشرق الأوسط بهذه العملية. ولكن عندما تبين أن الهجوم كان هجوما منظما من داخل أمريكا، ومن شخص له علاقة بالميليشيات الأمريكية، لم يرتفع صوت للمطالبة بمحو مونتانا أو تكساس التى كانت تعتبر الحكومة الأمريكية فى واشنطن حكومة غير شرعية ومستبدة.. وتم البحث عن الجانى والقبض عليه، وتقديمه للمحاكمة وصدر الحكم عليه، وكان رد الفعل معقولا لدرجة أن بعض الأصوات طالبت بتفهم أسباب الشعور بالظلم التى تحرض على ارتكاب مثل هذه الجرائم.. وحل المشاكل بدلا من الاكتفاء بالعقاب.. وكان ذلك هو الطريق الذى يجب أن تسلكه أمريكا إذا كان لديها اهتمام بالعدالة.. ورغبة فى تقليل احتمالات وقوع المزيد من الأعمال الوحشية.
***
لكن أمريكا لم تفعل ذلك بعد 11 سبتمبر.. وأعلنت الحرب على كل من لا يشاركها فى الدعوة إلى الحرب التى انفردت فيها بالقرار.. وكانت اللغة السائدة فى أمريكا بعد أيام من الحادث هى (شاركونا فى حملتنا أو انتظروا الموت والدمار).. كما نشر فى نيويورك تايمز يوم 14 سبتمبر، وقد كرر الرئيس بوش يوم 20 سبتمبر هذا الموقف بقوة، وكان معنى ذلك استعداد أمريكا للحرب على أكثر من دولة فى العالم.. وخطط الحكومة الأمريكية غير معروفة، مع ملاحظة أن الانتقام العسكرى الأمريكى هو ما يريده مرتكبو حادث 11 سبتمبر، لأن الانتقام العسكرى يؤكد قضيتهم، ويزيد من تأييدهم لزعيمهم، ويعطى للتعصب مشروعية، ويشعل الصراع بين العرب والغرب.. وإذا لم تلتزم أمريكا بالعقل والقانون والمعاهدات فإن التوقعات ستكون مروعة إلى حد ما.
***
وحين سئل تشومسكى: إن كثيرا من الأمريكيين يرون أن العرب هم الذين كان عليهم القضاء على الإرهابيين وعلى الحكومات التى تساندهم، أجاب: وهل نقوم نحن بالقضاء على حكومات الغرب التى تنفذ أعمالا إرهابية وتساند الإرهابيين فى العالم؟ وهل ننكر أن أسامة بن لادن وشبكته كانوا أصدقاء أمريكا، وأن صدام حسين كان صديقا لأمريكا، وأن أمريكا كانت تساندهم ثم انقلبت عليهم عندما خالفوا أوامرها فاعتبرتهم إرهابيين؟.
وسئل : أليس من حق الدولة التى تتعرض لهجوم أن ترد بهجوم من نفس النوع؟ فأجاب: وفقا لهذا المبدأ فإن نيكاراجوا، وفيتنام الجنوبية، وكوبا، ودولاً أخرى كان عليها أن تفجر القنابل على واشنطن والمدن الأمريكية الأخرى للرد على هجوم واشنطن عليها.. ووفقا لهذا المبدأ يجب علينا أن نعجب بالفلسطينيين عندما يقومون بتفجير القنابل فى تل أبيب ردا على صواريخ إسرائيل التى تسقط فى المدن الفلسطينية.. وهكذا يمكن أن يصل بنا الأمر إلى ما وصلت إليه أوروبا بعد أن طبقت هذا المبدأ وتراجعت عنه بعد مئات السنين من الوحشية.. وقد قامت دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية بصياغة مبدأ مختلف، وهو عدم اللجوء إلى القوة إلا فى حالة الدفاع عن النفس وإلى أن يتحرك مجلس الأمن للقيام بدوره فى حماية السلام والأمن.. ومعنى ذلك أن الانتقام ممنوع.. والولايات المتحدة لم يقع عليها هجوم مسلح من هذه الدول التى تحاربها.. فلماذا لا نطبق مبادئ القانون الدولى على أنفسنا وليس على الذين نكرههم فقط ؟ ونحن الآن فى عالم أسلحة الدمار الشامل، وقد تؤدى سياسة الذبح المتبادل إلى نهاية البشرية، وهذا ما جعل الأوربيين يقررون منذ نصف قرن وضع نهاية لمباراة الحرب التى انغمسوا فيها عدة قرون.
وسئل تشومسكى: ما رد فعلك فى أعقاب 11 سبتمبر عندما كان الأمريكيون يشعرون بالرعب من تعبيرات الغضب تجاه أمريكا التى انتشرت فى أنحاء عديدة من العالم؟ فأجاب: لم يبتهج بالجرائم التى حدثت فى نيويورك سوى أفراد قلائل جدا فى العالم، أما الغالبية فقد استنكرت هذه الأعمال الوحشية حتى فى الدول التى قامت أمريكا بتعذيب شعوبها لسنوات طويلة جدا، ولكن هناك بالتأكيد مشاعر غضب تجاه الولايات المتحدة. لكن علينا أن نتذكر ما فعله جيش تسانده الولايات المتحدة فى عام 1965 حين نجح فى السيطرة على أندونيسيا، وقام بذبح مئات الآلاف من المواطنين كلهم من الفلاحين الذين لايملكون الأرض، وكانت هذه المذبحة تماثل مذابح هتلر وموسولينى كما وصفتها المخابرات الأمريكية، وأثارت هذه المذبحة شعورا بالابتهاج فى الغرب، رغم أن الفلاحين فى أندونيسيا لم يتسببوا فى أى ضرر لأمريكا أو للغرب، وكذلك عندما هاجمت أمريكا نيكاراجوا قامت الصحافة بتمجيد الأعمال الناجحة التى تمت لتدمير الاقتصاد وتقويض معالم الحياة، وقيل إن ذلك ضرورى لكى يقوم المواطنون المرهقون بالإطاحة بالحكومة التى تريد أمريكا الإطاحة بها، لأن تكلفة ذلك أقل بالنسبة لأمريكا، ولم يفكر أحد فى نتائج هذه المذابح من الكبارى المحطمة، ومراكز السلطة المخربة، والمزارع المدمرة. وكان تعليق نيويورك تايمز: (إننا توحدنا فى الفرحة بهذه النتيجة).. وكان تعليق مجلة تايم : إن هذه النتيجة تقدم لمرشح الرئاسة فى الولايات المتحدة قضية ساخنة لكسب الرأى العام، هى قضية إجهاض قوة الدولة والشعب فى نيكاراجوا.
***
ما هى الدوافع الحقيقية التى تحرك سياسة الولايات المتحدة الآن؟ وما الهدف الحقيقى وراء الحرب على الإرهاب التى أعلنها الرئيس بوش؟.
يجيب تشومسكى : إن الحرب على الإرهاب ليست جديدة.. وهذه الحرب ليست حربا على الإرهاب.. وعلينا أن نتذكر ان إدارة ريجان جاءت إلى السلطة بادعاء ان الإرهاب الدولى الذى يرعاه الاتحاد السوفيتى فى العالم هو أكبر خطر يواجه الولايات المتحدة، وأنها هى وحلفاءها الهدف الرئيسى للإرهاب، وقال: يتحتم علينا تكريس أنفسنا لحرب هدفها استئصال هذا السرطان وهذا البلاء الذى يدمر الحضارة.. وقامت إدارة بوش الأب بتنفيذ هذا التعهد بحملات غير مسبوقة من حيث القوة والتدمير مما أدى إلى إدانة المحكمة الدولية للولايات المتحدة.. وعلينا أن نتذكر مساندة الولايات المتحدة للنظام العنصرى فى جنوب أفريقيا والذى قام بقتل مليون ونصف المليون مواطن من السود، وتسبب فى خسائر بلغت 60 مليار دولار خلال سنوات حكم ريجان وحدها، وبلغت الهستريا من الإرهاب الدولى ذروتها فى منتصف الثمانينات عندما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها هم الذين ينشرون سرطان الإرهاب الذى كانوا يطالبون باستئصاله.. ولكن المفكرين والسياسيين عادة يعلنون كل بضع سنوات عن بدء مرحلة جديدة ويطالبون بنسيان ما حدث وفتح صفحة جديدة.
***
هل الحل لمواجهة الإرهاب أن تقوم الولايات المتحدة بهجمات إرهابية ضد المدنيين فى دول أخرى؟ وهل الحل لمواجهة التعصب هو أن تشدد الولايات المتحدة إجراءات المراقبة وتقييد الحريات؟
يجيب تشومسكى : إننى أتمنى ألا يحدث ذلك، ولكن يجب ألا نستخف بقدرة الدعاية السياسية على دفع الناس إلى سلوك لا عقلانى وقاتل وانتحارى، ولنأخذ مثالا بعيدا يسمح لنا بالرؤية بهدوء، فالحرب العالمية الأولى نشبت لأسباب لا يمكن أن يكون لأطرافها على الجانبين أهداف نبيلة وسامية، فقد قام الجنود على الجانبين بعمليات الذبح المتبادلة، وشجعهم على ذلك ترحيب وابتهاج السياسيين والمفكرين من اليسار واليمين، وكانت الاستثناءات قليلة جدا بدرجة لا يمكن ذكرها، وبعض من هؤلاء انتهى بهم الحال إلى السجن بمجرد أنهم تساءلوا عن مشروعية هذه الحرب، ومن بينهم روزا لوكسمبرج، وبرتراند راسل، وإيوجين ديبس، ولكن عن طريق وكالات الدعاية والمفكرين المتحمسين تم تحويل أمريكا من دولة لا تؤمن بالعنف إلى دولة تسودها حالة من الهستريا والهياج وروح العداء لألمانيا، وتسيطر عليها الرغبة للانتقام من الألمان الذين ارتكبوا جرائم وحشية، ومعظم القصص عن هذه الجرائم كانت من تلفيق وزارة الإعلام البريطانية.. وهكذا يجب ألا نقلل من الآثار الثقافية للصراعات فى السنوات الأخيرة.. ونحن لا نحتاج إلى السير سريعا نحو الكارثة لمجرد أن تلك هى الأوامر.
***
بعد 11 سبتمبر أعلنت الإدارة الأمريكية عن تعديل قوانين الإرهاب بما فى ذلك قانون عام 1976 الذى يمنع عمليات الاغتيال لشخصيات أجنبية، وأعلن الاتحاد الأوروبى أيضا عن تطبيق قانون جديد على الإرهاب.. هل الإرهاب يعطى الحكومة الحق فى وضع المواطنين الأمريكيين تحت المراقبة وتقييد حرياتهم والقول بأن ذلك لتعقب المشتبه فيهم ومنع الهجمات المحتملة؟
يجيب تشومسكى : فى الواقع هناك رفض لفكرة البحث عن أسباب هذا الإرهاب.. وهناك تأييد للاغتيال السياسى.. أعنى اغتيالات إسرائيل للفلسطينيين الذين تدعى إسرائيل أنهم يؤيدون الإرهاب بالرغم من أنها لم تقدم أى دليل على ذلك ولا تعتبر تقديم الدليل ضروريا، مع أن حالات كثيرة يتبين فيها أن الاتهام أو الاشتباه ليس له أساس، ولكن ما يحدث من دمار وقتل للنساء والأطفال ينظر إليه على أنه من الأمور العادية، وقد استخدمت إسرائيل طائرات الهليكوبتر التى تمدها بها أمريكا لتنفيذ عمليات الاغتيال.. والمهم أن الانتقادات التى توجه فى الولايات المتحدة للعمليات الإسرائيلية الوحشية وللسياسات الأمريكية التى دمرت المجتمع المدنى العراقى ينظر إليها باستخفاف، حتى أن وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت عندما سئلت عن مسئولية أمريكا عن موت نصف مليون طفل عراقى بسبب العقوبات الاقتصادية قالت: لقد كان ذلك اختيارا صعبا بالنسبة لإدارة كلينتون، ولكن الثمن يستحق هذه المعاناة.. وهكذا تفعل الدولة عندما تمارس العنف والقتل فإنها تبرر ذلك بأنه مقاومة للإرهاب.. كما فعل النازى مع المعارضين له.. ومثل هذه الأفعال تجد من يبررها من المفكرين.
لقد أصدرت الأمم المتحدة فى عام 1987 قرارها التاريخى بحق الشعوب فى تقرير المصير والحرية والاستقلال وخاصة الشعوب الخاضعة للاستعمار والعنصرية والاحتلال الأجنبى وغيرها من أشكال الهيمنة الاستعمارية، وتضمن القرار حق الشعوب فى الكفاح لتحقيق الحرية والاستقلال وفقا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولى.. ماذا حدث؟ رفضت الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا هذه الحقوق.. وفى ذلك الوقت كانت تعتبر حركة التحرير التى يقودها حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى وزعيمه مانديلا حركة إرهابية، وتعتبر الحزب منظمة إرهابية، ولا ترى أن الحكومة العنصرية فى جنوب أفريقيا هى الإرهابية فعلا.. لكنها كانت ترى دولة مثل كوبا دولة إرهابية.. وهكذا يتم تصنيف الدول والمنظمات فى الولايات المتحدة
***
هذا بعض ما يقوله تشومسكى فى تشريح وتحليل المجتمع الأمريكى والسياسة الأمريكية، وهو من القلة التى تملك الشجاعة لتقول الحق وتستطيع اختراق حملات التضليل الإعلامى وتعلن رأيها بشجاعة.. ولذلك فهو محاط بحصار يحاول خنقه لولا شهرته المدوية فى العالم ومكانته العلمية الرفيعة ومؤلفاته التى تدرس فى الجامعات الكبرى، وتلاميذه المنتشرون فى أنحاء العالم.. وكنت أتمنى أن يترجم هذا الكتاب بالكامل وقد تحقق ذلك بأسرع مما كنت أتصور، فقد وصلتنى ترجمة كاملة نشرتها مكتبة الشرق الدولية.
ولابد لنا من قراءة تشومسكى جيدا لأن فكره يساعدنا على فهم المجتمع الأمريكى ورؤيته من زاوية مختلفة عن الزاوية المفروضة علينا.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف