أهل السنة كما يراهم الشيعة
كتب الشيعة مليئة بالسباب للخلفاء الأربعة، وبعضها يمتد فيه السباب إلى أهل السُنّة جميعا، ولكن هناك فرقا بين كتب الشيعة المعتدلة وكتب الشيعة الغالية أو المتطرفة، كما أن هناك فرقا بين كتب الشيعة القديمة وكتبهم الحديثة. ذلك لأن الكتب القديمة وضعت فى وقت اشتد فيه الصراع السياسى على الحكم بين الشيعة والأمويين ثم العباسيين، ويضاف إلى ذلك أن بعض الكتب القديمة سجلت أفكارا شاذة وعقائد مدسوسة على الإسلام وجد أصحابها فى جو الخلاف بين السُنة والشيعة والحروب العقائدية والفقهية بينهما ثغرة ينفذون منها ويدسون من خلالها أفكارهم هم وعقائدهم هم ونسبوها إلى الشيعة، بل نسبوها- أيضا- إلى الإسلام.
على الجانب الآخر نجد كتبا للشيعة تتحدث عن أهل السُنة باحترام، وتدرس فقه مذاهب السّنة وتأخذ منه دون حرج، كما نجد أهل السُنة يأخذون من فقه الشيعة خاصة فى العصر الحديث وعلى سبيل المثال أخذ السُنة من فقه الشيعة نظرية الوصية الواجبة، فى حالة وفاة الابن فى حياة أبيه، فإن أبناءه يرثون من الجد نصيب أبيهم المتوفى باعتبار أن هذه وصية واجبة من الجد لأحفاده، وفى الأحوال الشخصية أخذ أهل السُنة من فقه الشيعة مبدأ عدم وقوع الطلاق ثلاث مرات فى جلسة واحدة أو فى لفظ واحد.. وهكذا.
والشيعة عموما يعلنون الشكوى من أهل السُنة لأنهم لا يعلمون عنهم الكثير ويصدرون عليهم أحكاماً دون علم أو تمحيص. وفى كتاب (أصل الشيعة وأصولها) لسماحة الإمام الشيعى محمد الحسين آل كاشف الغطاء يقول: إن المسلمين جميعا إما سُنة وإما شيعة، وكل المذاهب والطوائف المختلفة فى الإسلام لا بد أن ترجع وتندمج فى الأولى أو الثانية، وعلماء الشيعة يعرفون مذاهب إخوانهم السنيين كمعرفتهم بمذاهبهم، حتى أنهم ألّفوا الكتب الكثيرة عنها، مثل كتب: الانتصار للسيد المرتضى، والخلاف للشيخ الطوسى، والتذكرة للعلاّمة الحلى، وغيرها كثير، أما السُنة فلا يعرف حتى علماؤهم- فضلا عن عوامهم- شيئا عن حقيقة الشيعة وواقع أمرهم، بل على العكس يرون أنهم خارجون عن حظيرة هذا الدين، وأنهم جماعة هدامة، وينسبون كل فظيعة إليهم، فإذا وجد الشيعة ذلك فى كتب السُنة يدفعهم الحقد والغضب، فيقابلونهم بمثل ذلك أو بما هو أسوأ منه، وهكذا تمزقت الوحدة وتفرقت الكلمة وذلك أقصى أمانى المستعمر.
لذلك كان العالم الشيعى محمد الحسين آل كاشف الغطاء يدعو أهل السُنة إلى تفهم عقائد الشيعة، وفروعها، ومبدأ تكوينها، وأسباب نموها، عسى أن يخفف ذلك من غلواء القوم ويكسر شدة ثورتهم على الشيعة، ويقول إن أقلام الأساتذة المصريين فى كل مناسبة تطعن فى الشيعة وتنسب إليهم الأضاليل والأباطيل التى كانت تنسب إليهم فى العصور المظلمة والقرون الوسطى، عصر ابن خلدون وابن حجر وأمثالهما، والسُنة ما زالوا حتى اليوم ينظرون إلى الشيعة على أنهم أهل البدع والأهواء والسحنة السوداء، وقد سرى بغضهم والطعن فيهم إلى الخلفاء الفاطميين لأنهم شيعة، وتلصق بهم اتهامات بأنهم أدعياء فى النسب، قرامطة فى المذهب. بل يتهمون بأن نسبهم ينتهى إلى يهودى فى قول بعض، وعقائدهم مصدرها ملحد، هذا مع ما للفاطميين من الخدمات الكبرى للإسلام عموما ولمصر خصوصا، فقد نشروا العلم والثقافة فى مصر، ورفعوا منار المعارف، وشيدوا الجوامع، وأنشأوا الأساطيل والقلاع للدفاع عن بلاد الإسلام.
***
ويقول الشيخ كاشف الغطاء: ألا يستفزك العجب من حملات المصريين على الفاطميين وهم يعلمون أن درة مفاخر مصر هو جامع الأزهر وهو من مآثرهم ومنشآتهم، ذلك المعهد الجليل الذى تخرج فيه المئات من كبار العلماء والساسة أمثال الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول ونظائرهما ممن كبرت خدماتهم لمصر وللإسلام، وإن بقاء هذه المؤسسة الدينية أكثر من ألف سنة وما تناله من التوفيق والاتساع والرقى لأقوى شاهد على إخلاص بانيه، ولكن المؤسف المؤلم أن الفاطميين- مع ذلك كله- عند المصريين أدعياء فى النسب، ملاحدة فى الدين لأنهم روافض، ولأنهم شيعة، ومن الشيعة أخذوا عقيدة الوصية لعلى بن أبى طالب عليه السلام، وقد أنكرها هو ولم يرضها فى حياته، كما لم يرض غيرها من الألقاب التى وضعها الشيعة له.
ويقول الشيخ كاشف الغطاء: إن بعض الكُتّاب من السُنة يذكرون أشياء غير حقيقية لتشويه الشيعة، من ذلك كتاب صدر فى مصر باسم (الحركة الفكرية) جاء فيه أن الشيعة يقفون بعد صلاة المغرب كل ليلة على باب السرداب الذى اختفى فيه الإمام الثانى عشر ويهتفون بإمامهم المنتظر: اخرج.. اخرج. ويعلق على ذلك بأن المدهش الغريب أن سامراء بلد سنّية، وجامع الغيبة الذى فيه هذا السرداب لا يزال فى تصرف السنيين يقيمون تحت قبته صلاة الجمعة ويؤدون فيه الأوقات الخمسة، ولا نصيب فيه للشيعة إلا الاستطراق والدخول فيه للزيارة والصلاة والدعاء، لأن ثلاثة من أئمتهم كانوا يتهجدون فيه بالأسحار، ويتفرغون فيه للعبادة، فى ذات الوقت الذى كان فيه المتوكل خليفة المسلمين يحيى الليالى فى الخمر مع المغنيات والراقصات وأهل المجون والخلاعة، كعبادة المخنث وغيره، إلى أن هجم عليه الأتراك وقطعوه هو ووزيره الفتح بن خاقان بسيوفهم وهم سكارى.
***
يقول الشيخ كاشف الغطاء: هل يلام الشيعة على تقديس منازل أئمتهم وبيوتهم التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؟. وهو يقول: إنه قدم كتابه هذا (أصل الشيعة) من أجل تلطيف اللهجة وتقارب الفريقين، لكنه- كما يقول فى الطبعة السابعة- إنه لم يجد إلا ما يوجب اليأس ويحطم الأمل، وكأن العقائد والآراء صارت طبيعة موروثة (عند السُنة) لا يستطيعون نزعها والنزوع عنها، ويضيف: ولا لوم على العوام من الفريقين فى سوء ظن كل فريق بالآخر وعداوته لأخيه، إنما اللائمة على العلماء العقلاء الذين يؤججون نار العداوة والبغضاء، وهو لذلك يصرح فى هذه الطبعة بأنه وافق على إعادة الطبع على يأس من الفائدة المتوخاه!
هكذا يعبّر واحد من كبار علماء الشيعة الذين عاشوا فى مصر وخالطوا أهلها ونشروا كتبهم فيها عن الغضب من تعمد أهل السُنة الإساءة إلى الشيعة عن جهل، وعن عدم سعيهم إلى معرفة عقائد الشيعة. وهذا العتاب فى محله. وقد رأينا واحدا من أكبر شيوخ الأزهر وأساتذته وصل إلى منصب وزير الأوقاف فى مصر هو الدكتور عبد المنعم النمر يقرر أنه لم يدرس مذهب الشيعة إلا مؤخرا. وهو فى كتابه عن الشيعة لم يبحث إلا عن الأفكار الغريبة والشاذة التى يعارضها أهل السُنة ويستنكرونها، كما نلاحظ أن معظم شيوخ السُنة عكفوا على دراسة مذاهب السُنة فقط وكأن الإسلام ليس فيه مذهب الشيعة سواء اتفقنا أو اختلفنا معه، لولا أن قرر الشيخ محمود شلتوت وهو شيخ الأزهر تدريس مذهب الشيعة ضمن منهج الفقه المقارن فى كلية الشريعة، وأصدر الفتوى الشهيرة بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية، وبسبب هذه الفتوى واجه ثورة من بعض رجال الدين فى السعودية حتى أن كتابا صدر عن تكفير الشيخ شلتوت!!
وفى كتاب أصل الشيعة خطاب من أحمد زكى باشا الذى كان يطلق عليه شيخ العروبة يقول فيه: إن أهل السُنة يجهلون أمورا كثيرة عن الشيعة لأنهم كانوا لا يتكلمون عن أنفسهم ولا يعرفون بمذهبهم، ويصف كتابات أحمد أمين عن الشيعة بأنها خرافات كتبها من غير تحقيق ولا مراجعة، ويشير إلى شكوى أحد كتاب الشيعة من التضليل فى بعض كتابات أهل السُنة عن الشيعة ويقول: إن السبب عدم إفضاء الشيعة بعقيدتهم، وبذلك أفسحوا المجال للترهات التى نشأت بسبب الخصومة السياسية التى أوجدها العثمانيون، فكانت مصر كما كانت إيران من ضحاياها، لكن سياسة الاستعمار من العثمانيين أو غيرهم لا تبالى بالحقائق.
ويقول شيخ العروبة أحمد زكى باشا فى رسالته: إن الدفاع عن زواج المتعة ليس مقنعا، وماذا نصنع بالولد الذى جاء عن زواج المتعة بعد أن سافر أبوه بعد انتهاء العقد؟. ورد الشيخ كاشف الغطاء أن الزوج فى زواج المتعة يجب أن يعرف الزوجة بنفسه حتى إذا ولدت ولدا ألحق به أينما كان كى لا تضيع الأنساب، كذلك فإن الزوجة عليها أن تقضى فترة العدة بعد انتهاء العقد حتى لا تختلط الأنساب. كما يجيب عن تساؤل حول عدم لجوء الأشراف من الشيعة إلى زواج المتعة بأن ذلك سببه ترفع منهم عن هذا النوع من الزواج.
***
وأهل السُنة فى نظر الشيعة ظالمون لأنهم يحكمون على مذهب الشيعة دون علم بأصول هذا المذهب وعقائده، ويذهب البعض فى عدائه للشيعة إلى حد الطعن والغمز واللمز بأهل البيت علىّ وفاطمة والحسن والحسين ويضرب على ذلك مثلاً بكتاب عنوانه (الإسلام الصحيح) تأليف النشاشيبى يقول: إنه ينكر كل فضيلة وردت فى آية أو رواية فى آل البيت، فآية التطهر مثلا (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) يفسّرها النشاشيبى على أنها مختصة بزوجات النبى صلى الله عليه وسلم وبالأخص السيدة عائشة، أما السيدة فاطمة بضعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يخرجها بالقطع واليقين ممن تشير إليهم هذه الآية، وآية المباهلة، وآية القربى، كلها عند النشاشيبى تتحدث عن قوم غير علىّ وفاطمة والحسن والحسين وآلهم، ويقول كاشف الغطاء: إن هذا التطاول فى كتابات بعض أهل السُنة على الشيعة وأئمتهم هو الباعث لبعض الشيعة على مقابلة الإساءة بالإساءة، فيتطاولون على كرامة الخلفاء الراشدين وعلى السُنة جميعا، وهكذا دواليك ينشر كل فريق مطاعن الآخر، ثم يقول الشيخ كاشف الغطاء تعليقا على ذلك: وما ذنب الشيعة سوى موالاة أهل بيت نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ويقول أيضاً: لقد جُبت معظم مدن العراق، وكنت وأنا أتجول فى لواء (الدليم) أسمع عن الشيعة وعاداتهم وأوصافهم الخلقية ومصيرهم بعد الموت مالا يكاد يخرج عن أساطير ألف ليلة وليلة، مع أن مساكن الشيعة فى الفرات الأوسط لا تبعد عن مساكن إخوانهم السنيين فى لواء الدليم إلا بضعة أميال، وصادف أنى زرت مصر وفلسطين وسوريا واتصلت بالطبقة المثقفة فى هذه الأقطار العربية فسمعت عن أنهم يقولون إن للشيعى ذيلا وأن الشيعة لهم أرواح تتقمص فى أجساد بعض الحيوانات بعد أن تفارق أجسادهم وأنهم لا يعرفون الأكل مثلما تعرفه بقية الطوائف، وأنهم.. وأنهم إلى آخر ما هنالك من عجائب وغرائب.
والكاتب الشيعى عبد الرازق الحسنى فى مقدمته لكتاب أصل الشيعة يتهم كتب أهل السُنة بأن فى بعضها أخباراً عن الشيعة وتاريخهم فيها من الخلط والتناقض والتضليل ما يضحك الصبيان، ويدمى القلوب فى آن واحد، يضحك الصبيان لعدم احتمال قبولها من عقل مفكر ووجدان سليم، ويدمى القلوب لتشويهها حقيقة طائفة من الطوائف الإسلامية التى أبلت فى الدفاع عن الإسلام بلاء حسنا بمطاعن غريبة هى منها بريئة.
ويقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: إن شابا عراقيا من البعثة العلمية التى تدرس فى دار العلوم بمصر كتب إليه يقول: إن علماء الأزهر فى مصر يتحدثون عن علماء النجف فيكيلون لهم الثناء والإعجاب، ولكن يردفون ذلك بقولهم: (ولكن بالأسف أنهم شيعة!) يقــــول ذلك الشاب: فكنت أستغرب ذلك وأقـــول لهم: ومــا الشيعة؟. وهل هى إلا مذهب من مذاهب الإسلام وطائفة من طوائف المسلمين؟. فيقول قائلهم: كلا، ليست الشيعة من المسلمين، ولا التشيع من مذاهب الإسلام، بل لا يحق أن يكون أو يعد مذهبا أو دينا، إنما هى طريقة ابتدعها الفرس، وقضية سياسية لقلب الدولة الأموية إلى العباسية، ولا علاقة لها بالأديان، ويضيف الشاب فى رسالته إلى الشيخ كاشف الغطاء: وقد داخلنى من قول هؤلاء الأعلام شك فى أمر تلك الطائفة وصرت على شفا ريبة من إسلامهم.
ويعلق الشيخ كاشف الغطاء على ذلك بأنه كتب إلى الشباب ما يلائم عقليته، وما يبعد عنه الشك والارتياب فى أمر الشيعة، ولكنه شعر بالاستغراب والشك فى صحة هذه الواقعة، إذ كيف يمكن أن يبلغ الجهل والعناد بعلماء بلد فى طليعة المدن العلمية الإسلامية، وهى مطمح أنظار العرب وكافة المسلمين؟. كيف يردد بعض علمائها ما يقوله الجهلة والعامة؟. إلى أن وقع فى يدى كتاب الكاتب الشهير أحمد أمين (فجر الإسلام) فوجدته يكتب عن الشيعة خبط عشواء، فقلت إذا كان مثل هذا الرجل يكتب عن الشيعة مثل هذه الأقاويل فما حال العامة؟. أفلا يثير الحفيظة فى صدور عامة الشيعة ما يقوله من أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام.. الخ؟. ومن الغريب أن أحمد أمين بعد انتشار كتابه زار مدينة العلم فى النجف ضمن الوفد المصرى الذى زارها، فعاتبناه على تلك الهفوات عتابا خفيفا، وصفحنا صفحا جميلا، وأردنا أن نمر عليه كراما ونقول له سلاما، وكان أقصى ما عنده من الاعتذار عدم الاطلاع وقلة المصادر، فقلنا: هذا أيضا غير سديد، فإن من يريد أن يكتب عن موضوع يلزم عليه أولا أن يستحضر العدة الكافية، ويستقصى الاستقصاء التام، وإلا فلا يجوز له الخوض فيه، وكيف أصبحت مكتبات الشيعة، ومنها مكتبتنا المشتملة على ما يناهز خمسة آلاف مجلد أكثرها من كتب علماء السُنة، وبلدة النجف فقيرة فى كل شىء إلا من العلم، ومكتبات القاهرة ذات العظمة والشأن خالية من كتب الشيعة إلا شيئا لا يذكر، فكيف لقوم يكتبون عن الشيعة دون علم كاف بمذهبهم بينما الشيعة يكتبون عنهم كل شىء؟ وأشد من هذا غرابة أن جماعة من أبناء السُنة فى العراق لا يعرفون شيئا من أحوال الشيعة فى بلدهم مع دنو الدار.
***
ويستطرد الشيخ كاشف الغطاء فى الحديث عن جهل أهل السُنة بحقيقة الشيعة فيقول: إن شابا من شيعة بغداد سافر إلى لواء (الدليم) وهو اللواء المتصل ببغداد، وأكثر أهاليه من السُنة، فكان يحضر نواديهم فيروق لهم حديثه وأدبه، ولما علموا أنه من الشيعة صاروا يعجبون ويقولون: ما كنا نحسب أن فى هذه الفرقة أدبا فضلا عن أن يكونوا ممن لهم علم أو دين، وما كنا نظنهم إلا من وحوش الفلوات (!) ثم بعد ذلك سافر هذا الشاب إلى سوريا وعرج منها إلى مصر فكتب إلىّ: يا سيدى الحال عن الشيعة عند أهالى مصر هى الحال التى أنبأتك بها فى لواء الدليم، والشيعة مصورة بأبشع صورة، وأضاف مما نجده فى الصحف المصرية والسورية وغيرها، وما تنشره مقالاتهم من قذف تلك الطائفة ونبذهم.
ويكرر الشيخ كاشف الغطاء الرفض والنقد لما ذكره أحمد أمين عن الشيعة فى كتابه (فجر الإسلام) وخاصة قوله: (.. فاليهودية ظهرت فى التشيع بالقول بالرجعة، وقال الشيعة: إن النار محرمة على الشيعى إلا قليلا، وقال اليهود: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، والنصرانية ظهرت فى التشيع فى قول بعضهم: إن نسبة الإمام إلى الله كنسبة المسيح إليه، وقالوا: إن اللاهوت اتحد بالناسوت فى الإمام، وإن النبوة والرسالة لا تنقطع أبدا فمن اتحد به اللاهوت فهو نبى، وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح، وتجسيم الله، والحلول، ونحو ذلك من الأقوال التى كانت معروفة عند البراهمة والفلاسفة والمجوس قبل الإسلام.
ويلمح الشيخ كاشف الغطاء إلى أن مثل هذه الأقوال هى التى تعمل على تمزيق وحدة المسلمين، ويقول: مَنْ مِنْ الشيعة أراد هدم الإسلام؟ والطبقة الأِولى منهم تضم أعيان صحابة النبى صلى الله عليه وسلم، مثل: سلمان الفارسى، وأبى ذر الغفارى، وعمار بن ياسر، والمقداد والزبير بن العوام، والفضل بن عباس، وأبى أيوب الأنصارى، وأبى بن كعب سيد القراء، ومنهم أيضا أنس بن الحرث بن نبيه الذى سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول:إن ابنى الحسين (ع) يقتل فى أرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره، فخرج أنس، وقتل مع الحسين، وورد ذلك فى كتاب (الإصابة) وكتاب (الاستيعاب) وهما من أوثق ما ألف علماء السُنة فى تراجم الصحابة، وفى كتب التراجم الكثير عن الكثير من الصحابة الذين ثبت تشيعهم، وقد سجل علماء الشيعة أسماءهم فى كتب مثل (الدرجات الرفيعة فى طبقات الشيعة) للسيد على خان صاحب (السلافة) وغيرها من الكتب الجليلة مثل (طراز اللغة).
ثم يذكر الشيخ كاشف الغطاء الطبقة التالية من الشيعة بعد الصحابة وهى طبقة التابعين وتابعيهم ومنهم الأحنف بن قيس، وسعيد بن جبيــر، وسعيد بن المسيب، وكثيرون غيرهم، ويقول: أهؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام أم الطبقة التى تليهم من التابعين وهم مؤسسو علوم الإسلام، أمثال أبى الأسود الدؤلى مؤسس علم النحو، والخليل بن أحمد مؤسس علم اللغة والعروض، وأبو مسلم معاذ بن مسلم الهراء، مؤسس علم الصرف. وقد نص السيوطى فى الجزء الثانى من كتابه (المزهر) أنه كان شيعيا، ويعقوب بن إسحاق السكيت إمام العربية ومؤسسو علم التفسير من الشيعة أمثال: الحبر عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله الأنصارى، وأول مفسر جمع كل علوم القرآن هو محمد بن عمر الواقدى الذى ذكره ابن النديم وغيره، ونص على تشيعه وأشار إلى تفسيره (الرغيب).. ومؤسس علم الحديث هو أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب (الأحكام والسنن والقضايا) وهو من المختصين بأمير المؤمنين علىّ (ع) وصاحب بيت ماله بالكوفة، ثم تلاه ولداه على بن أبى رافع كاتب الإمام علىّ أمير المؤمنين، وهو أول من صنف فى الفقه بعد أبيه، ثم أخوه عبيد الله بن رافع وهو أول من ألف من المسلمين فى التاريخ.
***
ومؤسسو علم الكلام من الشيعة ومنهم أول من تكلم فى علم الكلام أبو هاشم بن محمد الحنفية، ثم عيسى بن روضة التابعى وهو أسبق من واصل بن عطاء وأبى حنيفة، ثم تلاهما من أعلام الشيعة فى علم الكلام قيس الماصر، ومحمد بن الأحول وآل نوبخت وهم عائلة علم جليلة استمرت سلالتهم أكثر من مائة سنة ولهم مؤلفات عالية مثل فص الياقوت وغيره، وكذلك هشام بن الحكم، وابن مالك الضحاك الحضرمى.. ويقول الشيخ كاشف الغطاء بعد سرد كل هذه القائمة من أسماء علماء الشيعة الذين أسسوا علوم الإسلام: قل لنا يا صاحب (فجر الإسلام أهؤلاء هم الذين أرادوا هدم الإسلام أم الذين أسسوا علم السير والآثار ودونوا سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته وغزواته وأول من صنف ذلك.. أبــان بن عثـمان الأحمــر التــابعى المتوفى سنة 140 هـ، وهو من أصحاب الإمام جعفر الصادق، ثم هشام بن السائب الكلبى، ومحمد بن إسحاق المطلبى، والجميع من أعلام الشيعة وكل من كتب فى هذا الفن فهو عيّال عليهم، ثم تلاهم أعاظم المؤرخين وكلهم من الشيعة: ويورد عشرات الأسماء، كما يورد أسماء عشرات من شعراء فى طبقة الصحابة، وطبقة التابعين، وطبقة تابعى التابعين، وكذلك الطبقة الرابعة ويعتبر منهم المتنبى وأبو العلاء، وكذلك أبو الفرج الأصفهانى صاحب (الأغانى) ثم يذكر أسماء عشرات الملوك والأمراء والوزراء من الشيعة فى الدولة الفاطمية، والبويهية، والحمرانيين، وأعاظم الخلفاء العباسيين كالمأمون والمنتصر، والمعتضد، حتى صــلاح الدين الأيوبى، والمستنصر وتميم بن المعز بن باديس ملك أفريقيا والمغرب وكثير غيرهم.
وقوائم أسماء العظماء من الشيعة فى تاريخ الإسلام فى كل المجالات يوردها الشيخ كاشف الغطاء يقول: إن الشيعة هم مؤسسو العلوم الإسلامية ومؤسسو الدول الإسلامية أيضا.. وكل ذلك للرد على أحمد أمين لأنه قال: إن الشيعة دخلها كل من أراد هدم الإسلام، وأعتقد أن أحمد أمين- بمنهجه العقلى العلمى الموضوعى- لم يكن يقصد الإساءة إلى الشيعة بأى حال، لكنه كان يصف الحال عندما ظهرت فرق الشيعة المتطرفة أو الغالية، التى تبرأ منها الشيعة أنفسهم، فأراد أن يستقصى مصادر معتقداتهم التى لا تتماشى مع معتقدات الإسلام ومعتقدات الشيعة المعتدلين،.
وعلى ذلك فإن اتهام أحمد أمين بالإساءة إلى الشيعة، أو الجهل بعقائدها، لا أساس له، بدليل أن أحمد أمين رأى أن القول بالرجعة مصدره العقائد اليهودية والشيخ كاشف الغطاء نفسه يؤكد أن التدين بالرجعة فى مذهب التشيع ليس بلازم ولا إنكارها بضار، وإن كانت ضرورية عندهم، ولكن لا يناط التشيع بها وجودا وعدما، وهى ليست إلا من أنباء الغيب، وحوادث المستقبل، وأشراط الساعة، مثل ظهور عيسى من السماء، وظهور الدجال، وخروج السفيانى وأمثالها من القضايا الشائعة عند المسلمين وما هى من الإسلام فى شىء.. وليس إنكارها خروجا من الإسلام، ثم يقول: وعلى فرض أنها أصل من أصول الشيعة.. فهل اتفاقهم مع اليهود فى هذا يوجب القول بأن اليهودية ظهرت فى التشيع؟.. وهنا يبدو أن الشيخ كاشف الغطاء يتفق مع أحمد أمين من حيث أراد أن يخالفه، لأنه انتهى إلى أن الشيعة يقولون بالرجعة، كما أن اليهود يقولون بها، وهذا ما كان يقصده أحمد أمين، ونقطة الخلاف هى: هل أخذ الشيعة هذا المبدأ من اليهود أو لم يأخذوه منهم؟.
ولكن الشيخ كاشف الغطاء يستنكر ما قاله أحمد أمين من اعتقاد الشيعة بأنهم لن تمسهم النار إلا قليلا، ويقول: فى أى كتاب من كتب الشيعة وجد ذلك؟ وكتب الشيعة كغيرها تنص على أن الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا، والشيعة يرون أن باب الشفاعة مفتوح من النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام لبعض المذنبين، ولعل القبول بالشفاعة فى الجملة من ضروريات الإسلام، ثم يقول: هل اتفاق بعض عقائد الشيعة مع اليهود أنهم أخذوا عنهم، وهل يمكن القول بأن أبا حنيفة أخذ فقهه من المجوس لأنه وافقهم فى بعض الفروع فى باب النكاح أو غيره، ويكون الدليل على ذلك أنه فارسى الأصل، أليس هذا من سفه القول؟.
***
وكذلك يهاجم الشيخ كاشف الغطاء أحمد أمين على قوله بأن النصرانية ظهرت فى التشيع فى قول بعضهم إن نسبة الإمام إلى الله كنسبة المسيح إلى الله.. ويقول: كان يجب عليه أن يذكر من هو القائل بهذا القول من الشيعة، ليحدد أنه يقصد قول من يسمونهم (غلاة الشيعة) كالخطابية، والغرابية، والعلياوية، والمخمسة، والبزيعية، وأشباههم من الفرق الهالكة المنقرضة ونسبتها إلى الشيعة من الظلم الفاحش، وما هى إلا فرق من الملاحدة كالقرامطة ونظائرهم، أما الشيعة الإمامية وأئمتهم عليهم السلام فيبرأون من هذه الفرق براءة التحريم، على أن تلك الفرق المنحرفة خلاصة مقالتهم أن الإمام عليّا هو الله سبحانه ظهورا أو اتحادا أو حلولا أو نحو ذلك مما يقول به كثير من متصوفة الإسلام، ومشاهير مشايخ الطرق الصوفية (وإن شئت فسمها شطحات) أما الشيعة الإمامية وهم جمهرة العراق وإيران وملايين المسلمين فى الهند ومئات الألوف فى سوريا والأفغان فإن هذه الطائفة شيعة يبرأون من تلك المقالات ويعدونها من أشنع الكفر والضلالات، ودين الشيعة هو دين التوحيد المحض، وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق أو ملابسة له، فى صفة من صفات النقص والتغير والحدوث وما ينافى وجوب الوجود والقدم والأزلية، وغير ذلك من التنزيه والتقديس كما فى كتب الشيعة.
فالشيعة يوجهون اللوم لأهل السُنة لأنهم لا يفرقون بين الشيعة المعتدلة (الإمامية والزيدية) والفرق الأخرى المنحرفة التى تسمى غلاة الشيعة، بينما يتبرأ منها الشيعة ويعتبرونها فرقا ضالة خارجة على الإسلام..
كذلك يلوم الشيعة من يكتب عنهم اعتمادا على مصادر ومراجع لخصومهم، وفى ذلك يقول الشيخ كاشف الغطاء: إن منبع البلية أن القوم الذين يكتبون عن الشيعة يأخذون فى الغالب مذهب الشيعة وأحوالهم عن ابن خلدون الذى كتب وهو فى أفريقيا وأقصى المغرب عن الشيعة فى العراق وأقصى المشرق، ويقصد بذلك أن ابن خلدون كان بعيدا عن معايشة الشيعة ومعرفتهم عن قرب، وأن ما كتبه إنما اعتمد فيه على الروايات السماعية، وكذلك يرى أن أحمد بن عبدربه الأندلسى وأمثاله من مصادر أهل السُنة هم الذين أساءوا إلى الشيعة وشوهوا صورتهم، ويعيب بصفة خاصة اعتماد الكتاب من أهل السُنة على كتابات المستشرقين الغربيين أمثال (ولهوسن) و(دوزى) أى أن أهل السُنة يعتمدون على كتب ومؤلفين أساءوا إلى الشيعة، والأجدر بهم أن يعتمدوا على كتب الشيعة وعلمائهم إذا أرادوا أن يعرفوا فكر الشيعة على حقيقته.
ويعيب الشيخ كاشف الغطاء على الكتّاب من أهل السُنة أيضا أنهم يعتمدون على الروايات المذكورة فى الكتب عن عبد الله بن سبأ ويلصقونه بالشيعة، بينما كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه، ويقول الشيعة كلما جاء ذكره (عبد الله بن سبأ ألعن من أن يذكر) ولا يستبعد أن يكون عبد الله بن سبأ شخصية من الشخصيات التى وضعها القصاص وأرباب السمر والمجون، وقد راج سوق الخيال فى أواسط الدولتين الأموية والعباسية حيث توافرت دواعى اللهو وانتشرت القصص كى يأنس بها أبناء الترف. ويعيب الشيخ كاشف الغطاء أيضا على طه حسين لأنه اعتمد فى بعض ما كتبه عن الشيعة على أهازيج شعراء وروايات من الخيال ذكرها دون تمحيص..
***
وهكذا يلوم الشيعة أهل السُنة لأنهم أفسحوا المجال لما يسميه الطعنات الطائشة على الشيعة من كتبة العصر فى مصر وغيرها. ويشير إلى ضرورة التفرقة بين معتقدات مذهب الشيعة ورأى فرد أو أفراد مما لا يجوز أن ينسب إلى المذهب كله، خاصة أن باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة فى جميع العصور ولم يغلق أبدا، ومن الطبيعى أن يكون لكل رأيه واجتهاده ما لم يخالف الكتاب والسُنة والإجماع والعقل فإن خالف شيئا من ذلك كان مارقا عن طائفة الشيعة.
***
يقول الشيخ كاشف الغطاء: إن على أهل السُنة أن يعرفوا أن الشيعة مسلمون مثلهم، فلا يظلمون أنفسهم ويتورطون فى نسبة الأباطيل إلى إخوانهم فى الدين، فالشيعة -فى النهاية- ممن تأدبوا بأدب الإسلام، وتمسكوا بتعاليم القرآن.
***
ومن المفكرين الشيعة المحدثين الدكتور على شريعتى وكان أستاذا بجامعة مشهد الإيرانية، وله كتاب ترجمه الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا إلى اللغة العربية بعنوان (العودة إلى الذات) وفيه يدعو بقوة إلى تصحيح مفاهيم الدين فى المجتمع الشيعى، ويرى أن التشيع الموجود فى المجتمع الإيرانى ليس هو التشيع الصحيح، وله كتاب بعنوان (نحن مهتمون) يقارن فيه بين التشيع الرائج الذى أسماه (التشيع الصفوى) وما ورد فى الكتب والمصادر عن التشيع الصحيح أو التشيع الحسينى، ويرى أن هناك فارقاً بين الاثنين، بل إنه يرى أن كل رموز التشيع الموجود فى إيران وشعائره رموز مسيحية ومظاهر مسيحية أدخلها الصفويون على يد طلائع الغزو الفكرى الغربى لكى يفصلوا إيران تماما عن الإسلام السنى الذى كان مذهب الدولة العثمانية عدوتها التقليدية، وفى نفس الوقت فإن الصفويين- كما يقول- ارتكبوا خطأ فادحا بالتحالف مع الأوروبيين ضد العثمانيين مما أودى بإيران وبالدولة العثمانية معا، ويرى أيضا أنه لو خرجت كل هذه المظاهر الدخيلة على التشيع فلن يبقى هناك خلاف يذكر بين الشيعة والسُنة.
وهو يشير إلى الانصراف عما يفيد للدخول فى صراعات وخلافات لا تفيد ولا تغير من حياة المسلمين شيئا، وذلك فى منتصف القرن التاسع على سبيل المثال، كانت أوروبا تتقدم للسيطرة على دول آسيا وأفريقيا بعد غزوها عسكريا، وكان المفكرون المستنيرون فى أوروبا يتحدثون عن الاستغلال، والحرب الطبقية، والكفاح ضد الرأسمالية، ويتحدثون عن المساواة، ورفض المجتمع الطبقى، وتصدر كتب (رأس المال) و(مقدمة فى الاقتصاد السياسى) و(فقر الفلسفة) و(فلسفة الفقر).. كانت أوروبا مشغولة بتحقيق الازدهار والعدالة بينما كان هناك عدد من أئمة الزمان ظهروا فى العالم الإسلامى وكل منهم يقول: إنه (المهدى المنتظر). وفى إيران ظهر اثنان منهم بينهما عشرون سنة، ادعى الثانى منهما النبوة ثم الألوهية، وحمى وطيس البحث عن خلافة (ميرزا على محمد) الباب الذى ادعى الإمامة وهو مؤسس البهائية وسمى (الباب) ودعوته إلى وحدة الأديان هدفها ضرب الإسلام، وفى هذا الوقت قامت أيضا الحرب بين الأزلية والبهائية حول الإمامة، وحول (باب المهدى المنتظر) وإدغام الإمامة والنبوة والألوهية فى شىء واحد، وفى مكان آخر كشف الشيخ أحمد الإحسائى عن أفكار فى الإمامة جعلت فقهاء الشيعة الإثنى عشرية يحكمون عليه بالكفر، وانشغل قوم باختراع الركن الرابع فى جنس الإمام، وعلامات ظهور الإمام الثانى عشر وخصائصه لمطابقتها على من يدعى أنه المهدى المنتظر، ثم الصراع بين الفقهاء والصوفية والحرب بين البابية والبهائية، وكل ذلك تسبب فى مذابح وجدل فقهى.. وهكذا يدلل الدكتور على شريعتى على تخلف المسلمين عن متابعة التطورات السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية فى العالم بسبب انشغالهم فى الخلافات حول الأمور الغيبية. وبينما كان الغرب بعد الحرب العالمية الثانية مشغولا بإدارة مستعمراته فى بلاد المسلمين كان المسلمون مشغولين بإحياء اللحى والعمائم، وينتقد الدكتور على شريعتى طقوس احتفال الشيعة بذكرى استشهاد الإمام الحسين بالدق على الصدور، والضرب بالسلاسل، ولفها مغلقة بالأقفال حول الأجساد، والبحث فى مسائـل تعـود بعقـول واهتمامـات المسلمـين إلى الـوراء عشـرات ومئات السنين، -وهو- فى النهاية يطالب بتجديد الأفكار والممارسات الدينية الشيعية، وهو فى ذلك مثل المفكرين التقدميين من السُنة الذين يطالبون بالتجديد والتحديث والإصلاح الدينى.
***
وإذا كانت هناك كتب للشيعة تدعو إلى مبادئها بأسلوب معتدل وتتحدث عن أهل السُنة دون اتهام لهم، فإن هناك كتبا أخرى تهاجم أهل السُنة وتتهمهم بالبعد عن السُنة، ومثال ذلك كتاب بعنوان (الشيعة هم أهل السُنة) تأليف الدكتور محمد التيجانى السماوى. يقول فيه: إن خصوم الشيعة يسمون أنفسهم (أهل السُنة والجماعة) وما هى إلا سُنة مزعومة والنبى صلى الله عليه وسلم برىء منها، ويقول: إنهم ينطبق عليهم قول الله تعالى (ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد) البقرة- 204- 206.
ويلخص تعريف الشيعة بأنها الطائفة الإسلامية التى توالى وتقلد الأئمة الإثنى عشر من أهل بيت المصطفى، عليا وبنيه، وترجع إليهم فى كل المسائل الفقهية من العبادات والمعاملات، ولا يفضلون عليهم أحدا سوى جدهم صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الدكتور السماوى: إن أهل السُنة خالفوا السُنة عندما اختاروا خليفة غير الإمام علىّ، وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين لم يلتحق أبو بكر وعمر وبعض الصحابة بجيش أسامة الذى اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم قائدا لهذه الحملة وهو شاب لا يزيد عمره على سبعة عشر عاما، وتوفى الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروج جيش أسامة بيومين، فلم يخرج فى الجيش أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وبذلك خالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم(!) ويغفل الدكتور السماوى أن الخليفة أبا بكر هو الذى نفذ إرادة الرسول صلى الله عليه وسلم بمنتهى الدقة، فخرج الجيش فى موعده، وبقيادة الشاب الذى اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم، وسار الخليفة أبو بكر الصديق مع الجيش ماشيا على قدميه بينما كان أسامـة بـن زيـد راكبـا، وتحرج مـن ذلك فقال للخليفــة أبو بكر: لتركبن أو لأنزلــن، فقــال لــه أبو بكر: لا أركب، ولا تنزل، ومالى لا أعفر قدمى فى سبيل الله. كما يغفل الدكتور السماوى ظروف هؤلاء الصحابة فى أعقاب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن مناسبا أن يتركوا الأمور فى المدينة لمن حاولوا إثارة البلبلة فى صفوف المسلمين ليشاركوا فى الحرب، فإن مسئولية الحفاظ على وحدة المسلمين كانت مهمتهم فى هذا الوقت. بينما كانت مهمة أسامة وجيشه الذهاب إلى الغزو.
ويصل تحامل الدكتور السماوى على الصحابة إلى حد اتهام عمر بن الخطاب بأنه خالف وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تكون الخلافة للإمام علىّ، ويتهم عمر بأنه هدد بحرق بيت السيدة فاطمة الزهراء بمن فيه، ويقول إن الصحابة شمروا عن سواعدهم لقتل كل من تحدثه نفسه بمخالفتهم فى بيعة أبى بكر ولو كان أقرب الناس إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وهذه رواية غريبة يستبعدها العقل، لأن عمر وهو من هو قربا ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته لا يمكن أن يهدد بحرق أو قتل أحد منهم، ومثل هذه الروايات المختلقة هى التى تشعل حفيظة الشيعة الذين يحبون أهل البيت ويقدسونهم.
ولا يكتفى الدكتور السماوى بذلك ولكنه يضيف إلى ذلك أن أبا بكر وعمر طردا فلاحى فاطمة من (فدك) وهى بستان كان يملكه الرسول (صلى الله عليه وسلم) واعتبرا أرضها ملكا للمسلمين، وحرماها من ميراث أبيها بدعوى أن الأنبياء لا يورثون، وقطعا عنها سهم الخمس الذى كان الرسول يخص به نفسه وأهل بيته لأن الصدقات محرمة عليهم، ويقول: بذلك أصبح عليا مشلولا اقتصاديا بعد أن اغتصبت منه أرض (فدك) وحرم من ميراث عمه الذى هو حق من حقوق زوجته، وقطع عنه سهم الخمس، بينما كان الصحابة الذين تشيعوا لعلىّ أغلبهم من الموالى الذين لا ثراء لهم، والناس يميلون إلى الغنى ويحتقرون الفقير (!).
ويكرر الدكتور السماوى ما جاء فى كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه (الجزء الرابع) واعتبره واقعة تاريخية حقيقية من أن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى بيت السيدة فاطمة الزهراء وفيه علىّ والعباس والزبير، ليخرجهم من البيت ليبايعوا أبا بكر، وقال له: إن أبوا، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته السيدة فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت تحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة، ثم يستثير الدكتور السماوى مشاعر الشيعة على الخلفاء الراشدين فيقول: إذا كانت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وإذا كان ولداها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة يستهان بهم، فهل يبقى بعد هذا فى نفوس الآخرين شىء من الاحترام أو التقدير لهم؟. ويزيد على ذلك أن السيدة فاطمة غضبت من أبى بكر فلم تكلمه حتى توفيت، ولما توفيت دفنها زوجها علىَ ليلا ولم يخبر أبا بكر، واضطر علىّ إلى مبايعة أبى بكر.
يقول الدكتور السماوى إن عليا وشيعته هم الذين تمسكوا بالسُنة وعملوا على إحيائها، ولم يحيدوا عنها أبدا، ولم يتمسك بالسُنة من يعتبرون أنفسهم أهل السُنة واتبعت بقية الأمة أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة، وسموها (البدع الحسنة). ويزيد على ذلك بأن الإمام علىّ كان هو الذى يحفظ القرآن، ويعرف كل أحكامه، وهو أول من جمعه، بشهادة البخارى، فى حين لم يكن أبو بكر وعمر وعثمان يحفظون القرآن أو يعرفون أحكامه. وقد ذكر البخارى جهل عمر بحكم الكلالة، وبأحكام التيمم كما جاء فى صحيحه الجزء الأول ص 90.
هكذا يجتهد بعض كتّاب الشيعة فى نشر الكراهية لأهل السُنة وسنعود إلى مناقشة الدكتور السماوى لأن ما يقوله هو الجانب الآخر من رأى الشيعة فى أهل السُنة، ولأن مثل هذه الكتابات هى التى أثارت وتثير الفتن بين أهل المذاهب الإسلامية.
وفى كتاب (كشف الأسرار) للإمام الخمينى يقول إن أبا بكر خالف نص القرآن فى مسألة (فدك) وكرر القول بأن أبا بكر خالف نص القرآن بحرمان السيدة فاطمة من هذه الأرض التى آلت إليها بالميراث من أبيها، وكرر القول أيضا بأن عمر خالف القرآن حين منع نظام زواج المتعة.
***
وينقل الدكتور عبد المنعم النمر فى كتابه (الشيعة.. المهدى.. الدروز) دعاء يردده بعض الشيعة فى لعن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، ويسميهما (صنمى قريش) وقد جاء هذا الدعاء فى كتاب (تحفة العوام) للسيد منظور حسين وطبع فى لاهور.
وفى هذا الدعاء عبارات لا يكاد المرء يصدق أن تقال عن صاحبى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: اللهم العن صنمى قريش، وجبتيهما، وطاغوتيهما، وإفكيهما، وابنتيهما، اللذين خالفا أمرك، وأنكرا وحيك، وجحدا إنعامك، وعصيا رسولك، وحرفا كتابك.. وعطلا أحكامك.. وأبطلا فرائضك.. وألحدا فى آياتك، وعاديا أولياءك، وواليا أعداءك، وخربا بلادك، وأفسدا عبادك.. إلى آخر ما فى هذا الدعاء الذى يستحى مسلم أن يردده فى حق أحد من المسلمين، وغيرهم فضلا عن أن يكون الطعن فى الشيخين ولهما منزلة عالية لما قدماه لنصرة الإسلام. ويقول الدكتور النمر: إن هذا الدعاء أصدره الإمام الخمينى ويختمه بالقول: اللهم عذّبهما عذابا يستغيث منه أهل النار!
ويقول الدكتور النمر: إن الشيعة يرون أن للقرآن ظاهرا وباطنا، والظاهر هو دلالات ألفاظ القرآن، وأما الباطن فهو ما وراء هذا الظاهر من دلالات، والظاهر هو ما يفهمه أهل السُنة، أما الباطن فلا يفهمه إلا الشيعة عن أئمتهم باعتبارهم هم الوارثين لعلم النبى صلى الله عليه وسلم عن الإمام علىّ كرم الله وجهه. وهذا الظاهر الموجه إلى العوام وهم أهل السُنة، وعلماء السُنة أيضا من العوام بدءا من الصحابة، ومن شأن العوام أن يتقيدوا بالدلالات اللغوية للألفاظ، أما الشيعة وأئمتهم وعلماؤهم فهم لا يتقيدون بالدلالات اللغوية للألفاظ. ويعلق الدكتور النمر على ذلك بأن هذا القول يعطى لعلماء الشيعة بابا واسعا ليقولوا فى القرآن ما يريدون دون محاسبة، مع أن الله سبحانه احتج على العرب بأن القرآن عربى، يسهل عليهم فهمه، (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) يوسف- 2- و(إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) الزخرف- 3-وتكرر ذلك فى عدة مواضع والمقصود أن القرآن واضح، مفهوم للجميع، لأنه موجه إلى الجميع، وليس هناك واسطة بين الله وعباده، فكيف تكون هناك معان غير منصوص عليها صراحة فى القرآن؟.
وأغرب ما ذكره الدكتور النمر فى كتابه ما نقله عن كتاب (حق اليقين) وهو من تأليف العلامة باقر مجلسى، والإمام الخمينى يمتدح مؤلفاته وخاصة كتابه (حق اليقين) وينصح الشيعة بقراءته وفيه رواية تقول: حين يظهر المهدى عليه السلام يبدأ عمله أولا بمحاسبة السنيين، وخاصة علماءهم، وذلك قبل الكافرين، فيقتلهم جميعا ويبيدهم عن آخرهم.
ويقول الدكتور النمر: إنه زار المسجد الكبير فى مدينة سامراء العراقية وهى مدينة (سر من رأى) التى كانت عاصمة الخلفاء العباسيين، واتخذها الإمام الحسن مقرا له، ودفن بها عام 260هـ مع والده الإمام على الهادى الذى توفى سنة 254هـ.. ومع الإمام الحسن دفنت زوجته (نرجس خاتون) وأم الإمام محمد المهدى، وعمته (حليمة خاتون) أخت الإمام على الهادى.. كلهم فى مشهد واحد كان فى الأصل دارا لهم يقيمون بها، يسمى الآن المشهد العسكرى، لأن الجيش العباسى كان يعسكر فى هذه المدينة. وفى هذا المسجد يقع سرداب يقول الشيعة إن الإمام محمد المهدى الطفل نزل فيه واختفى ولم يخرج منه، ويزور الشيعة هذا المسجد ويأخذون منه حفنة من التراب بركة، وقال له أحد السدنة يقوم بمرافقة الزوار: إن الشيعة حين كانوا يأتون قبل خمسين سنة كانوا يقفون قريبا من باب السرداب ويدعون، والقائمون على خدمة المسجد من السُنة ولكنهم يحفظون دعاء الشيعة ويقومون بتلقينه للزوار، وفى هذا الدعاء: اللهم عظُم البلاء. وضاقت الأرض.. وإليك باب المشتكى.. يا الله.. يا محمد.. يا على .. يا على.. انصرانى واكفيانى.. الغوث الغوث.. ادركنى يا مولاى يا حجة الله يا بن الحسن عجل الله فرجك، وسهل مخرجك، وقرب زمانك، وكثر أعوانك وأنصارك وشيعتك..
وقد أهدى خادم المسجد كتابا ضخما للدكتور النمر فيه الدعاء لكل المناسبات وفى الدعاء أن ينتقم الله من أعدائهم أهل السُنة!
***
وللدكتور عبد المعطى بيومى رأى فى أسباب هذا الخلاف بين الشيعة و السُنة، أولها واقعة استشهاد الإمام الحسين فى مذبحة كربلاء، فهى تمثل (عقدة ذنب) تتوارثها أجيال الشيعة جيلا بعد جيل، يريد كل جيل أن يحظى بالتكفير عن تقصير الأجداد فى حماية الحسين وافتدائه. ومن هذه الواقعة بالذات تشكل حب الشيعة للاستشهاد، ومثل الحسين بن على لكل شيعى المثل الأعلى للمستضعف أمام القوى الجبارة، فقد كان الحسين يوقن تماما أنه مقتول لا محالة، لكنه فضل الثبات على الفرار، وآثر الشهادة على الاستسلام، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الشيعة يؤمنون بعصمة الأئمة من الخطأ، وأن قرار الحسين بالاستشهاد قرار معصوم من الخطأ، كما أن الثبات فى الحرب والنهى عن الاستسلام والفرار فى مواجهة الأعداء عقيدة إسلامية أكدها القرآن (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) الأنفال 15 -16.
وربما ساعد الشيعة تأويل هذه الآية على أن الحسين وشيعته فى كربلاء كانوا أمام الذين كفروا فلم يفروا، وثبتوا وتقبلوا الاستشهاد على مخالفة أمر الله بألا يولوا الأدبار.. ومن هنا كانت إدانة الشيعة - أو بعضهم- لأهل السُنة -أو بعضهم- وهى على أية حال مسألة تاريخية وليس للشيعة وأهل السُنة اليوم أن يحاسبوا بعضهم البعض على ما فعله غيرهم منذ مئات السنين!
وقد يكون من أسباب الخلاف الآن أن شيعة إيران يطبقون مذهب الإمام الخمينى (ولاية الفقيه) أى أن يتولى رجال الدين حكم البلاد، وهذه النظرية يعارضها معظم شيعة العراق، وفى هذه الناحية يكمن الخلاف بين الشيعة بوجه عام وأهل السُنة، ففى الناحية السياسية والتشريعية تطبق إيران نظرية حكومة الفقهاء، بعد أن كان رجال الدين بعيدين عن السلطة السياسية فى عهد الشاة وقبل ثورة الخمينى، والآن أصبح الدين والدولة معا فى يد الفقهاء والمراجع الدينية، وهم يحصلون على خمس ما يربحه الشيعة كل عام بالإضافة إلى الزكاة مما يجعل المراجع الدينية تتحكم فى مئات الملايين. وشيعة العراق يأخذون الخمس والزكاة أيضا، وينقسمون حول حكم الفقهاء، منهم من يرى عدم التدخل فى الحكم، ومنهم من يرى ضرورة الأخذ بنظام حكومة الفقيه، وتوصل المجلس الإسلامى الأعلى فى العراق إلى نظرية وسط هى (حكومة إسلامية ديمقراطية)، بينما مذهب أهل السُنة فى كثير من البلاد الإسلامية يرى فصل الدين عن الدولة، وإقامة نظام يكون فيه الدين ورجال الدين لشئون تنظيم الحياة الاجتماعية والمعاملات وعلاقة الإنسان بربه وإقامة العلاقات على أسس أخلاقية إسلامية، ويكون النظام فى الدولة لرجال السياسة والمتخصصين فى شئون إدارة الدولة والاقتصاد.
وفى نفس الوقت فإن الإمام الخمينى ابتدع نظرية تصدير الثورة، ويقصد تصدير المذهب الشيعى ليسود بلاد المسلمين جميعا، وبذلك يحكم الشيعة العالم الإسلامى كله. ولكى يتحقق ذلك عمل على ترسيخ فكرة أن المذهب الشيعى هو الإسلام وأن أهل السُنة خارجون عليه. وبالتالى فإن واجب الدولة الشيعية هداية هؤلاء إلى الطريق الصحيح.. طريق الشيعة الإمامية.
ومع ذلك فإن هناك قطاعات غير قليلة من المثقفين ورجال الدين الشيعة لا يرون هذا الرأى، ولا يحملون مشاعر العداء لأهل السُنة, والموضوعية تقتضى إدراك أن الشيعة ليسوا جميعا مذهبا واحدا، ولكنهم مذاهب متعددة بينها اختلافات.
***
والشيعة الإمامية كما يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة – لا يقبلون الأحاديث النبوية إذا كان الرواة ممن يخالفون الشيعة، ويعتبرون المخالف لهم غير مقبول الرواية، ويعلق على ذلك بأن هذا التعصب المذهبى وقع من السنيين أيضا وبعضهم يرددون كثيرا من روايات الرواة الشيعة على أساس أنهم من الروافض، لكن ذلك ليس منهج الأئمة، فإن أبا حنيفة روى عن آل البيت والثقات من أنصارهم، وكان الشافعى يروى عن إبراهيم بن يحيى، وكان أئمة السُنة ينظرون إلى شخص المحدث لا إلى رأيه، فإن كان رأيه منحرفا فى نظر المحدث، فإن ذلك لا ينال من صدقه، لأن الصدق ينبعث من الأمانة، والخلق وقوة التدين، والرأى ينبعث من النظر والاستدلال، وقد يخطئ الرجل فى رأيه، ولكن لا يتهم فى صدقه وأمانته.
والملاحظ أن بعض رجال من الفرق المختلفة دفعهم تعصبهم لمذهبهم إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤيدوا مذهبهم، فلم يتجهوا إلى الشخص. بل اتجهوا إلى المذاهب.
أما الشيعة الزيدية فإنهم يقبلون أحاديث الصحاح فى كتب السُنة ويعتبرونها مصدرا من مصادر اجتهادهم، ولا يشترطون - مثل الإمامية - أن يكون الرواة من الأئمة من أهل البيت وشيعتهم، بل يشترطون العدالة المجردة. وهذا الموقف يختلف عن موقف الشيعة الإمامية الذين يجعلون الحديث المروى عن إمامى غير عادل أفضل وأصح من الحديث المروى عن غير الإمامى ولو كان عدلا.
***
ويشير الأستاذ فهمى هويدى فى كتابه (إيران من الداخل) إلى أن الإمام الخمينى له آراء أخرى فى هذا الإطار فى كتابه (تحرير الوسيلة) الذى تضمن فتاواه وآراءه ومنها عدم جواز صلاة الشيعى وراء الإمام السنى، وعدم جواز إقامة صلاة الجمعة فى ظل غيبة الإمام، وهى آراء حذفت من الطبعات العربية للكتاب التى صدرت بعد عام 1975.
ويذكر الأستاذ فهمى هويدى الرسالة التى وجهها الإمام الخمينى إلى ممثليه فى الحج عام 1979 وقال فيها: (على الأخوة الإيرانيين وجميع الشيعة فى العالم أن يتجنبوا الأعمال الجاهلة التى تؤدى إلى تفريق صفوف المسلمين وعليهم أن يشتركوا فى جماعات أهل السُنة (يقصد صلاة الجماعة) والوقوف بعرفة والمزدلفة وفق أحكام قضاة أهل السُنة، حتى لو حدث القطع بخلاف ذلك (عند علماء الشيعة).
يقول فهمى هويدى: إن هذه أول مرة منذ قرون بعيدة يدعو فيها مرجع شيعى كبير إلى جواز صلاة الشيعة وراء إمام سنى، بينما المستقر بين فقهاء الشيعة هو بطلان الصلاة وراء السُنة، ولذا فإن كثيرين اعتبروا هذه الفتوى بمثابة (ثورة) فى العلاقات بين الشيعة والسُنة، وأحدثت ردود أفعال قوية فى دول الخليج بالذات التى يتعايش فيها أتباع المذهبين ولا يؤمون مساجد بعضهم البعض، وقد بدأ التغير البطىء بعد صدور فتوى الإمام الخمينى. كذلك فإن إعادة صلاة الجمعة رسميا فى جميع أنحاء إيران اعتبرت مؤشرا إيجابيا فى اتجاه (تطبيع) العلاقات مع أهل السُنة، وقد تحفظ على هذا القرار فقهاء النجف وعلى رأسهم آية الله الخوئى، وتمسك بالرأى التقليدى الذى لا يجيز صلاة الجمعة فى زمن غيبة الإمام المهدى.
ولعلنا نذكر الخطوة المهمة التى اتخذها شيعة العراق بعد غزو الولايات المتحدة لبلادهم ومقاومتهم للاحتلال العسكرى الأمريكى، فقد اجتمع السُنة والشيعة معا لأداء صلاة الجمعة وراء إمام سنى فى بغداد، وكانت هذه رسالة بأن محاولات الإيقاع واستثمار خلافات السُنة والشيعة لصالح الاحتلال لن تنجح.
وهى رسالة لها أهمية تاريخية ودينية وسياسية.