رؤية أمريكية مختلفة فى ذكرى 11 سبتمبر
ليس فى العالم من لا يعرف نعوم تشومسكى، فهو أشهر مفكر أمريكى معارض، وشهرته جاءت من قسوته فى نقد السياسة والثقافة والإعلام فى أمريكا، ولولا وجوده لما صدق أحد أن فى أمريكا حرية رأى.. وربما كان هذا هو السبب فى سكوت الثعالب الأمريكية عليه، وقد يكون سبب بقائه أيضا أن إسكات صوته ستكون له انعكاسات سيئة على ادعاءات الديمقراطية الأمريكية.
ونعوم تشومسكى له آراء جريئة جدا، خاصة به، تتعارض مع التيار السائد فى دوائر الفكر والسياسة فى أمريكا الآن، وله تحليلات شديدة القسوة، فهو يرى- مثلا- أن وسائل الإعلام فى أمريكا سواء فى الصحافة أو التليفزيون أو الإذاعة ليست سوى وسائل للتلقين العقائدى قائمة على الترويج والإيحاء وتعمل فقط لخدمة طبقة رجال الأعمال.
وتشومسكى معارض قديم.. عارض الحرب الأمريكية فى الهند الصينية فى الستينات، ومع أنه يهودى فإنه يوجه انتقادات شديدة جدا لسياسة أمريكا فى الشرق الأوسط وللعلاقات الأمريكية الإسرائيلية القائمة على الانحياز الكامل لإسرائيل وضد العرب والتى تتعارض مع قيم العدالة، وهو يحلل طبيعة العلاقة بين أمريكا وإسرائيل ويكشف طبيعة الأدوار التى قامت وتقوم بها إسرائيل لحساب الولايات المتحدة فى أنحاء العالم.
وكل كتاب يصدر لهذا المفكر يترجم إلى لغات العالم ويتحول إلى مظاهرة تدور حولها التحليلات.
وآخر كتاب له صدر فى نيويورك كان عن أحداث 11 سبتمبر التى هزت أمريكا وغيرت أشياء كثيرة فى العالم، والكتاب يضم أحاديث وحوارات أجراها عدد من الصحفيين مع نعوم تشومسكى خلال الشهر الأول بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمى والبنتاجون. ومن واجب المثقفين العرب أن يعرفوا تشومسكى وآراءه وأن يقرأوا هذا الكتاب بتمعن.
يقول تشومسكى : إن سقوط سور برلين لم يسفر عنه ضحايا، ولكنه كان بداية تغيير كبير فى السياسة الدولية، كذلك فإن العمل الشرير الذى حدث فى 11 سبتمبر يمثل نقطة تحول فى الشئون العالمية، ليس من حيث الشكل والأسلوب، ولكن من حيث الهدف.. بالنسبة للولايات المتحدة هذه أول مرة منذ حرب 1812 تتعرض فيها الأراضى الأمريكية للهجوم أو حتى للتهديد، صحيح أن الأسطول الأمريكى تعرض لهجوم عنيف فى ميناء بيرل هاربر يوم 7 ديسمبر 1941 وكان سببا لدخول أمريكا بشكل مباشر الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا الهجوم لم يكن على أراض أمريكية، ولكنه كان على قواعد عسكرية فى اثنتين من المستعمرات الأمريكية،والملاحظ أن العدوان كان يأتى دائما من أمريكا على الآخرين ولم يحدث عدوان على أمريكا ذاتها أبدا، فقد قامت أمريكا بإبادة ملايين من السكان الأصليين، وتدخلت بالقوة فى المناطق المحيطة بها، وقامت بغزو هاواى والفلبين، وفى الفلبين بالذات قتلت مئات الآلاف، وخلال الخمسين عاما الماضية ازداد تدخل أمريكا بالقوة فى كثير من مناطق العالم، وكانت أعداد الضحايا هائلة.. وفى 11 سبتمبر وجهت المدافع لأول مرة إلى الاتجاه الآخر.. إلى أمريكا.. وهذا تغير مثير.
والشىء نفسه ينطبق على أوربا. بصورة أكثر إثارة، فقد عانت أوربا من دمار قاتل بسبب الحروب الداخلية، وفى الوقت نفسه قامت القوات الأوربية بغزو مناطق كثيرة فى العالم بوحشية شديدة.
ولم تتعرض أوربا للهجوم من جانب الضحايا، بريطانيا هاجمت الهند واستعمرتها، لكن الهند لم تهاجم بريطانيا أبدا، بلجيكا حاربت الصين ، ولكن الصين لم تحارب بلجيكا، والأمر كذلك بالنسبة لإيطاليا لم يحدث أن هاجمتها أثيوبيا، وفرنسا ذهبت بجيوشها إلى الجزائر ولم تذهب الجزائر لمهاجمة فرنسا.. فلذلك ليس غريبا أن يسبب هجوم 11 سبتمبر صدمة فى أمريكا وأوربا أيضا، بكل ما فى كلمة الصدمة من معان.
وانطباعى أن هذه الهجمات تؤكد وجود مشكلة فى داخل (الامبراطورية) وهذه المشكلة تتعلق بالسلطة والقوة.. فالذين ارتكبوا هذه الجريمة فئة قائمة بذاتها، ولكنهم بالتأكيد يستمدون الدافع من مخزون من المرارة والغضب تجاه السياسات الأمريكية فى المنطقة، والتى تعتبر امتدادا لسياسات المستعمرين الأوربيين الأوائل، ولا شك أن هناك مشكلة تتعلق بالسلطة والقوة السياسية، وعلى سبيل المثال فقد قامت صحيفة وول ستريت جورنال باستطلاع للرأى بين المسلمين الأثرياء فى المنطقة من أصحاب البنوك والمهنيين، ورجال الأعمال الذين لهم علاقات بالولايات المتحدة، وأجمعوا على التعبير عن شعورهم بالرعب، والغضب لمساندة أمريكا للدول الفاشستية، ولما تقيمه من حواجز أمام الشعوب لتحقيق التنمية والديمقراطية بسياساتها التى تساند نظم الحكم الاستبدادية، كما عبّروا عن القلق من سياسة أمريكا تجاه العراق وتجاه الاحتلال العسكرى الإسرائيلى، وتجاه ملايين المواطنين الفقراء والمعذبين فى المنطقة، وكانت المشاعر أكثر مرارة بسبب تدفق الثروة العربية إلى الغرب وتراكم الثروات فى أيدى قلة من الصفوة لها توجهات وعلاقات بالغرب وبالحكام المستبدين الذين يساندهم الغرب.. إذن فهناك مشكلات متعلقة بالسلطة والقوة.. وقد أدى رد الفعل الأمريكى على جرائم 11 سبتمبر إلى زيادة حدة هذه المشكلات ولم يتجه إلى تخفيف وطأتها!
***
وأمريكا تقود تيار العولمة الذى يلاقى معارضة كبيرة خصوصا فى الدول النامية، وتواجه هذه المعارضة بالقمع أو التجاهل، ويزيد ذلك من اشتعال المعارضة والاحتجاج من الجماهير، وفى السنوات الأخيرة امتدت المعارضة والاحتجاجات إلى الدول الغنية أيضا، وأصبحت هذه المعارضة مصدر قلق كبير للأغنياء والأقوياء لأنهم أصبحوا فى موقف دفاعى، وهناك أسباب جوهرية للمعارضة المنتشرة فى العالم للشكل الحالى للعولمة كما يريدها الغرب لصالح الأغنياء وضد مصالح الفقراء.
***
والولايات المتحدة تستخدم الخداع فى الحروب التى تشنها.. فقد أطلقت على تدخلها العسكرى فى الخليج عام 1991 اسم (الحرب). بينما استخدمت تعبير (التدخل الإنسانى) فى تدخلها العسكرى فى الصرب، وكان ذلك وصفا جديدا للمغامرات العسكرية التى تقوم بها أمريكا على غرار المغامرات الإمبريالية الأوربية فى القرن التاسع عشر .. فهل غزو اليابان لإقليم منشوريا، وغزو موسولينى لأثيوبيا،وغزو هتلر لإقليم السوديت من قبيل التدخل الإنسانى؟. وهل يمكن أن ترتكب الجرائم باسم الإنسانية؟. وهل سيكون تبرير كل تدخل عسكرى وكل تدخل بالقوة تدخلا إنسانيا؟. ولماذا لا تسمى (الحرب) باسمها؟. بل لماذا لا تسمى باسمها الحقيقى (جريمة).. جريمة ضد الإنسانية؟. وهناك قوانين للعقاب على الجرائم، تبدأ بتحديد المجرمين، والتأكد من مسئوليتهم عن الجريمة، وهذا ما يجب عمله فى الشرق الأوسط.. وقد يقفز هنا سؤال مهم: من هم الذين يرتكبون جرائم الإرهاب الدولى؟. ولذلك اختارت الولايات المتحدة أن تطلق على حربها تسمية غامضة وغير محددة هى (الحرب ضد الإرهاب). وما هذا التعبير إلا وسيلة من وسائل الدعاية السياسية، إلا إذا كانت هذه الحرب تستهدف الإرهاب فعلا.. وعند التدقيق فيما تفعله أمريكا نكتشف على الفور أن الولايات المتحدة دولة إرهابية وتقود عمليات إرهابية! فهى تستخدم التهديد والعنف لتحقيق أهداف إرهابية. وما هو العمل الإرهابى؟. هو كل عمل أو نشاط متعمد يتضمن فعلا عنيفا يمثل خطورة على الحياة الإنسانية، وانتهاكا للقوانين الجنائية ويكون الهدف منه إرهاب أو إكراه شعب أو مجموعة للتأثير فى سياسة حكومة بالإكراه، أو الاغتيال، أو الخطف، وهذا التعريف مذكور فى مجلد بعنوان (إرهاب الدولة الغربية) من تأليف اليكس جورج Alex George ، وإن كان ذكر هذا الكتاب وكثير من أمثاله من المحظورات فى أمريكا.
***
هل كان الهجوم يوم 11 سبتمبر من داخل أمريكا كما قال البعض؟.
يقول تشومسكى: لا يوجد شك فى أن هذا الهجوم كان خارجيا، وقد تردد القادة الأوربيون فى توجيه الاتهام إلى جماعات إسلامية لأنهم يدركون أن أى هجوم عسكرى كبير على أى شعب مسلم سيحقق أهداف أسامة بن لادن وجماعته لأنه سيؤدى إلى وقوع الولايات المتحدة وحلفائها فى فخ شرير.
وعموما كان هجوم 11 سبتمبر مفاجأة وصدمة كبيرة لأجهزة المخابرات الأمريكية والغربية عموما، فالمخابرات المركزية الأمريكية كان لها دور كبير ولكن ذلك كان فى الثمانينات عندما اشتركت مع المخابرات الباكستانية والسعودية والبريطانية وغيرها فى تجنيد وتدريب وتسليح أكثر المتشددين المسلمين تطرفا لحرب مقدسة ضد الاحتلال السوفيتى فى أفغانستان، وأحسن من حلل هذا الدور جون كولاى John Coolay فى كتابه (حروب غير مقدسة) وتحدث فيه عن رؤيته من خلال عمله الطويل كمراسل فى الشرق الأوسط، ويتم الآن بذل جهد كبير لمحو الحقائق والادعاء بأن الولايات المتحدة بريئة من تكوين هذه الجماعات. والمخابرات الأمريكية تجند عددا كبيرا من الصحفيين للقيام بهذه المهمة المضللة.. والحقيقة أن تحولت هذه الجماعات إلى أماكن أخرى.. إلى الشيشان.. والبوسنة.. وربما حصلوا فى هذه المواقع أيضا على مساندة أمريكية ضمنية على الأقل، ولذلك وجدوا الترحيب بهم من الحكومات، وفى البوسنة تم منح عدد كبير من المتطوعين المسلمين الجنسية تقديرا لخدماتهم العسكرية كما ذكرت ذلك صحيفة نيويورك تايمز يوم 2 أكتوبر 2001، بل إن بعض هؤلاء ذهبوا إلى الصين الغربية وهم فى الأصل من مسلمى الصين.. ذهبوا إلى أفغانستان عام 1978 للمشاركة فى حركة تمرد ثم جندتهم المخابرات الأمريكية وأرسلتهم إلى أفغانستان عام 1979 وذهب عدد منهم إلى جنوب الفلبين، وشمال أفريقيا، وأماكن أخرى، ليقاتلوا هناك، وفى التسعينات تحولوا إلى الولايات المتحدة بعد أن أعلن أسامة بن لادن أن وجود القوات الأمريكية فى السعودية يماثل وجود القوات السوفيتية فى أفغانستان.
***
والاحتجاجات العارمة على العولمة كما ظهرت فى سياتل تمثل الوجه الآخر للقضية، والنتيجة أن تزايد الرفض لسياسات الهيمنة الأمريكية أدى إلى التعجيل بالقيام بالأعمال العسكرية، وانقلاب فى برامج الديمقراطية الاجتماعية، وتحويل الثروات إلى قطاع محدود، وإضعاف الديمقراطية.. ولكن هذه الأعمال العسكرية ستؤدى بدورها إلى ظهور مقاومة سوف تشتد مع الوقت، وإن كانت لن تؤدى إلى تحقيق نجاح على المدى القصير.
وبالنسبة للفلسطينيين، كانت الأعمال الإرهابية فى 11 سبتمبر ضربة شديدة لهم، وقد هللت إسرائيل علانية لهذه الفرصة التى انتهزتها لسحق الفلسطينيين دون أن تتعرض لعقاب، ونلاحظ أن الدبابات الإسرائيلية قد توغلت فى أعقاب 11 سبتمبر فى المدن الفلسطينية وقتلت أعدادا كبيرة من الفلسطينيين، واشتدت القبضة الحديدية لإسرائيل على الشعب الفلسطينى. ومرة أخرى نشاهد كيف تعمل القوة المحركة لدائرة العنف المتصاعد المنتشر فى العالم.. سواء فى ايرلندا الشمالية.. أو بين إسرائيل والفلسطينيين.. أو فى البلقان أو أماكن أخرى من العالم.
حقيقة أن رد فعل الأمريكيين الفورى على أحداث 11 سبتمبر كان مزيجا من الصدمة والرعب والغضب والخوف والرغبة فى الانتقام.. ولكن الرأى العام الأمريكى مشوش.. وأصبحنا فى مواجهة نوع جديد من الحرب.. العدوان اصبح موجها الآن فى الاتجاه الآخر .. لأول مرة أصبح العدوان فى الاتجاهين بعد أن كان دائما فى اتجاه واحد.. والسؤال: هل العرب هم العدو الجديد للغرب؟. الإجابة: بالتأكيد لا .. أولا- ليس هناك إنسان لديه قدر قليل من العقل يعرف عن العرب أنهم متشددون، وثانيا- لأن الولايات المتحدة والغرب عموما ليس فيهما اعتراض على التعصب الدينى فى ذاته، لأن فيهما تيارات التعصب الدينى أيضا.. والولايات المتحدة فى الواقع من أكثر الثقافات الدينية تعصبا وتطرفا فى العالم.. ليس الدولة.. ولكن الثقافة الشعبية.. وفى العالم العربى فإن أكثر الدول تعصبا وتشددا هى أقرب الدول إلى الولايات المتحدة. وهنا يدّعى تشومسكى مثل غيره من الأمريكيين أن طالبان هى فرع من النسخة السعودية للإسلام، وغريب أن يكون ذلك رأيه! ويقول: إن المتطرفين المسلمين الذين يسمون بالمتعصبين كانوا هم المفضلين لدى الولايات المتحدة فى الثمانينات لأنهم كانوا أشرس المقاتلين لصالح أمريكا، وفى تلك السنوات كانت الكنيسة الكاثوليكية هى العدو الأول لأمريكا،لأنها ارتكبت خطيئة مؤلمة فى نظر أمريكا، وهى انحيازها إلى الفقراء فى أمريكا اللاتينية، وكان عليها أن تعانى معاناة مؤلمة على هذه الجريمة، فالغرب حين يختار الأعداء والحلفاء يختار التابعين له والخاضعين لقوته، فالتحالفات والعداءات قائمة على التابعية وخدمة القوة الغربية وليست قائمة على أساس الدين، والأمثلة على ذلك كثيرة.
***
يقول تشومسكى : لابد أن ندرك أنه ينظر إلى الولايات المتحدة فى جزء كبير من العالم على أنها دولة إرهابية قيادية، وهذه النظرة لها ما يبررها.. وعلى سبيل المثال فى عام 1986 أدانت المحكمة الدولية الولايات المتحدة بسبب (الاستخدام غير الشرعى للقوة) وهذا هو التعريف الدقيق للإرهاب الدولى، وكذلك رفضت الولايات المتحدة قرار مجلس الأمن الذى يدعوها للالتزام بالقانون الدولى، وهذا مجرد مثال من أمثلة كثيرة.
وإذا نظرنا إلى جانب واحد من الموضوع وهو إرهاب الآخرين الموجه إلى أمريكا، وإذا كنا نريد تقليل الخطر بدلا من تصعيده فعلينا اتخاذ طريق آخر.. ومثلا عندما انفجرت قنابل الجيش الأيرلندى فى لندن لم تتجه القوات البريطانية إلى قصف قواعد الجيش الأيرلندى أو ضرب مدن أيرلندا بحجة أنها مصدر الدعم والتمويل للجيش الأيرلندى، ولكن قامت باتخاذ إجراءات للقبض على المجرمين، وبذلت جهودها للتعامل مع الأسباب التى تؤدى إلى الإرهاب.. وعندما تم تفجير المبنى الفيدرالى فى مدينة أوكلاهوما بالولايات المتحدة ظهرت دعوات لقصف مناطق فى الشرق الأوسط، وكان من المحتمل أن يحدث ذلك إذا تأكد أن مصدر الهجوم كان من الشرق الأوسط، ولكن عندما تبين أن مصدر الهجوم من داخل الولايات المتحدة، وأن الذى قام بالهجوم أمريكى له صلة بالميليشيات اليمينية المتطرفة الأمريكية لم يفكر أحد فى ضرب مواقع هذه الميليشيات الأمريكية أو ضرب المدن الأمريكية التى يعيشون فيها، بل كان هناك بحث عن المجرم حتى تم القبض عليه وتقديمه إلى المحاكمة ومعاقبته، وكانت هناك محاولة لفهم الشعور بالظلم الذى يدفع إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم، وكانت هناك دعوة للتعامل مع هذه المشكلات.. وهذا ما يجب أن يكون رد الفعل الطبيعى على كل جريمة سواء كانت سرقة فى الشوارع، أو أعمالا وحشية هائلة.. فكل جريمة لها أسبابها.. وإذا بحثناها جيدا فسنجد أن بعض هذه الأسباب وجيهة ويجب التعامل معها.. وهناك طرق قانونية للتعامل مع الجرائم بكل أشكالها.
ولقد تعرضت نيكاراجوا فى الثمانينات لهجوم عنيف من الولايات المتحدة، وقتل عشرات الآلاف، وتم تدمير الدولة بالفعل، وقد لا تعود إلى ما كانت عليه أبدا، وصاحب هذا الهجوم الإرهابى الدولى حرب اقتصادية طاحنة لا تقوى عليها دولة صغيرة مثل نيكاراجوا حكمت عليها قوة عظمى بالانتقام والقسوة.. فكانت آثار العدوان الأمريكى عليها اشد قسوة بكثير من الأحداث المأساوية التى وقعت فى نيويورك.. ولم ترد نيكاراجوا بتفجير قنابل فى واشنطن.. ولكنها ذهبت إلى المحكمة الدولية التى حكمت لصالحها وأمرت الولايات المتحدة بالتوقف عن العدوان ودفع تعويضات ضخمة.. ورفضت الولايات المتحدة حكم المحكمة الدولية بازدراء، وقامت بتصعيد الهجوم، فذهبت نيكاراجوا إلى مجلس الأمن بعد ذلك فأصدر قرارا يناشد الدول بمراعاة القانون الدولى ويقصد أمريكا بالطبع، وكانت الولايات المتحدة هى الدولة الوحيدة التى رفضت قرارا يطالب الدول بمراعاة القانون الدولى، فذهبت نيكاراجوا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة فأصدرت قرارا مشابها لم تعترض عليه الولايات المتحدة بينما عارضته إسرائيل لمدة عامين بعنف شديد، وهذه هى الطريقة التى يجب أن تتبعها أية دولة، ولو كانت نيكاراجوا دولة قوية لكان فى إمكانها أن ترغم الولايات المتحدة على المثول أمام محكمة جنائية دولية، ولكن أمريكا هى التى تستطيع أن تلقى بمن تشاء أمام هذه المحكمة ولا تخضع هى للمحاكمة أمامها مهما فعلت، وهذا- باختصار- ما تطالب به شعوب المنطقة أمريكا.. أن تلتزم بالقانون الدولى.
والحكومات العربية تسعى إلى القضاء على شبكات الإرهاب ولكنها تفعل ذلك بعد توافر الأدلة الكافية، وفى إطار ميثاق الأمم المتحدة والقوانين السائدة فى هذه البلاد, ولكن فى الولايات المتحدة هناك اتجاه لاتخاذ رد فعل عنيف دون مراعاة أنه لن يدفع الثمن سوى الضحايا الأبرياء، وفى حالة أفغانستان مثلا فإن الذى يدفع الثمن هم الأفغان الذين كانوا ضحايا طالبان، وهذا أيضا يحقق ما يريده أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة.
ومن النادر أن يثار السؤال: لماذا؟. وعدم الإجابة عن هذا السؤال هى التى تزيد من احتمال وقوع المزيد من الجرائم الإرهابية، وحتى المسلمون الذين يؤيدون أمريكا يوجهون النقد بشدة لسياساتها فى المنطقة وهذا انعكاس لمشاعر الشارع وهى مشاعر تنطوى على الألم والغضب. أما شبكة أسامة بن لادن فإنها تنتمى إلى فئة مختلفة، وقد تسببت فى الإضرار بالفقراء فى المنطقة، وهى لا تهتم بهم، ولكن هؤلاء الفقراء والمضطهدين من ضحايا الإرهاب لديهم مخزون كبير من الغضب، والخوف، واليأس، ويريدون رد فعل أمريكى عنيفا لتخليصهم من هذا الإرهاب ونتائجه.
***
وكيف كان رد فعل الشعب الأمريكى فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر؟
يقول تشومسكى: إن المطالبة بالعقاب وقرع طبول الحرب كان أقل بكثير من المطالبة بالسلام فى الشارع الأمريكى، وبالطبع كانت هناك رغبة جماعية فى القبض على المجرمين ومعاقبتهم، ورغبة أقوى فى عدم التهور والاندفاع والذهاب لقتل أعداد كبيرة من الأبرياء، ولكن هذه الرغبة لم تظهر فى الإعلام بصورة تعكس حجمها الحقيقى، لأن المفكرين والمسئولين فى الإعلام وجدوا أن واجبهم الوقوف إلى جانب السلطة فى وقت الأزمة دون مناقشة وحشد الرأى العام أيضا وراءها، وحدث ذلك بطريقة قوية وهيستيرية، وإذا افترضنا أن الإرهابيين اختاروا مركز التجارة العالمى كهدف رمزى فلماذا لم نسأل: كيف أدت العولمة والهيمنة الثقافية إلى خلق الكراهية لأمريكا؟ ولقد سبق قصف مركز التجارة العالمى ذاته فى عام 1993 وتبين أن الدافع كان القلق بشأن العولمة والهيمنة الثقافية الأمريكية، وفى نفس الوقت يمكن أن نسأل: هل كان اغتيال السادات بسبب العولمة والهيمنة الأمريكية؟ وهل كان للمجاهدين ضد الاحتلال السوفيتى فى أفغانستان صلة بقضية العولمة أو كانت لهم فقط صلة بالمخابرات الأمريكية؟.. ولماذا يقاتل أهل الشيشان؟ الحقيقة أن الغالبية من شعوب المنطقة تؤيد أمريكا وتوجه النقد بقسوة لسياسة أمريكا فى نفس الوقت، وهذا ما جاء فى استطلاع نشرته صحيفة وول ستريت جورنال عن اتجاهات المصريين الأثرياء الذين كانوا يلبسون ملابس على الطراز الأمريكى ويأكلون فى مطعم ماكدونالدز، فقد وجهوا النقد بشدة لسياسات أمريكا.. وهذه هى الحقيقة.. وقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز يوم 16 سبتمبر 2001 تقريرا جاء فيه أن المجرمين ارتكبوا جريمتهم بدافع الكراهية للقيم الغربية مثل الحرية، والتسامح، والرفاهية، والتعددية الدينية، والنفوذ العالمى. وقد يكون هذا التفسير مريحا ولكنه يخالف الحقيقة. وقد يعكس الرغبة فى تملق الذات والشعور بضرورة مساندة السلطة، ولكن هذا التفسير سيؤدى إلى التضليل وعدم رؤية الحقيقة. وبالتالى سيؤدى إلى وقوع المزيد من الأعمال الإرهابية التى قد تكون أكثر وحشية من أحداث 11 سبتمبر.. وبالنسبة لشبكة أسامة بن لادن فهم لا يهتمون بالعولمة أو السيطرة الثقافية، كما أنهم لا يهتمون بالشعوب الفقيرة والمضطهدة فى الشرق الأوسط التى تسببوا فى إلحاق الأذى بها على مدى سنوات، وهم يعلنون أنهم يحاربون ضد النظم الفاسدة والقمعية ومن يؤيدها، بالضبط كما حاربوا ضد السوفييت فى الثمانينات، وكما يفعلون الآن فى الشيشان، والصين الغربية، ومن المحتمل أن يكون بن لادن نفسه لم يسمع عن العولمة، الذين أجروا معه لقاءات مطولة مثل روبرت فيسك ينقلون عنه أنه لا يعلم شيئا عن العالم ولا يهتم بذلك، وقد نختار تجاهل الحقائق والانغماس فى الأوهام إذا أردنا ذلك. ولكن ذلك ينطوى على خطر كبير علينا وعلى الآخرين، ويمكن لنا أن نتجاهل جذور الأفغان العرب والمسلمين من أمثال أسامة بن لادن ومعاونيه إذا اخترنا أن نريح أنفسنا على أن ننتظر العواقب الوخيمة بعد ذلك .
هل الشعب الأمريكى لديه الوعى الكافى بهذه الحقائق؟.. وهل لديه إدراك للأسباب والنتائج؟ للأسف الإجابة بالنفى، لأن الشعب الأمريكى، لا يدرك العوامل المؤثرة فى منطقة الشرق الأوسط. وليست لديه صورة واضحة عما يدور فى الشارع هناك، والمثال الواضح على ذلك السياسة الأمريكية تجاه العراق، وما يفعله الاحتلال العسكرى الإسرائيلى. ففى العراق يفضل الأمريكيون رؤية الأمور بشكل مختلف عن الحقيقة، وهى أن حصار أمريكا للعراق دمر المجتمع المدنى العراقى، وأعطى صدام حسين الفرصة للقيام بأعماله الوحشية بما فى ذلك قتل الأكراد بالغازات السامة فى عام 1988، وهذا ما يعلمه أهل المنطقة، ولكن فى أمريكا وإسرائيل فإن هذه الحقائق مجهولة وتتم التغطية عليها خاصة على صفوة المفكرين، بينما شعوب المنطقة لا تشارك الأمريكيين فى هذه الأوهام المريحة السائدة بينهم.. وهم يعلمون أن ما تقوله أمريكا غير صحيح من أنه عرضت على الفلسطينيين وعوداً سخية فى اجتماعات كلينتون وعرفات وباراك فى كامب ديفيد فى صيف عام 2000 وما يماثلها من قصص غير حقيقية. وهناك أدلة بالوثائق على عدم الصدق فى تقديم الحقائق ، ولكن لا يكاد أحد يعرف هذه الأدلة.
***
كيف يرى تشومسكى رد فعل الحكومة الأمريكية ؟ وما هى القوى التى تمثلها الإدارة الأمريكية؟
يقول : إن حكومة الولايات المتحدة مثل كل الحكومات. تستجيب فى المقام الأول لمراكز القوة والسلطة فى الداخل، وهذه حقيقة بديهية، وهناك بالتأكيد مؤثرات أخرى منها الرأى العام، والواضح أن الحكومة الأمريكية تعمل على استغلال الفرصة للانطلاق سريعا نحو تنفيذ جدول أعمالها مثل زيادة القوة العسكرية، وتزويد الفضاء بالأسلحة، وإضعاف البرامج الاجتماعية فى داخل أمريكا، وتخفيف القلق من الآثار القاسية للعولمة وقضايا البيئة، والتأمين الصحى وغير ذلك من الأمور التى تهم الرأى العام، وهناك تحذيرات من المخابرات الأمريكية من استخدام القوة المفرطة وتجاهل معاناة الأبرياء، بمن فيهم شعوب أوربا التى سيكون منها ضحايا لدائرة العنف المتصاعد.. ولكن الواقع أنه يوجد الكثير من أمثال أسامة بن لادن على كلا الجانبين!
وهناك عامل لا يمكن إغفاله، وهو أن العولمة الاقتصادية نشرت النموذج الغربى فى العالم، وكانت الولايات المتحدة هى المساند الأكبر لذلك، وعملت لتحقيق هذه العولمة بطرق مهينة للثقافات الوطنية. فهل هذا الإرهاب من نتائج السياسة الأمريكية فى العقود الأخيرة؟
يجيب تشومسكى: لا أتفق مع هذا الفرض، ومن أسبابى لذلك أن النموذج الأمريكى يقوم على تدخل الدولة تدخلا واسعا فى الاقتصاد، وفلسفة النظام الأمريكى قائمة على أساس أن نظام السوق الحرة إذا كان لمصلحتها ويفيدها فى انتصارها فى المنافسة فإنها تطلق له العنان، وإذا تعارض مع مصلحتها فإن الدولة تتدخل وتفرض القيود.. وعموما فإن ما حدث فى 11 سبتمبر ليست له علاقة بالعولمة الاقتصادية فيما أعتقد، والأسباب يجب البحث عنها بعيدا عن العولمة الاقتصادية.. وبعيدا عن القول بأن أمريكا ضحية بريئة لكى نريح أنفسنا.. السبب هو سياسة أمريكا.. وتاريخها.. وأفعالها.. وأفعال حلفائها.. والجميع يرون أن كل شىء لن يعود كما كان قبل 11 سبتمبر.. فقد تحولت الحرية فى أمريكا إلى تقييد فى الحياة اليومية.. وحدث تحول حتى فى الاستراتيجية الأمريكية تجاه العالم وتجاه الحلفاء والأعداء.. وإذا اختارت الولايات المتحدة أن تستجيب بتصعيد حلقة العنف فسوف تكون العواقب مرعبة. وهذا ما يتمناه أسامة بن لادن وجماعته.. وهناك طرق قانونية وبناءة أكثر إنسانية واحتراما.
وإذا كانت أجهزة الاستخبارات فى العالم، ونظم المراقبة الدولية كلها لم تستطع التنبؤ بما حدث، مع أن هذه الشبكة الإرهابية معروفة، فكيف كانت عيون المخابرات الأمريكية مغلقة؟.. والحقيقة أن فشل نظم المخابرات كان كبيرا فى السنوات الأخيرة، خاصة مع شبكة مثل شبكة بن لادن وهى شبكة غير مركزية، وليس لها بنية السلطة الواضحة، ومنتشرة فى أنحاء كثيرة فى العالم، حتى أصبح من غير الممكن اختراقها، ومن المؤكد أن أجهزة المخابرات سوف تطالب بأموال أكثر وستحصل عليها لكى تزيد جهدها، ولكن يبقى أن تقليل مخاطر هذه النوعية من الإرهاب غير ممكن إذا لم تكن البداية بفهم الأسباب والتعامل معها.. وقد يكون أسامة بن لادن بنفسه متورطا فى أحداث 11 سبتمبر، وقد لا يكون متورطا بنفسه، ولكن الشبكة التى يتولى فيها موقع الزعيم هى المتورطة.. وهذه الشبكة مكونة من القوات التى أنشأتها الولايات المتحدة وأنفقت عليها لتحقيق أغراضها وظلت تدعمها ما دامت تخدم أغراضها، والآن تكتفى الولايات المتحدة باعتبار هذه الشبكة هى العدو ومركز الشر دون أن تسعى إلى فهم الأسباب التى تؤدى إلى قيامها بهذه الأعمال الوحشية.. ومن الطبيعى أن تكون هناك أسباب لتجاهل الحقائق الواقعية فى المنطقة رغم أنها معلومة لمن لديه علم بالمنطقة وتاريخها الحديث.
هل يمكن أن تتحول هذه الحرب إلى فيتنام جديدة؟
يقول تشومسكى:إن فيتنام يتكرر ذكرها دائما مما يكشف عن الأثر العميق لمئات السنين من العنف الإمبريالى الغربى على ثقافة وفكر وأخلاق الغرب.. لقد بدأت الحرب فى فيتنام على أنها ضربة أمريكية ضد جنوب فيتنام ولكنها انتهت بتدمير جانب كبير من الهند الصينية.. وكانت آثارها الأسوأ على إندونيسيا.. كذلك كان غزو الاتحاد السوفيتى لأفغانستان فقد كلف الاتحاد السوفيتى كثيرا جدا، وكل حرب يمكن أن تبدأ فى الوقت الذى نريده ولكننا لن نستطيع إنهاءها بإرادتنا وحدنا.
***
فى أعقاب انفجارات 11 سبتمبر سادت الولايات المتحدة موجة غضب، وثورة، وحدثت اعتداءات وهجمات على المساجد، وانتشرت لافتات فى الجامعات- ومنها جامعة كولرادوا المشهورة بأنها أكثر جامعات أمريكا تحررا- تقول هذه اللافتات: عودوا إلى بلادكم يا عرب، وانسفوا أفغانستان.. ما دلالة ذلك؟
يقول تشومسكى: هذا جانب من التيار الذى يستهدف السود أيضا. وهذه التيارات العدائية موجودة فى أمريكا.
ويشير تشومسكى إلى ما قاله زبيجينو بريجنسكى مستشار الأمن القومى الأسبق من أنه شارك فى إعداد الفخ للاتحاد السوفيتى الذى وقع فيه باحتلال أفغانستان، ويقول إن بريجنسكى يشعر بالفخر لأنه ساهم فى تفكيك الاتحاد السوفيتى وهزيمته فى أفغانستان، ولكن هل يشعر بالفخر من تطور أعمال فرق المقاومة الإسلامية للاحتلال السوفيتى وتحولها إلى جيش إرهابى من المسلمين المتعصبين. يجب ألا ننسى أن الولايات المتحدة دولة إرهابية قيادية، وحلفاء أمريكا سعداء عندما يجدون من التأييد من الولايات المتحدة فى قيامهم بأعمال القمع.. روسيا مثلا سعيدة جدا بمساندة الولايات المتحدة لها فى حربها القاتلة فى الشيشان.. والأفغان أنفسهم يحاربون فى الشيشان ضد روسيا، ومن المحتمل أن تكون لهم يد فى الأعمال الإرهابية التى تحدث داخل روسيا.. وإندونيسيا سعيدة بأن تحظى بالمساندة الأمريكية لمذابحها.. والهند سعيدة وتقوم بنفس الشىء فى كشمير.. والصين أيضا وهى تقاتل ضد الانفصاليين فى المقاطعات الغربية.. وهكذا.. ويضاف إلى ذلك أن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت أن إدارة بوش حذّرت من أن حزب ساندينستا فى نيكاراجوا قد أقام علاقات مع منظمات إرهابية فى سعيه للعودة إلى السلطة، وكانت نيكاراجوا قد هاجمت أمريكا بشدة لدرجة أن ريجان أعلن حالة الطوارئ فى أول مايو 1985 لأن سياسات وأفعال حكومة نيكاراجوا تمثل تهديدا للأمن القومى الأمريكى، وللسياسة الخارجية الأمريكية، وأعلن كذلك حظرا ضد نيكاراجوا، وأعلن أن ذلك الحظر رد فعل على النشاط العدوانى لحكومة نيكاراجوا فى أمريكا الوسطى، وكان يقصد بذلك أن نيكاراجوا تقاوم الهجوم الأمريكى، وقبل ذلك بعام كان ريجان قد خصص يوم أول مايو ليكون (يوم القانون) احتفالا بنجاح أمريكا فى الجمع بين القانون والتحرر على مدى 200 عام، وقال إنه بدون القانون ستعم الفوضى بينما كان فى اليوم السابق يعلن أن الولايات المتحدة لن تحترم أحكام المحكمة الدولية التى أدانت الإدارة الأمريكية لاستخدامها غير القانونى للقوة ولانتهاكها المعاهدات بهجومها على نيكاراجوا..
وأمريكا تساند دولا متورطة فى تجارة المخدرات، وتقوم بتسليح قواتها.
وحين سئل تشومسكى: هل يمكنك توضيح كيف أن أمريكا دولة إرهابية قيادية لأن هذا التعبير يذهل كثيرا من الأمريكيين قال: إن المثال هو نيكاراجوا، والولايات المتحدة هى الدولة الوحيدة التى أدينت من المحكمة الدولية بالإرهاب الدولى وهى الدولة الوحيدة التى اعترضت على صدور قرار من مجلس الأمن يناشد الدول بمراعاة القانون الدولى.. وعندما حدث انفجار المبنى الفيدرالى فى أوكلاهوما صدرت الصحف وفيها عناوين تقول: أوكلاهوما تبدو مثل بيروت، وأغفلت أن إدارة ريجان هى التى قامت بعملية تفجير إرهابية فى بيروت عام 1985 كانت شبيهة فعلا بما حدث فى أوكلاهوما.
فقد انفجرت شاحنة خارج مسجد فى توقيت محسوب لقتل أكبر عدد من المصلين عند مغادرتهم للمسجد، وقتل فى هذا الانفجار 80 شخصا وأصيب 250 معظمهم من النساء والأطفال، وهذا وفقا لتقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست بعد الحادث بثلاث سنوات، وكانت هذه الانفجارات تستهدف رجل دين مسلمًا مطلوبا من الإدارة الأمريكية، ولم يكن الأمر سرا، ولا أعرف بماذا تسمى سياسة تؤدى إلى قتل عدد قد يصل إلى مليون عراقى، وربما نصف مليون طفل، وهذا هو الثمن الذى يقول وزير الخارجية الأمريكية إن أمريكا على استعداد لدفعه.. هل يوجد اسم آخر لذلك؟ وهل هناك اسم آخر لموقف الإدارة الأمريكية المؤيد للأعمال الوحشية الإسرائيلية.؟ ومثال آخر: هو تأييد أمريكا لتركيا فى عمليات إبادة شعبها من الأكراد، الأمر الذى قدمت له إدارة كلينتون الدعم و80% من الأسلحة، وكان ذلك عملا وحشيا هائلا وصورة لأسوأ حملات التطهير العرقى والتدمير فى التسعينات من القرن العشرين.. والمسئولية الأساسية فيه تقع على الولايات المتحدة.. ثم ماذا يقال عن قيام الطائرات الأمريكية بتدمير مصنع الشفاء للأدوية فى السودان الذى يعتبر حادثا هامشيا صغيرا فى تاريخ إرهاب الدولة وعملت أمريكا على نسيانه سريعا.. وماذا كان رد الفعل لو أن شبكة القاعدة نسفت نصف مصانع الأدوية فى الولايات المتحدة؟ مع أن الآثار فى السودان أشد قسوة؟
وعندما تقوم الولايات المتحدة أو إسرائيل بمثل هذه الأعمال ماذا يكون رد الفعل؟ طبعا سنقول: حسنا.. خطأ سيئ جدا.. ليست له أهمية.. دعنا ننتقل إلى موضوع آخر.. ودع الضحايا يتعفنون! وهل يمكن أن يكون فى العالم شعب آخر رد فعله هكذا على مثل هذه الأحداث..؟ وماذا يحدث لمن يتجرأ على ذكر الاعتداء الأمريكى على السودان؟ لقد فعلت ذلك، وقلت إن الجريمة الرهيبة فى الحادى عشر من سبتمبر مشابهة لتفجير إدارة كلينتون لمصنع الشفاء فى السودان فى أغسطس عام 1998 فوجهت إلىّ إدانات ملأت مواقع الإنترنت وصفحات الصحف الكبرى، والخلاصة أنهم يعتبرون جرائمنا ضد الضعفاء أمرا طبيعيا مثل الهواء الذى نتنفسه، ويرون طبيعيا أيضا أن نفشل فى تحقيق إصلاحات فى الدول الأخرى، وإعطاءنا الملجأ والحصانة للمجرمين، والسماح للحقائق المفزعة بالسقوط من الذاكرة..
ولم يكن غريبا أن الولايات المتحدة عارضت طلب السودان لمجلس الأمن بأن يقوم بالتحقيق فى المبررات التى أعلنتها أمريكا لتدمير مصنع الأدوية وادعائها أنه مصنع لإنتاج أسلحة دمار شامل..
ويقول تشومسكى: عندما نحصى ضحايا ستالين وهتلر وماوتسى تونج نعتبر أنهم ضحايا أيديولوجية وحشية، وإذا كنا جادين يجب أن نطبق نفس المعايير على أنفسنا، ونحصى أيضا الأعداد التى تعرضت للموت نتيجة للجريمة.
وفى تحليل للمادة المنشورة فى الصحف الأمريكية يقول تشومسكى إنه بعد عام من تدمير مصنع الأدوية السودانى، ازداد معدل الوفيات فى السودان بسبب نقص الأدوية، ومات عشرات الآلاف من الكبار والأطفال بالملاريا والسل وأمراض أخرى كان يمكن علاجها.. وكان هذا المصنع يوفر الأدوية للبشر، وكذلك كان ينتج الأدوية البيطرية لإنقاذ الحيوانات المريضة.. كان هذا المصنع ينتج 90% من الأدوية فى السودان.. والعقوبات الاقتصادية التى فرضتها أمريكا جعلت من المستحيل استيراد الأدوية لتغطية الفجوة الخطيرة، ومن الضرورى أن يتساءل ملايين الناس: كيف ستحتفل المحكمة الدولية بهذه الذكرى، بعد أن كتب سفير ألمانيا فى السودان يقول إنه من الصعب تخمين العدد الحقيقى للقتلى والموتى فى هذه الدولة الأفريقية الفقيرة نتيجة لتدمير مصنع الأدوية، ولن يقل العدد عن عشرات الآلاف، وقد نشر ذلك فى المجلة العلمية هارفارد انترناشونال ريفيو عدد صيف 2001. وكتب توم كارنافين الخبير الذى يتمتع بمعرفة واسعة عن مصنع الأدوية السودانى يقول: إن فقد السودان لهذا المصنع مأساة للمجتمعات الريفية التى تحتاج إلى هذه الأدوية.. ونشر ذلك فى صحيفة لندن أوبزرفر عدد 23 أغسطس 1998 فى الصفحة الأولى.
مصنع الشفاء هذا كان المصنع الوحيد الذى ينتج مادة الكلوروكوين وهى العلاج الأساسى للملاريا، وحتى عندما طلبت حكومة السودان استيراد هذه المادة من بريطانيا إلى أن يتمكن السودانيون من إعادة بناء المصنع، رفضت حكومة العمال البريطانية هذا الطلب، وتجد ذلك منشورا فى صحيفة الأوبزرفر فى يوم 20 ديسمبر 1998. وكان هذا المصنع هو الوحيد الذى ينتج أدوية السل لأكثر من ألف مريض بحوالى جنيه استرلينى واحد شهريا، وكان الوحيد الذى ينتج الأدوية البيطرية فى السودان، وهى دولة يعيش قطاع كبير من سكانها على الرعى.. وكان أيضا الوحيد الذى ينتج الأدوية التى تقتل الطفيليات التى تنتقل من الحيوان إلى الإنسان والتى تعتبر السبب الأساسى لموت الأطفال فى السودان كما جاء فى تقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية يوم 2 أكتوبر 2001.
وهكذا جريمة واحدة.. ولكن معدل الموت ظل يتصاعد بعدها وفقا لتقارير لها احترامها ومصداقيتها، وهى تدل على أن تدمير مصنع الأدوية فى السودان يعادل قيام أسامه بن لادن بهجوم على الولايات المتحدة يتسبب فى معاناة مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال ويتسبب فى موتهم من أمراض يمكن علاجها بسهولة، ومع أن القياس غير عادل، لأن السودان دولة من أقل الدول نموا، والحياة بالنسبة لكثير من السودانيين عبارة عن صراع على البقاء، حيث تنتشر الملاريا المستوطنة، والسل، والالتهاب السحائى، والكوليرا.. والإيدز،والأدوية ضرورة ملحة كما ذكر تقرير مؤسسة نير ايست Near East Foundation وهى مؤسسة محترمة للتنمية تقدم المساعدات الفنية للدول الفقيرة فى الشرق الأوسط وأفريقيا، وتشترك معها جامعات كبرى ومنظمات خيرية، كما تشترك معها وزارة الخارجية الأمريكية وشخصيات مشهورة عديدة.
وكل هذا ليس سوى جانب من الحقيقة، وهناك جانب آخر، هو أن جميع الوكالات التابعة للأمم المتحدة الموجودة فى الخرطوم انسحبت منها الجهات الأمريكية بما فى ذلك لجنة الإنقاذ الدولية التى تعتمد على المساعدات الأمريكية.. والنتيجة أن 50 شخصا على الأقل يموتون فى جنوب السودان بسبب نقص المساعدات الغذائية فى مناطق تعانى من خطر المجاعة.
وعلاوة على ذلك أدى القصف الأمريكى إلى تعطل عملية التسوية بين الجنوب والشمال فى السودان لإنهاء الحرب الأهلية، التى أدت إلى موت مليون ونصف المليون شخص منذ عام 1981 وهذه التسوية كانت ستؤدى إلى تحقيق السلام فى أوغندا وحوض النيل بأكمله.. لكن الهجوم دمر احتمالات السلام وأدى إلى تغير سياسى فى الحكومة السودانية..
***
هل تريدون مثالا آخر؟
يقول تشومسكى: تذكروا اغتيال الزعيم لومومبا الذى أدى إلى غرق الكونغو فى بحر من المجازر المستمرة.. وتذكروا عملية إسقاط الحكومة الديمقراطية فى جواتيمالا عام 1954 الذى أدى إلى استمرار الأعمال الوحشية البشعة لمدة أربعين عاما..
إذن فإن أمريكا لها سجل كبير!
ولم يناقش أحد فى الولايات المتحدة الآثار السياسية المدمرة التى تفوق خسائر الأرواح والمنشآت من هذه الأعمال الإرهابية الأمريكية.. كما لم يناقش أحد بجدية فشل المخابرات الأمريكية فى حالات كثيرة.. كان منها ما حدث قبل تدمير مصنع الأدوية السودانى عام 1998 مباشرة، فقد اعتقلت الحكومة السودانية رجلين مشتبه فى قيامهما بقصف السفارتين الأمريكيتين، فى شرق أفريقيا، وأبلغت حكومة السودان الحكومة الأمريكية بذلك كما أعلن المسئولون الأمريكيون، ولكن الحكومة الأمريكية رفضت عرض السودان بالتعاون مع التحقيقات، وأفرجت السودان عن الرجلين كما نشرت نيويورك تايمز فى 30 يوليو 1999، وقد أصبح الرجلان بعد ذلك من عملاء أسامة بن لادن، وتضيف وثائق المباحث الفيدرالية (إف. بى. آى) الأمريكية أن وكالة المخابرات الأمريكية طلبت من الحكومة السودانية تسليم الرجلين ولكن وزارة الخارجية الأمريكية رفضت ذلك (!) واعترف مسئول كبير فى المخابرات الأمريكية بأن ذلك كان أسوأ فشل للمخابرات الأمريكية لأنه كان أحد الخيوط المرتبطة بجريمة 11 سبتمبر، وكشف مصدر كبير فى المخابرات الأمريكية أن حكومة السودان عرضت تسليم أسامة بن لادن لأمريكا ورفضت الحكومة الأمريكية هذا العرض أكثر من مرة بسبب رفض الإدارة الأمريكية لوجود أية صورة للتعاون مع حكومة السودان (!) بل إن حكومة السودان عرضت تقديم قاعدة بيانات استخباراتية واسعة عن أسامه بن لادن و200 من الأعضاء القياديين فى شبكة القاعدة قبل هجمات سبتمبر، وعرضت على واشنطن ملفات متضخمة تحتوى صورا فوتوغرافية، وسيرة ذاتية بالتفصيل عن الكوادر الأساسيين، ومعلومات حيوية عن أموال القاعدة فى أنحاء العالم، ولكن الإدارة الأمريكية رفضت قبول هذه المعلومات لإبداء الكراهية للحكومة السودانية، ووفقا لاستنتاجات المصدر الكبير فى المخابرات الأمريكية فإن هذه المعلومات قد توافرت لنا، ربما كان بإمكاننا منع هجمات سبتمبر.. وهذا منشور فى صحيفة الأوبزرفر فى 30 سبتمبر.
***
يقول تشومسكى: لو أننا نتعامل مع أنفسنا بنفس القواعد والمعايير التى نتعامل بها مع أعدائنا فسوف نجد أن أمريكا قامت بأعمال إرهابية كثيرة.. ولو كنا نتبع قاعدة أخلاقية لكنا نفذنا القاعدة التى تقول: انظر فى المرآة (!).
ويقول تشومسكى: ما فعلته أمريكا فى كوبا من أعمال إرهابية فى أواخر عام 1959 مثال صارخ على ما أقول.. فقد قامت أمريكا بأعمال وحشية تجعل لكوبا الحق فى اللجوء إلى العنف ضد الولايات المتحدة لو طبقت المبدأ الذى تتعامل به أمريكا مع الآخرين.
***
وتشومسكى له كتاب بعنوان (ثقافة الإرهاب) قال فيه: إن المساحة الثقافية الأمريكية فيها أضواء من فكر التحرريين الذين يمارسون المعارضة الجديرة بالاحترام، ويقول تعليقا على ذلك: إن صحيفة نيويورك تايمز نشرت يوم 16 سبتمبر 2000 أن الولايات المتحدة طالبت باكستان بقطع معونات الإغاثة الغذائية لشعب أفغانستان ومنع الشاحنات التى تنقل الغذاء إلى أفغانستان.. وهذا يعنى أن أعدادا من الأفغان سيموتون من الجوع وهم ليسوا من تنظيم طالبان ولا القاعدة ومعظمهم لاجئون داخل بلدهم.. وكأن أمريكا كانت تريد الانتقام من ضحايا طالبان، وهل يمكن أن نتصور أن يقول أحد: دعنا نفعل شيئا يؤدى إلى موت أعداد كبيرة من الأمريكيين من الجوع، كيف كنا سنفكر فى هذه المشكلة؟ مع أن القياس غير عادل، لأن أفغانستان دمرها الاحتلال السوفيتى، والفساد، وتحملت الحروب لصالح أمريكا، ونتيجة لكل ذلك تعيش أسوأ الأزمات الإنسانية..
***
ويتساءل تشومسكى: هل يجب السماح بالاغتيالات كما تفعل المخابرات الأمريكية؟
ويجيب: يجب عدم السماح للمخابرات الأمريكية بتنفيذ عمليات الاغتيال، ولكن ذلك يحدث.. وليس القتل فقط.. فهل يسمح للمخابرات الأمريكية بتفجير سيارة ملغومة فى بيروت كما حدث بالفعل، وليس ذلك سرا فقد تناقلته المصادر المختلفة ثم تعمد الجميع النسيان.. وهل كان من المقبول أخلاقياً السماح للمخابرات الأمريكية بإنشاء جيش إرهابى فى نيكاراجوا لمهاجمة أهداف معينة منها الجمعيات التعاونية الزراعية وهى بدون حماية، ومنها العيادات الصحية، وتم ذلك بأوامر مباشرة من وزارة الخارجية الأمريكية وكانت هذه الأوامر بعد صدور حكم المحكمة الدولية بإيقاف الحملة الأمريكية الإرهابية على نيكاراجوا ودفع تعويضات كبيرة عما حققته من خسائر.
يقول تشومسكى: بماذا نسمى ذلك؟
ويقول: بماذا نسمى إمداد أمريكا لإسرائيل بطائرات هليوكوبتر هجومية لتنفيذ عمليات الاغتيال السياسية والهجمات لتدمير الأهداف المدنية؟ وذلك ليس من المخابرات الأمريكية هذه المرة، ولكنه تم بقرار من إدارة كلينتون دون أن يلقى اعتراضا..
ويقول: إذا قارنت ما تفعله أمريكا وتسميه الحرب البسيطة أو المنخفضة الحدة لا يختلف عما فى كتيبات الجيش الأمريكى والقانون الأمريكى عن التعريف الرسمى للإرهاب.. فالإرهاب هو استخدام وسائل تستهدف المدنيين لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أهداف أخرى..
هذا التعريف ينطبق على جانب من أعمال الدولة بل هو جزء من سياستها الرسمية..
الإرهاب إذن ليس سلاح الضعيف كما يقال..
والضحايا يعرفون ما يفعله الآخرون بهم.. ولكن المجرمين يفضلون تجاهل الحقيقة.
***
هذا ما يقوله أكبر مفكر يهودى أكاديمى أمريكى.
وليس هذا كل ما يقول..
ففى كتابه الصغير أفكار وحقائق موثقة ولكنها تصدم وتنبه وتكشف الكثير من الجوانب الخفية..
لذلك يستحق الأمر مواصلة القراءة فى هذا الكتاب المهم الذى صدر فى أعقاب 11 سبتمبر.. التى تعتبر جريمة العصر بحق.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف