المفاعل الإسرائيلى يتحدى البرادعى!
ذهب الدكتور محمد البرادعى مدير الوكالة الدولية للطـاقة الذرية إلى إسرائيل يوم الثلاثاء الماضى وقضى فيها ثلاثة أيام، وعاد منها بخفى حنين.
كان هدف الدكتور البرادعى بدء حوار بين الوكالة والحكومة الإسرائيلية لإقناعها بالتوقيع على معاهدة منع الانتشار النووى أو معاهدة منع التجارب النووية، أو الكشف عن قدراتها وبرامجها النووية، أو حتى قبول الاشتراك فى حوار حول إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية.. لكن شارون أعلن بصلافته المعروفة- قبل وصوله بأيام - لا أعرف ما الذى يريد أن يعرفه هذا الرجل؟!. وعندما استقبله شارون ظل على موقفه وموقف حكومات إسرائيل المتعاقبة بعدم التصريح بشىء حول البرنامج النووى الإسرائيلى والاجابة عن الاسئلة حوله باجابات غامضة ليس فيها الإنكار ولا الاعتراف.
مع أن لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية أطلقت موقعا على الإنترنت فيه صورة ملونة لمركز النقب للأبحاث النووية تظهر فيه القبة البيضاء للمفاعل النووى. كما أن شبكة تليفزيون بى بى سى سبق أن قدمت برنامجا بالصوت والصورة للمفاعل النووى فى ديمونة وتحدث فيه شيمون بيريز ولم ينكر وجود منشآت وبرامج وأسلحة نووية فى إسرائيل.
والبرادعى كان أسدا فى العراق، كان يقتحم البيوت والقصور والجامعات مع فريق المفتشين، وكان يهدد ويتوعد، ويمهد لغزو العراق لأن هناك شبهة أو احتمال وجود نوايا أو أبحاث مبدئية لإنتاج قنبلة ذرية.. وهو يعلم تماما أن العراق لم تكن لديه قنبلة، ولم تكن لديه القدرة على إنتاجها، وهو طبعا يعلم أن إسرائيل سبق أن دمرت المفاعل النووى العراقى الذى كان مخصصا للأبحاث.
وكان أسدا فى إيران.. وفى ليبيا.. ولكنه كان فى إسرائيل نعامة.. لم يعلن أن على إسرائيل ألا تظل الدولة المارقة الرافضة للانضمام إلى معاهدة منع الانتشار النووى، ولم يتفوه بكلمة عن واجب المجتمع الدولى فى أن يطبق على إسرائيل المعايير التى طبقها على العراق، ولكنه على العكس من ذلك أعلن أنه وجد إسرائيل غير مستعدة لبحث الموضوع، ولم يسمح له بدخول مفاعل ديمونة. وأنه لا يستطيع عمل شىء مع إسرائيل لأنها ليست منضمة إلى معاهدة منع الانتشار النووى، وبالتالى فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تملك الحق فى طلب التفتيش على منشآتها النووية. كما فعلت مع إيران وليبيا وسائر دول العالم.
وقبل زيارة البرادعى أدلى وزير الدفاع الأمريكى دونالد رامسفيلد بتصريحات غريبة حين سئل عن علمه بامتلاك إسرائيل أسلحة نووية فقال: كل العالم يعرف الاجابة. هذه دولة صغيرة، تعيش فى منطقة يريد كل من فيها إلقاءها فى البحر، وهى استعدت لذلك بحيث لا يستطيع أحد إلقاءها فى البحر. وفى نفس الوقت هاجم رامسفيلد العراق وإيران وكوريا الشمالية. والرئيس الأمريكى جورج بوش يهاجم بقوة الدول التى ترفض التوقيع على معاهدة منع الانتشار النووى. ولكنه لا يذكر اسم إسرائيل أبدا.
ومادام الرئيس الأمريكى يؤيد إسرائيل فى امتلاك أسلحة دمار شامل، فإن تابعه تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى لابد أن يردد ما يقوله بوش، ولذلك فلم يكن غريبا أن يقف فى مجلس العموم ويدافع عن حق إسرائيل فى امتلاك أسلحة دمار شامل معتبرا ذلك من حق (الدولة اليهودية) فى الأمن. وقال بالحرف: إن الدولة اليهودية محاطة بدول لا يؤمن بعضها بحق إسرائيل فى الوجود. والأغرب أنه قال: إن إسرائيل دولة ديمقراطية وحكومتها منتخبة من قبل شعبها، ومن الضرورى احترام أمن إسرائيل حين نعمل على نزع أسلحة الدمار الشامل.
وترسانة إسرائيل النووية ليست سرا. ففى عام 1986 كشف موردخاى فانونو كل أسرار مفاعل ديمونة وقدم معلومات وتفاصيل وصوراً من داخل المفاعل نشرتها صحيفة صنداى تايمز البريطانية، وعرف العالم أن إسرائيل أنتجت فعلا ما لا يقل عن 100 رأس نووى. وتابع العالم بعد ذلك ما جرى لفانونو وهو أحد الفنيين الذين كانوا يعملون فى مفاعل ديمونة، وترك العمل وذهب إلى لندن ليكشف السر بعد أن ضاق صدره بكتمان النوايا العدوانية لإسرائيل. ولكن المخابرات الإسرائيلية استدرجته إلى روما على يد امرأة من عملاء الموساد وهى أمريكية من فيلادلفيا اسمها سيندى، ومن روما تم تخديره ونقله فى زورق إلى سفينة حملته إلى إسرائيل، وهناك حاكموه وحكموا عليه بالسجن وقضى فى السجن 18 عاما خرج بعدها ليقول: أريد أن يتكلم بوش وبلير عن تعاونهما مع إسرائيل فى المجال النووى!
البرادعى يعلم، وأمريكا تعلم، أن إسرائيل هى الدولة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى تمتلك رؤوسا نووية وصواريخ لانس واريحا القادرة على حملها إلى أى مكان. أى أن إسرائيل هى التى تهدد أمن جيرانها وليس العكس. وإسرائيل هى التى تسعى إلى تدمير جيرانها وليس العكس. وأن جيران إسرائيل هم الذين يحتاجون إلى ضمانات الأمن لهم وليس العكس. وإن إسرائيل ليست دولة ديمقراطية بدليل ما يحدث من انفراد رجل واحد بالسلطة والقرار والباقى ديكور.
والعالم كله. وأمريكا طبعا تعلم، أن إسرائيل قامت بتطوير المفاعل النووى فى ديمونة لزيادة قدرته على إنتاج البلوتونيوم المستخدم فى صناعة القنابل النووية. وأمريكا تعلم أن إسرائيل استعدت لاستخدام أسلحتها النووية عندما تعرضت للهزيمة فى حرب أكتوبر 1973 ومرة أخرى ضد العراق خلال حرب الخليج الثانية، وكان هذا الاستعداد وسيلتها لابتزاز الولايات المتحدة.. فكان الجسر الجوى الأمريكى الذى أمدها بالأسلحة فى حرب 1973 وبالأموال وبصواريخ باتريوت فى حرب العراق. وأمريكا تعلم أن إسرائيل لديها نظام لصنع قنابل نووية صغيرة يمكن إطلاقها من الصواريخ والمدفعية النووية. وأن إسرائيل لديها موافقة مسبقة من أمريكا على تدمير الامكانات النووية التى يمكن أن تكون فى أية دولة فى المنطقة. وهذا ما حدث عندما دمرت المفاعل العراقى عام 1981 وأيدتها أمريكا، ثم قامت أمريكا بنفسها بتدمير العراق كله لمجرد احتمال أن تكون لديه بوادر قدرة نووية. وفتحت العراق لإسرائيل ومخابراتها لتعيث فيه فسادا.
والعالم كله يعلم -وأمريكا طبعا تعلم- أن وجود إسرائيل ليس فى خطر، وأن ما يقال عن نوايا جيرانها للقضاء عليها وإلقائها فى البحر أصبح نكتة سخيفة لا يمكن أن تصدر عن عاقل.
والعرب أعلنوا، ويكررون الإعلان كل يوم، عن قبولهم لإسرائيل كدولة، تعيش فى المنطقة مع جيرانها فى سلام وبضمانات أمن لها ولجيرانها، إلى جانب دولة فلسطينية لها هى الأخرى الحق فى ضمانات الأمن.
ومصر أعلنت منذ عشر سنوات مبادرتها لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، وعقد مؤتمر دولى للتوصل إلى تنفيذ ذلك ولم تجد استجابة من إسرائيل أو من الولايات المتحدة.
ومن حقنا أن نسأل الولايات المتحدة: هل ستظل على سياسة تأييد البرنامج النووى الإسرائيلى مع ما فيه من مخاطر تهدد أمن الدول العربية؟. فضلا عن مخاطر تسرب الإشعاعات النووية. وقد نشر مؤخرا أن إسرائيل قررت توزيع أقراص لحماية المقيمين فى المناطق القريبة من مفاعل ديمونة من مخاطر الإشعاع النووى، مما يعنى وجود خطر فعلا. فضلا عن الغموض حول كيفية تخلص إسرائيل من النفايات النووية. هل تلقيها فى البحر أو تدفنها فى صحراء النقب وفى هذه الحالة ما مدى احتمالات تسرب الإشعاع إلى المياه الجوفية والتربة وانتقاله إلى الدول المجاورة؟ *