أمن المجتمع وهيبة الدولة

لا تخلو الصحف ونشرات الأخبار كل يوم من أخبار الاعتداء على المنشآت العامة واستخدام زجاجات المولوتوف لإشعال الحرائق، وخطف النساء والأطفال - والرجال أحياناً - والقتل بأسلحة من كل الأنواع ووصلت الاعتداءات المسلحة إلى المسئولين عن حماية البلد وأهله، ولم تعد من الأخبار الغريبة ما نقرأه ونسمعه عن حوادث السرقة بالإكراه والاستيلاء على أراضى الدولة وأملاك الناس وترويج المخدرات المعروفة وغير المعروفة.. مثل هذه الجرائم لم تعد أخباراً غريبة بعد أن اعتاد الناس على سماعها كما اعتادوا على فرض الإتاوات والإرغام على توقيع شيكات وإيصالات أمانة.
وباختصار تحول الحال بعد ثورة 25 يناير التى هبّ فيها الشعب من أجل تطهير البلاد وتحقيق العدل والعيش والحرية لتظهر «البلطجة» بصورة لم يسبق لها مثيل لتهدد أمن الناس وأرواحهم وأعراضهم وحرياتهم وتمثل اعتداء على هيبة الدولة لا يمكن السكوت عليه. ظهرت البلطجة فى صور جديدة وغريبة على المجتمع المصرى.. لم تعد كما كانت محصورة فى النشل والسرقة، ولكنها صارت ظاهرة أقرب إلى الإرهاب، ولذلك يطلق عليها علماء الاجتماع «الإرهاب الاجتماعى» ويسميها البعض «العنف الفوضوى».. ظهرت البلطجة وانتشرت.. لم يعد لها مكان فهى فى كل البلاد تقريباً، ونشرت الخوف فى نفوس الكبار والصغار، ووصل إلى الدرجة التى يحذر منها البعض على أنها تمثل تهديداً للأمن القومى لأنها لم تعد جريمة فردية يرتكبها مجرم واحد خارج على القانون، ولكنها تحولت إلى جريمة جماعية يشترك فيها أكثر من شخص واحد، وأحياناً يشارك فيها كثير من المواطنين الذين لا يمكن اعتبارهم مجرمين، ولكنهم مدفوعون بأسباب وعوامل نفسية منها الغضب، والشعور بالحرمان، والضيق بسبب العجز عن تدبير تكاليف الحياة مع ارتفاع الأسعار وانتشار البطالة، وهؤلاء يعبرون عن حالة «انفجار».
الغريب أن فى مصر قانوناً يتضمن عقوبات على كل صور البلطجة، أضيف إلى قانون العقوبات منذ عام 1998. وعندما كان مجلس الشعب يناقش هذا القانون اعترض بعض الأعضاء على كلمة البلطجة باعتبارها كلمة عامية ليس لها أصل فى اللغة العربية، فقيل لهم إنها كلمة ذات أصل تركى ولها أصل فى قاموس «المنجد» بمعنى قطع الأشجار وإقامة الحصون، وفى كلية الحقوق بجامعة القاهرة رسالة دكتوراه عن جرائم العنف الجماعى للدكتورة هالة أحمد غالب، وفيها أول تعريف علمى للبلطجة على أنها «سلوك فرد أو مجموعة أفراد لا يربطهم تنظيم معين»، يمارسون العنف أو التهديد لفرض السطوة الإجرامية، وتحقيق النفوذ من أجل الحصول على كسب غير مشروع، وكذلك وضع مركز بحوث الشرطة تعريفاً للبلطجة على أنها «استخدام العنف أو التهديد به» لإلقاء الرعب فى نفس الغير للحصول على منفعة مباشرة أو غير مباشرة، مادية أو معنوية، للشخص نفسه أو للغير، أو لفرض السطوة، أو المساس بهيبة الدولة، أما فى التشريع الجنائى فإن البلطجة هى «الترويع والتخويف» عن طريق قيام الشخص بنفسه أو بواسطة غيره باستعراض القوة أو التهديد باستخدامها، لإلحاق الأذى بالشخص نفسه أو لزوجته أو لأحد من أبنائه أو أقاربه، أو التهديد بالافتراء عليهم، أو سلب أموالهم، أو لإرغامهم على الامتناع عن القيام بعمل مشروع.. وللدكتورة هالة غالب بحث جديد عن الرؤية القانونية لجرائم البلطجة، تقول فيه إن تزايد أحداث البلطجة سببها الفراغ الأمنى الذى شجّع الخارجين على القانون والهاربين من السجون وغير المنتمين لهذا البلد على التعرض للمواطنين فى الشارع وفى بيوتهم.
ولدينا القانون رقم (10) لسنة 2011 الذى يعاقب على استعراض القوة لإرهاب الآخرين أو التهديد باستخدام القوة ضد الشخص أو زوجته أو أحد أقاربه ويشمل ذلك كل ما يسبب الرعب للآخرين، أو يهدد شعوره بالأمن، أو يعرض حياته أو سلامته للخطر، أو يسبب الضرر لشىء من ممتلكاته أو مصالحه، أو يمس حريته الشخصية أو يمس شرفه، أو يرغمه على عمل على غير إرادته.. والأساس فى جريمة البلطجة هو «الترويع والتخويف».
وتلخص الدكتورة هالة غالب الأسباب التى جعلت البلطجة تنتشر إلى هذا الحد فتقول إن «الانفلات الأمنى» كان سبباً ولكنه لم يكن السبب الوحيد، وهناك أسباب أخرى مثل: الانهيار الأخلاقى، وتغير أنماط السلوك، واستخدام بعض رجال الأعمال للمنحرفين لفرض سيطرتهم وللاعتداء على الخصوم وعلى أملاكهم، وتمثل البطالة سبباً مهماً لتحول الشباب إلى العنف والبلطجة، كما تمثل المناطق العشوائية بؤراً لتفريخ البلطجية، ولإدمان المواد المخدرة، وهى مناطق بعيدة عن سيادة الأجهزة الرسمية، ويضاف إلى ذلك انتشار السلاح وتجارة المخدرات مع الفقر. وقد وجد البلطجية سوقاً رائجة أيام الانتخابات، وساعد على ذلك بطء إجراءات التقاضى والتهاون فى تنفيذ القانون وأحكام القضاء.
والحكومة من جانبها تبذل جهداً ملحوظاً لمحاصرة البلطجة، والضرب على أيدى البلطجية، وتواجد الشرطة وفاعليتها من أهم الأسباب التى جعلت هذه الظاهرة الأخيرة تتراجع خطوة ليعود إلى الناس الشعور بالأمن يوماً بعد يوم، ولكن روح البلطجة أو النزعة إلى استخدام العنف وترويع الآمنين لا تزال موجودة بدرجات مختلفة وتتفجر من حين لآخر وتظهر فى التجمهر، وقطع الطرق، وتعطيل القطارات والمواصلات، واستخدام الأسلحة البيضاء والأسلحة النارية أو التهديد بها، والجرأة فى الاستيلاء على أملاك الدولة وأملاك المواطنين، واعتراض قوات الأمن حين تتحرك لفرض النظام وحفظ الحقوق وحماية حرية المواطنين.
الحكومة تعمل، ولابد من اعتبار الأمر معركة من أجل استعادة الأمن والحرية والاستقرار، هى معركة تخوضها قوات الأمن ولابد أن يشارك فيها المواطنون ليكونوا السند والظهير لهذه القوات.. والمهم أن يشارك المواطنون بأن يلتزموا بالقانون ويحترموا حقوق وحريات الناس لكى يتم حصار البلطجة فى أضيق نطاق ويسهل القضاء عليها.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف