عرفـات.. يُغـيِّر أم يتغـيَّر ؟
ما جرى الأسبوع الماضى فى غزة وامتد إلى الضفة كان نذيرا بمخاطر شديدة تحيط بالسلطـة وبالشعب الفلسطينى، وإذا استمر هذا التمرد المسلح، أو هدأ ثم تكرر، فقد يصبح الحلم بإقامة الدولة الفلسطينية بعيد المنال.
التمرد المسلح ضد السلطـة الفلسطينية، واحتلال المسلحين مقار الأمن، وإحراق مقر المخابرات، والمسيرات الغاضبة للشباب من منظمة فتح التابعة لقيادة الرئيس عرفات شخصيا يطـالبون بإصلاحات سياسية وبالقضاء على الفساد، كما يطـالبون بالتغيير فى الأشخاص والسياسات كان ذلك أشبه بلحظـة انفجار، أو هو لحظـة وصول الأمر إلى درجة الغليان السياسى كما وصفه البعض. وقد سمع هؤلاء الشباب وعودًا كثيرة بالتغيير ولم يتغير شىء مما يريدون تغييره.
قبل ذلك تمت عمليات اختطاف لعدد من الأجانب وفرض شروط لإطلاق سراحهم مما كان له تأثير سىء على صورة الفلسطينيين أمام العالم. ثم وصل الأمر إلى خطف القائد المسئول عن الأمن. ثم تزايدت الأزمة إلى حد تقديم رئيس الوزراء أحمد قريع استقالته، بعد أن وجد نفسه فى الطريق المسدود الذى سبق أن وجد أبو مازن رئيس الوزراء السابق نفسه فيه وقدم هو الآخر استقالته لنفس السبب.
وجوهر المشكلة أن الرئيس عرفات قائد لثورة تحرير وطنى، حياته كلها نضال وصراع ومقاومة، وهذه الصفات جعلت منه زعيما له شعبيته فى الداخل والخارج لا ينافسه فيها أحد، ولا أحد يمكن أن يحل محله. واستمرار هذه الزعامة يفرض عليه أن يبدو دائما قويا وصلباً وغير قابل للهزيمة أو الاستسلام، كما تفرض هذه المرحلة أن يكون هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وعندما دخل الأراضى الفلسطينية وانتهت مرحلة الكفاح من الخارج وأصبح رئيسا لسلطة حكم ظل يتصرف على أنه قائد المقاومة، المقاومة السياسية، والمقاومة المسلحة. وهناك دائما مشكلة يواجهها كل زعيم نضال شعبى عندما ينتقل من مرحلة الثورة إلى مرحلة الحكم. فهو فى الحالة الأولى الزعيم، وكل من حوله أنصار وأتباع، هو الذى يقرر، وهو الذى يمسك كل الخيوط، وهو الذى يتحدث باسم الشعب، وعلى الآخرين التنفيذ، أما فى الحالة الثانية -حالة وجود سلطة حكم- فلابد من وجود مؤسسات بعضها مستقل عن الزعيم وعن الحكومة مثل القضاء، ولابد من وجود حكومة مسئولة لها سلطات ووزراء حتى تكون لهم اختصاصات، ونظام عمل ورقابة داخلية، ونظام مالى وحسابات منتظمة، ومحاسبة عن الإيرادات والمصروفات.. أى أن على الزعيم أن يتخلى عن بعض سلطاته التى كان ينفرد بها وحده دون شريك.. وهذا الانتقال ليس سهلا.. ويقاومه الزعيم فى كل الحالات. لذلك كان من المتوقع أن يحدث لقريع ما حدث لرئيس الوزراء السابق محمود عباس (أبو مازن) حين اصطدم بالحقيقة وهى أنه بلا سلطات ولا اختصاصات، والمسئول عن المفاوضات هو الرئيس عرفات.. والقرارات المتعلقة بالشئون المالية والتنظيم الإدارى التى كان يصدرها رئيس الوزراء كانت تجد (الفيتو) من الرئيس عرفات. وأسماء رجال الأمن الفلسطينيين سلمت للجانب الإسرائيلى بأمر من الرئيس وسلمها صائب عريقات عند بدء دخول السلطة إلى أرض الوطن كما أعلن ذلك أبو مازن أمام المجلس التشريعى.. واصطدم أبو مازن بأن السفارات ليست من اختصاص وزارة الخارجية، والمحافظون لا يتبعون وزارة الداخلية، والمطار ليس تحت إشراف الحكومة.. والتليفزيون ليس تحت إشراف وزير الإعلام.. أما أجهزة الأمن فهذه مشكلة المشاكل، هناك أجهزة متعددة تتضارب اختصاصاتها بدون قيادة موحدة لتكون الخيوط فى يد الرئيس عرفات وحده.. وفى نفس الوقت هناك فصائل مسلحة وصل عددها إلى 13 جماعة تعمل أيضا دون قيادة أو استراتيجية موحدة.. ولابد أن يؤدى هذا الوضع -تعدد وجهات الأمن وعدد الفصائل المسلحة- إلى انفلات الأوضاع الأمنية وخروجها عن السيطرة، وإسرائيل هى المستفيدة لأنها تجد بذلك الحجة لاستمرار الاحتلال والتوغل والقتل. كما تجد الحجة للجدار الذى تقيمه وتتحدى به القانون الدولى والشرعية الدولية وتضم به أراضى فلسطينية جديدة، والإدارة الأمريكية أيضا مستفيدة من هذا الوضع وإن كانت تعلن غير ذلك، وقد أعلنت حكومة إسرائيل رسميا أنها لن تهدم الجدار حتى بعد صدور قرار الأمم المتحدة وحتى إذا صدق مجلس الأمن على ذلك القرار، ولن تتوقف عن عمليات الهدم والقتل والاعتقال، ولن تعود إلى المفاوضات بحجة أنها لا تجد شريكا للسلام.. وأعلنت الإدارة الأمريكية أن موعد قيام الدولة الفلسطينية بحلول عام 2005 حسب وعودها لن ينفذ بحجة استمرار العنف، وحجة فشل السلطة الفلسطينية فى وقف الهجمات ضد الإسرائيليين، وحجة الصعوبات فى تحريك عملية التفاوض.
البعض يرى أن ما يحدث هو صراع على السلطة بين القيادات السياسية الفلسطينية من ناحية والمنظمات المسلحة من ناحية أخرى. ولكن الجديد أن التمرد ظهر فى داخل المنظمة المسلحة التابعة لحركة فتح التى يقودها الرئيس عرفات. أى أن الانشقاق وصل إلى داخل صفوف حركة فتح ذاتها، والشباب المسلح فى هذه الحركة يطالب بإصلاحات سياسية وبالقضاء على الفساد.
وقضية الفساد قضية قديمة وخطيرة ويزيد السكوت عليها من خطورتها، والصحف والمسئولون فى الولايات المتحدة والدول الأوربية يتحدثون عنها كثيرا ويطالبون أيضا بإصلاح مالى وإدارى. ويقال إن الفساد نشأ فى الأصل فى مرحلة المقاومة من الخارج، ولكنه انتشر بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 وامتد تأثيره إلى المجتمع. والآن أصبح الفساد هو السبب الذى يجعل الدول المانحة تقرر منع أو تقليص المعونات، ويقول المسئولون فيها إن الأموال لا تذهب إلى الشعب الفلسطينى، وأن هناك حسابات وأرصدة سرية فلسطينية فى الخارج وفى بنوك إسرائيلية، وأن من بينها حسابات مشتركة إسرائيلية فلسطينية فى مصارف دولية، وأن هناك شراكة مالية مع رجال أعمال كانوا من قادة أجهزة الأمن الإسرائيلية سابقا مثل رجل جهاز الأمن الداخلى (الشاباك) يوسى جونا سار وآخرين، وأن هناك أيضا مشاركة فى احتكار السلع الأساسية مثل الأسمنت مع شركة نيشر، والمواد الغذائية مع شركة تنوفا، وكذلك البترول، والدخان، وأن بعض هذه الوقائع كانت موضع تحقيق جنائى فى إسرائيل.
العقدة أمام المنشار! استعادة الأمن هو الشرط الأول للانسحاب من غزة وتقديم الدول المانحة مساعداتها المالية والسياسية للعودة إلى خريطة الطريق. وبناء مؤسسات للدولة وإعطاؤها صلاحيات حقيقية هو الشرط الثانى، والقضاء على الفساد وإنشاء نظام للمحاسبة ومؤسسة مستقلة للمراجعة والرقابة على الإيرادات والمصروفات هو الشرط الثالث.. وبغير توافر هذه الشروط يصعب إقناع الدول بالمساعدة الجادة والمؤثرة.
فى مرحلة من المراحل كان عرفات يتلقى الضغوط من الخارج ويجد من يسانده فى الداخل مساندة كاملة.. وكانت مرحلة الثورة مبرراً لوجود زعيم يمسك بيده كل الخيوط وله وحده كل الاختصاصات، ولكن الآن فى هذه المرحلة الجديدة، فإن عرفات يتلقى الضغوط من الخارج ولا يجد مساندة كاملة من الداخل.. صحيح أنه ما زال الوحيد القادر على تحريك الشارع الفلسطينى.. وشعبيته لا شك فيها ولكن من الواضح الآن انخفاض الشعبية والتأثير.. والمعارضة تتزايد.. حتى من داخل السلطة ومن داخل حركة فتح من داخل الدائرة الضيقة المحيطة بعرفات. ومن أقرب رفاق الكفاح (محمود عباس وأحمد قريع).
كل هذه الضغوط أضيفت إلى الضغوط النفسية التى يعيش فيها الرئيس عرفات شخصيا منذ عام 1994 والتى تطورت إلى حد فرض الحصار وسجنه فى مبنى المقاطعة لا يستطيع الخروج منه.. ولا شك أن هذه الحالة لها تأثيرها عليه.
وفى آخر تطور قرر عرفات توحيد أجهزة الأمن تحت قيادة رئيس الوزراء لكن لا يزال البعض يتشكك ويرى أنها مناورة وأن الحال يمكن أن يعود كما كان بعد فترة..
وهو - مع كل ذلك- لا يزال الرمز للكفاح الفلسطيني.. وهو الزعيم.. والقائد.. ولو أنه سمع إلى نصائح الأصدقاء - وصديقك من صدقك لا من صدّقك- وبدأ فى عملية تغيير حقيقية لتحقيق الإصلاحات الديمقراطية والأمنية والمالية.. وأعاد زملاءه الغاضبين إلى جانبه.. فسوف يتغير الحال كثيرا. وسوف يحدث انفراج سياسى فى مباحثات تنفيذ خريطة الطريق بدلا من الجمود الحالى.. وسوف يجد الشعب الفلسطينى فرصة لالتقاط الأنفاس.. وإذا لم يُغير.. ماذا سيحدث..؟ هل يتغير؟ هذا ما لا يتمناه أحد.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف