التاريخ ليس للبيع
منذ عشر سنوات قلت فى كتاب (( تاريخ ليس للبيع)): (إننا نعانى من تناقضات فى حياتنا العقلية، فنحن نعتز بتاريخنا لدرجة أن البعض يتهمنا بعبادة الماضى، وفى نفس الوقت فإن هناك من يجد لديه أسبابا- وربمـا مصالح- للإساءة إلى تاريخنا وتشويه الصفحات الناصعة فيه. وهؤلاء يمثلون جوقة من الكتاب والمتحدثين تكرر أحاديث الهدم والاستهانة بكل ما تم إنجازه بأيدى المصريين وثورتهم).
والغريب أن عددا لا بأس به ممن كانوا قريبين من قائد الثورة وكانوا يسبحون بحمده ليل نهار انقلبوا عليه بعد رحيله وظهروا فى الفضائيات فى أحاديث مقابل مكافآت سخية بالدولار لينسبوا كل خطأ وكل هزيمة وكل تهمة إليه ووصلت قلة الحياء ببعضهم إلى حد اتهامه بالخيانة (!) ومنهم من كتب مذكرات زوّر فيها وقائع أظهر نفسه فيها فى مظهر البطولة وأظهر قائد الثورة فى مظهر المتهم. وإن كان ذلك طبيعيا على أساس أن كل حاكم يجد حوله نوعين من الناس تحت الطلب، النوع الأول من الباحثين عن منصب وثروة، ويتعاملون بمنطق (بقدر ما تعطينا نعطيك وإذا توقفت ننقلب عليك ونعمل لخدمة غيرك ممن يعطى أكثر) وهذا النوع ليس له صفة غير الانتهازية، والنوع الثانى هم الذين قامت الثورة للقضاء على تسلطهم وطغيانهم ونظامهم الفاسد، ولأن الثورة أطلقت سراحهم، فقد انتهزوا فرصة رحيل قائد الثورة وخرجوا من الجحور، واستأجروا الأبواق التى تعبّر عما فى نفوسهم من حقد على الثورة وعلى كل ما فعلته.. فهم يرون أن إعطاء العمال والفلاحين الحق فى المشاركة السياسية جريمة، وأن مجانية التعليم جريمة لأنها ساعدت أبناء الفقراء على أن يتعلموا ويحتلوا بكفاءتهم أعلى المناصب وكانت من قبل حكرا على الطبقة المتسلطة على البلاد والعباد.. ويرون أن تدخل الدولة لدعم طعام الفقراء جريمة.. والدعوة إلى الوحدة العربية جريمة.. ورفض التبعية والنضال من أجل الاستقلال الوطنى جريمة.. وتعبئة الموارد من أجل التنمية جريمة.. والمصانع والمدارس والسد العالى جريمة..!
بعد رحيل قائد الثورة ظهر أن حصان طروادة كان داخل معسكر الثورة، فقد خرج أعداء الثورة. من داخل الصفوف- للانقضاض عليها وتشويه منجزاتها.. وحين تقرأ أو تسمع لهؤلاء تراهم يقولون إن كل ما فعلته الثورة خطأ.. كل شىء كان خطأ.. ليس هناك قرار واحد أو عمل واحد يمكن اعتباره حسنة من حسنات الثورة.. والحرب على الثورة تم بتنسيق بين الخارج والداخل.. هجوم الخارج تترد أصداؤه فى هجوم الداخل والعكس.. ولم يكن الهجوم على عبد الناصر وعهده فقط، بل امتد إلى أنور السادات وعهده أيضا، حتى حرب أكتوبر أعظم إنجازات العسكرية المصرية لم تسلم من جوقة أعداء الثورة.
أليس غريبا أن نجد بيننا حتى اليوم، وبعد 52 عاما. من لا يزال يحمل فى نفسه كل هذا الحقد الأسود؟.
من حيث المبدأ ليس هناك شعب متحضر يتنصل من جزء من تاريخه، و قد لفت نظرى فى زيارتى الأخيرة إلى موسكو أن تمثال لينين مازال قائما فى واحد من أهم ميادين العاصمة الروسية، وفى روما وجدت تمثال موسولينى فى مكانه فى أكبر ميادين العاصمة الإيطالية، وفى باريس رأيت مقبرة الخالدين وفيهم قادة الثورة الفرنسية، حتى الطغاة منهم لأنهم خلصوا فرنسا من حكم نظام فاسد وحققــوا لها الحرية والإخاء والمساواة.. و فى الولايات المتحدة نشاهد ونسمع كل لحظة أسماء جورج واشنطن، وإبراهام لنكولن، وويلسون وروزفلت وترومان ونيكسون وهكذا..
والفرنسيون مازالوا حتى اليوم -بعد 200 عام على ثورتهم- يحتفلون بذكراها بكل احترام مع ما ارتكبته هذه الثورة من فظائع وقتل بالجملة. حتى أن المقصلة لم تكن تهدأ ليل نهار ولم يفلت منها الأبرياء الذين اندسوا خطأ مع المطلوب إعدامهم.
ليس هدفى الدفاع عن عبد الناصر والسادات، فأنا على يقين من أن يوما سيأتى سيعود فيه العقل، وينصب ميزان العدل، ويتم تقييم كل مرحلة بما فيها من إيجابيات وسلبيات بموضوعية وإنصاف، ويعطى لكل زعيم حقه.
لكن هدفى حماية النظام القائم لأنه يستمد شرعيته من ثورة 23 يوليو .. وأخشى أن يكون هدف هؤلاء فى النهاية هو رفع شعار (ما بنى على باطل فهو باطل) وتكون كلمة حق يراد بها باطل(!) وهذا ما لا يمكن السكوت عنه.
شرعية النظام القائم قائمة على ثورة يوليو.. فهل الذين يريدون النكوص والتراجع.. هل يريدون إلغاء النظام الجمهورى وهو من نتائج ثورة 23 يوليو؟. هل يريدون إلغاء مبدأ العدالة الاجتماعية؟. هل يريدون إلغاء الانتماء العربى لتكون كل دولة عربية وحدها فريسة سهلة لمن يتربص لها؟. هل يريدون عودة أعوان الاستعمار أو عودة الاستغلال وسيطرة رأس المال على الحكم؟.
هدفى أيضا حماية الشباب من تأثير الحملة المسمومة على هذه الفترة من التاريخ. لأن تأثير هذه الحملة سيؤدى إلى شعور الكراهية والعداء لهذه الفترة، وبذلك تنقطع الصلة الروحية والنفسية بالمبادئ والقيم التى قامت عليها الثورة سواء أنجزتها كلها أو لم تنجزها.. فهذا موضوع آخر.. ففى كل عمل إنسانى هناك نقص وخطأ.. ولا تخلو مرحلة.. كما لا يخلو إنسان من البشر من النقص والخطأ.. المهم المبادئ حتى لو لم يحققها قادة الثورة بالكامل فإن الإيمان بها كفيل بأن تحققها الأجيال المتتابعة.. والإنصاف يقتضى الحديث بموضوعية عن الصواب والخطأ فى تلك المرحلة.
إننى أخشى على عقول الشباب لأنهم يتعرضون لهجمات شديدة أكبر من قدرتهم على مقاومتها، خصوصا فى غياب جهد كاف من الجهات المختصة لتحصين الشباب ضد هذه الهجمات.. فالشباب يتعرض للتشكيك فى زعمائه وإخلاصهم وأعمالهم. والتشكيك فى كل ما تم فى البلد وتصويره على أنه سلسلة من الفشل والهزائم.. ويتعرض لتفكيك الشخصية وتسطيح العقل بتأثير ما تقدمه الفضائيات الجديدة من قيم وأخلاق (أو عدم الأخلاق) وبفضل ما تكتبه بعض الأقلام من سموم.. يتعرض الشباب أيضا لعملية تحريض باستغلال ما يعانى منه من البطالة والضيق الاقتصادى.. والأخطر من كل ذلك يتعرض لعملية غسيل مخ منهجية ومستمرة تجعله أسيرا لفكر التطرف بوهم أن هذا هو صحيح الدين ومن يعارضه كافر. وهذا التيار وإن اختفى وربما يكون الآن فى مرحلة كمون توقف فيها عن القيام بعمليات إرهابية. إلا أنه نشط فى الفترة الأخيرة نشاطا كبيرا فى الجامعات والتجمعات لنشر الفكر الذى يقود إلى الإرهاب..
كنت أطالب بتمثال لعبد الناصر والسادات، ولكن يبدو أن ذلك لن يتحقق.. وكنت فقط أريد أن يظهر للكافة فى الداخل والخارج أن تاريخنا موضع اعتزازنا وأنه ليس للبيع.. ولكنى اليوم أطلب شيئا أهم وأخطر..أطلب حماية عقول الشباب من حملة تشويه لكل المبادئ والقيم الوطنية، وغرس مكانها روح الهزيمة والإحباط، وسلب الشعور بالولاء والانتماء لتحل محلها اللامبالاة والسطحية وفقدان الهدف.
المسألة ليست عبد الناصر والسادات أو إعادة الاعتبار للماضى.. المسألة هى مصر وحماية الأمل والمستقبل.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف