خلافات السُّنة والشيعة
نقاط الاتفاق بين السُنّة والشيعة كثيرة، وأهمها الاتفاق على المبادئ الأساسية والأصول (التوحيد- القرآن- السُنـّة- الأركان الخمسة) وبعد ذلك هناك نقاط خلاف أساسية لا يمكن إغفالها. وفى نفس الوقت لا يمكن أن تمنع التقاء الطـائفتين تحت مظلة الإسلام.
ومن أهم نقط الخلاف- كما يقول أحمد أمين فى كتابه الشهير (ضحى الإسلام) مسألة الإمامية، وهو ينقل خلاصة ما ورد عن (الإمام) فى أوثق كتب الشيعة وهو كتاب (الكافى) للكلينى، وفيه أن الإمام له صلة روحية بالله من جنس الصلة للأنبياء والرسل.
وقد كتب الرضا: (الفرق بين الرسول والنبى والإمام أن الرسول هو الذى ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحى، وربما رأى فى منامه نحو رؤيا إبراهيم. والنبى ربما سمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع. والإمام هو الذى يسمع الكلام ولا يرى الشخص..) فالإمام بهذا النص يوحى إليه وإن اختلف طريق الوحى إليه عن الطريق الذى يصل الوحى به إلى النبى والرسول، (والله عز وجل أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل، إن زاد المؤمنون شيئا ردهم، وإن نقصوا شيئا أتمه لهم، وهو حجة على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام، حجة الله على عباده، ولِمَ لم يبق فى الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة وكان هو الإمام).
والإيمان بالإمام جزء من الإيمان، ومن كتاب أصول الكافى ينقل أحمد أمين أيضا قول الإمام أبو جعفر الصادق (إن معرفة الله هى تصديق الله عز وجل، وتصديق رسوله، وموالاة الإمام علىّ الائتمام به وبأئمة الهدى عليهم السلام، والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم. هكذا يُعرف الله)، و(إن من أصبح من هذه الأمة لا إمام له، أصبح ضالا تائها، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق) ويفسر الآية (وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس) على أن النور هو الإمام يسير الناس على هداه، كما يفسرون الآية (من جاء بالحسنة فله خير منها..) بأن الحسنة هى معرفة الولاية وحب آل البيت والسيئة هى إنكار الولاية وبغض آل البيت. ومن كتاب (أصول الكافى) أيضا ينقل أحمد أمين قول الرضا (الناس عبيد لنا فى الطاعة) وتفسير الشيعة للآية (ولكل قوم هاد) بأن المقصود هم الأئمة، فهم ولاة الله وخزنة علمه. وقول الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا) على أن النور هو نور الإمام فى قلوب المؤمنين.
والأئمة هم أركان الأرض وحجته البالغة. ويقول الإمام الرضا (الإمامة تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والجهاد وتوفير الفىء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. الإمام يحل حلال الله، ويحرّم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب (يدافع) عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة؛ الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها العالم.. الإمام هو البدر المنير والسراج الظاهر.. المطهر من الذنوب والمبرأ من العيوب.. الخ).
ووفقا لما ذكره المرجع الشيعى المعتمد (الكافى) فإن أعمال الناس ستعرض على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى الأئمة لقول الله تعالى (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) قال أبو عبد الله: المؤمنون هم الأئمة، وقال أيضا: (نحن شجرة النبوة وبيت الرحمة.. وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة وموضع سر الله، ونحن حرم الله الأكبر، ونحن ذمة الله، ونحن عهد الله، فمن وفّى بعهدنا وفّى بعهد الله، ومن خفرها فقد خفر ذمة الله وعهده).
ويقول الشيعة الإمامية إن الأئمة عندهم جميع الكتب التى نزلت من عند الله عز وجل، وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها، وقد أورث الله الأئمة ذلك الكتاب الذى فيه تبيان كل شىء.. وعند الأئمة اسم الله الأعظم، وعندهم (الجفر) وهو وعاء من آدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بنى إسرائيل، وعندهم مصحف فاطمة، وفيه مثل قرآننا ثلاث مرات، وليس فيه من قرآننا حرف واحد. و(فيما يتعلق بقرآن فاطمة فلا يقول به كل الشيعة).
وفى كتاب (ضحى الإسلام) أوصاف كثيرة للأئمة منقولة عن كتاب (أصول الكافى) وهو من الكتب المعتمدة لدى الشيعة، يصل منها أحمد أمين إلى أن الشيعة الإمامية ينظرون إلى الإمام على أنه يتلقى علمه عن طريق الوحى، ويعده الله إعدادا خاصا ويعصمه من الذنوب ويورثه علم الأنبياء ويطلعه على ما كان وما سيكون، وأن النبى عليه الصلاة والسلام آثر الإمام على بعلم خاص، والإمام نور الله فى أرضه.
ويصل أحمد أمين إلى أن هذا المفهوم لمكانة الإمام يؤدى إلى شلل العقل، وقتل الفكر، ويجعل للإمام سلطة لا حد لها ما دام هو الإمام المعصوم. ويرى أن هذا المفهوم الشيعى لمكانة الإمام يتعارض مع المفهوم العام للسُنّة وهو- أن الله لم يخلق أسرة من الناس تمتاز كلها متسلسلة بامتياز لا حد له، وتكون فوق مستوى كل الناس فى العقل والدين والحكم والتصرف، وكلنا أولاد آدم، والآيات كلها تدل على أن القرابة والنسب لا دخل لهما فى تقويم الأشخاص، ولا يورث الصلاح والتقوى والعلم كما يورث المال، ومن مزايا الإسلام العظيمة أن الإنسان يوزن بأعماله لا بآبائه ولا بجاهه أو ماله (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لابنته يا فاطمة اعملى فإنى لن أغنى عنك من الله شيئا، كما كان من الموالى من هم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض القرشيين، ويصل أحمد أمين من ذلك إلى أن دعوى أن الإمامة إرث وأن الإمام معصوم. وأن الإيمان بالإمام يغفر المعاصى، يتعارض مع مفهوم الإسلام، فقد كان عمر يخطئ، وكان أبو بكر يخطئ، ولو كان للإمام علىّ العصمة والعلم ببواطن الأمور وخفاياها لتغير وجه التاريخ، ولما قبل التحكيم، ولكان قد أدار الحروب أفضل مما أدارها.. والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه يقول: (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء).
ويستشهد أحمد أمين بشعر ابن هانئ الأندلسى المغربى الشيعى فى مدح المعز لدين الله الفاطمى:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبى محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذى كانت تبشرنا به
فى كتبها الأحبار والأخبار
هذا الذى ترجى النجاة بحبه
وبه يُحط الإصرُ والأوزار
هذا الذى ترجى شفاعته غدا
حقا وتخمد أن تراه النار
من آل أحمد كل فخر لم يكن
يُنّمى إليهم ليس فيه فخار
وينقل أحمد أمين من ديوان ابن هانئ الكثير عن قداسة الإمام ووجوب طاعته والتماس شفاعته. ويصل إلى أن الزمن اختلف، ونحن فى عصر عرف فيه الناس حقوقهم وواجباتهم، وهو عصر حرية الفرد وحرية الفكر وهو عصر الديمقراطية ولا يتفق ذلك مع نظرية الإمام المعصوم.
***
ومن أهم الكتب التى صدرت لشرح عقائد الشيعة كتاب (أصل الشيعة وأصولها) للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء وهو من أكبر علماء الشيعة فى النجف وتوفى فى إيران عام 1954. ويقول: إن الإمامة هى الأصل الثالث من أصول الشيعة الإمامية. فالأصل الأول هو التوحيد، والثانى هو النبوة، ويشير إلى كذب ما فى بعض الكتب عن وجود مصحف يختص به الأئمة هو مصحف فاطمة. فيقول: إن عقيدة الشيعة الإمامية أن الكتاب الموجود فى أيدى المسلمين هو الكتاب الذى أنزله الله للإعجاز والتحدى ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه، ولا تحريف، ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ، ونص الكتاب العظيم (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة فى نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة، أو أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا، فإما أن تأول بنحو من الاعتبار، أو يضرب بها الجدار، ويعتقد الإمامية أن كل من اعتقد أو ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم أو نزول وحى أو كتاب فهو كافر.
وهذا هو إجماع الشيعة الإمامية، وبعضهم يقول إن ما يقال: عنه مصحف فاطمة هو نسخة من المصحف المتداول وكان الإمام على يدون على الهامش تفسير بعض الآيات، التى كان يسأل عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكتب إجاباته عليها. أما النص أو المتن فهو هو كلمة كلمة وحرفا حرفا ولا خلاف عليه.
وعن موضوع الإمامة يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء فيقول إنه يمثل الفرق الجوهرى بين مذهب الشيعة الإمامية والمذاهب والفرق الأخرى، أما الفروق الأخرى فهى عرضية كالفروق بين أئمة الاجتهاد كالحنفى والشافعى وغيرهما.
ويقول إن الإمامة عند الشيعة الإمامية هى منصب إلهى يختاره الله يسابق علمه بعباده كما يختار النبى صلى الله عليه وسلم ويأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يدل الأمة عليه، ويأمرهم باتباعه، ويعتقد الشيعة الإمامية أن الله أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علما للناس من بعده، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم، وإلى اليوم، ليسوا فى مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبى صلى الله عليه وسلم وعصمته، ولكن الله لم يعذره فى ذلك فأوحى إليه: ( يا أيها النبى بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) فلم يجد بدا من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد، فخطب فى الناس عند منصرفه من حجة الوداع فى غدير خم، فنادى وجلهم يسمعون: ألست أولى بالمؤمنون من أنفسهم، فقالوا: اللهم بلى. فقال: (من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه) إلى آخر ما قال، ثم أكد ذلك فى مواطن أخرى تلويحا وتصريحا وإشارة ونصا حتى أدى الوظيفة، وبلغ عند الله المعذرة.
هكذا يؤكد الشيخ كاشف الغطاء أولا- أن الإمامة أصل من أصول العقيدة الإسلامية فى مذهب الشيعة الإمامية، ويرى ثانيا- أن إمامة علىّ كرم الله وجهه إنما جاءت بأمر من الله وأن النبى صلى الله عليه وسلم بلغ بها المسلمين صراحة فى حجة الوداع، وأن الآية: (يا أيها النبى بلغ ما أنزل إليك من ربك) المقصود بها بلغ المسلمين بأن علىّ هو الإمام من بعدك.
***
ويقول الشيخ كاشف الغطاء إن الإمام على امتنع أولا عن بيعة أبى بكر ثم رأى أن امتناعه ضرر كبير على الإسلام فضحى بنفسه، وقد رأى أن أبا بكر الذى أصبح خليفة قد نصح للإسلام، وصار يبذل جهده من أجل قوة الإسلام وإعزازه، وهذا أقصى ما يتوخاه علىّ من الخلافة، ولذلك تابع وبايع حيث رأى أن فى ذلك مصلحة الإسلام، ويقول الشيخ كاشف الغطاء: إن عليا (وهو على منصبه الإلهى من الإمامة وإن سلم لغيره التصرف والرئاسة العامة فإن ذلك المقام مما يمتنع التنازل عنه بحال من الأحوال) أما حين انتهى الأمر إلى معاوية، وعلم أن موافقته ومسالمته وإبقاءه واليا فيه ضرر كبير على الإسلام فلم يجد بدا من حربه.
يقول الشيخ كاشف الغطاء إن الإمامية يقولون: نحن شيعة على وتابعوه، نسالم من سالمه، ونحارب من حاربه، ونعادى من عاداه، ونوالى من والاه، إجابة وامتثالا لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) وعلى ذلك فإن حبنا وموالاتنا لعلى وولده إنما هى محبة وموالاة للنبى وإطاعة له.
ويقول إن الإمامية يعتقدون أن الله سبحانه لا يخلى الأرض من حجة على العباد من نبى أو وصى ظاهر مشهور، أو غائب مستور، وقد نص النبى صلى الله عليه وسلم على علىّ وأوصى على إلى ولده الحسن، وأوصى الحسن أخاه الحسين، وهكذا إلى الإمام الثانى عشر المهدى المنتظر. ويقول إن علماء الدين لهم مؤلفات عديدة فى إثبات الوصية، مثل كتاب (الوصية) لهشام بن الحكم، وكتاب (الوصية) للحسين بن سعيد، وكتاب (الوصية) للحكم بن مسكين، وعشرات غيرهم فى القرن الأول الهجرى والقرن الثانى والقرن الثالث، وحتى القرن الرابع ومن أمثلة ما كتب فيه كتاب المسعودى (إثبات الوصية) وقال فيه: لكل نبى إثنا عشر وصيا ذكرهم بأسمائهم ومختصر من تراجمهم.
***
ويتحدث الشيخ كاشف الغطاء عن قضية المهدى المنتظر فيقول: قد تعلو نبرات الاستهتار والاستنكار من سائر فرق المسلمين ومن غيرهم على الشيعة الإمامية لاعتقادهم بوجود إمام غائب، ويستنكرون قول الشيعة الإمامية بأن الإمام الغائب، أو المهدى المنتظر، من المستبعد بقاءه مدة تتجاوز ألف سنة، ويستدل على عمر نوح عليه السلام الذى لبث فى قومه بنص الكتاب ألف سنة إلا خمسين عاما، وقد اختلف علماء الحديث على حياة الخضر ونبوته، وقال بعضهم إن الخضر حى موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية، وحكاياتهم عن رؤيته وسؤاله والأخذ منه أكثر من أن تحصى -بل إن الزمخشرى- وهو من علماء السُنّة- له كتاب اسمه (ربيع الأبرار) قال فيه إن أربعة من الأنبياء اثنان منهم فى السماء هما إدريس وعيسى، واثنان فى الأرض هما الياس والخضر، والشيعة يعتبرون مثل هذه الروايات أدلة على وجود الإمام الغائب وأنه ما زال حيا. أما السؤال عن الحكمة والمصلحة فى بقائه مع غيبته وهل وجوده مع عدم الانتفاع به يتساوى مع عدم وجوده، فإن الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء يجيب عنه بأن هذه من الحكم الربانية، والمصالح الإلهية، ومن أسرار التكوين والتشريع، شأنه فى ذلك شأن الأحكام التى لا تزال حكمتها مجهولة إلى اليوم مثل تقبيل الحجر الأسود مع أنه حجر لا يضر ولا ينفع، ومثل فرض صلاة المغرب ثلاث ركعات وصلاة العشاء أربع ركعات والصبح ركعتين وهكذا من الأمور التى استأثر الله سبحانه بعلم جملة أشياء لم يطلع عليها ملكا من الملائكة ولا نبيا من الأنبياء المرسلين مثل علم الساعة، وليلة القدر، وساعة الاستجابة. وعلى ذلك فإنهم يقولون إن مثل هذه الأمور يجب التصديق بها إذا صح أن النبى صلى الله عليه وسلم وأوصياءه المعصومين قد أخبروا بها.
وهذا -عندهم- ينطبق على الأئمة وعلى وجه الخصوص الإمام الغائب وهو المهدى المنتظر ويقولون إن النبى صلى الله عليه وسلم تحدث عنه، ويقول الشيخ كاشف الغطاء: (ونحن وإن اعترفنا بجهل الحكمة وعدم الوصول إلى المصلحة، ولكن عندما سألنا بعض عوام الشيعة هذا السؤال ذكرنا لهم عدة وجوه تصلح للتعليل، ولكن ليس على سبيل البت، فإن المقام أكثر غموضا ودقة من ذلك، ولعل هناك أمورا تسعها الصدور ولا تسعها السطور.. وإذا قامت البراهين على وجوب وجود الإمام فى كل عصر، وأن الأرض لا تخلو من حجة، وأن وجوده لطف، وتصرفه لطف آخر، فالسؤال عن الحكمة ساقط، والأدلة متوافرة).
***
وعند أهل السُنّة فإن هذه الإجابة غير كافية، لأنهم يؤمنون بأنه ليس هناك إنسان معصوم، وليس هناك إنسان يمكن أن يصل إلى مثل هذه المرتبة القريبة من مرتبة النبوة. وليس هناك إنسان ينفرد وحده بالقول. والمبدأ الإسلامى هو الشورى (وأمرهم شورى بينهم) وحتى النبى المعصوم أمره الله بأن يشاور صحابته (وشاورهم فى الأمر).
ويقول بعض علماء الشيعة إن فكرة الإمام المعصوم تنطبق على الأئمة الاثنى عشر فقط ولا تنطبق على أحد بعدهم، حتى ولو كان من نسل آل البيت، ويقول هؤلاء إنه لا يوجد الآن إمام معصوم، وإن من يسميهم الشيعة أئمة إنما يخلعون عليهم اللقب بمعنى آخر ليس فيه معنى العصمة. حتى الإمام الخمينى فهو ليس إماما معصوما، وكان لقبه وهو فى العراق (نائب الإمام) أى أن له منزلة عالية فى البناء الهرمى لعلماء الشيعة ولكن لا يصل إلى درجة أن يكون إماما، ولكن أنصاره أسقطوا كلمة (نائب) وشاع لقب الإمام.. ويقول هؤلاء إن حوزات العلماء الشيعة فى إيران والعراق تسير فى هذا الاتجاه.
***
أما فكرة المهدى المنتظر فإن أحمد أمين يفسر إيمان الشيعة بها تفسيرا سياسيا واجتماعيا ودينيا، ويرى أن الشيعة اخترعوا هذه الفكرة بعد خروج الخلافة من أيديهم وانتقالها إلى معاوية، وقتل الإمام علىّ، وتسليم الإمام الحسن الأمر إلى معاوية، ثم قتل الإمام الحسين، حينئذ رأى الشيعة أن كل ذلك قد يسبب اليأس فى نفوس أتباعهم فيذوب حزبهم، فكان منهم بعيدو النظر، بدأوا يبشرون بأن الحكم سيرجع إليهم، وأن بنى أمية مصيرهم الهزيمة، ووضعوا لذلك خططا منها الدعوة السرية للتشيع والعمل فى الخفاء على قلب الدولة الأموية وإضعافها، ثم رأوا أن ذلك لا يتم إلا بقيام رئيس للشيعة يلتف الناس حوله ولو سرا، ويلقبونه بأنه الخليفة حقا، ورأوا أن ذلك لا يتم أيضا إلا بصبغة دينية، فهو الإمام، وهو المعصوم، ورأوا من إحكام أمرهم بث الرجاء والأمل فى نفوس الناس حتى يشجعوا ويثبتوا، ومنوهم بأن الأمر لهم فى النهاية، وأن الأمويين مهما أوتوا من النصر العاجل فإن الهزيمة تنتظرهم.
ولكن قوما حولوا الأخبار الواردة من الشيعة الأولين فى الحكومة المنتظرة إلى حاكم منتظر، لأن ذلك أقرب إلى أذهان العامة. وبذلك فإن تفسير أحمد أمين لنظرية المهدى المنتظر إنها رمز لحكومة شيعية منتظرة جعلها المتأخرون حقيقة، وجعلوا المهدى المنتظر حقيقة، وأكثروا من القول فيها وزادوا أوصافا وأخبارا ليلبسوه ثوب الحقيقة.
وهذا التفسير هو ما جاء فى تفسير الألوسى الذى قال: (وتأويل جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار فى الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهى دون رجوع الأشخاص وأحياء الأموات) ويضيف أحمد أمين: إن العامة لا يفهمون جيدا رجوع المعانى، وإنما يفهمون رجوع الأشخاص، ولذلك وضع لهم الشيعة أخبار المهدى المنتظر بشخصه ووصفه.. وعندما خرج الأمر من أيدى الشيعة دعوا إلى تحمل آلام الحياة فى صبر وثبات، وزادوا على ذلك إجادة تصوير فكرة الأمل، وجسّدوها فى المهدى.
***
والدليل على أن فكرة المهدى كانت وسيلة الشيعة فى الخروج من حالة الإحباط بعد الفشل فى الوصول إلى الحكم، وأن هذه الفكرة ذاتها أخذها بعض الأمويين عندما وجدوا أنفسهم فى ظروف مماثلة، وذلك عندما فشل خالد بن يزيد الأموى وخرج الحكم من بيته إلى بيت مروان بن الحكم أشاعوا أن المهدى المنتظر سيعود بالحكم إلى آل خالد بن يزيد، وكذلك فعل العباسيون؛ فقد استغلوا فكرة المهدى المنتظر وادعوا أن المهدى فيهم وليس فى الشيعة، فاليأس عند الشيعة وعند البيت السفيانى هو السبب النفسى لقيام فكرة المهدى، ونظرية حرب القوم بسلاح من جنس سلاحهم هى السبب النفسى لفكرة المهدى العباسى.
ويقول أحمد أمين: إن هؤلاء القادة المهرة استغلوا أفكار الجمهور الساذجة المتحمسة للدين وللدعوة الإسلامية، فوضعوا الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحكموا أسانيدها وأذاعوها بطرق مختلفة فصدقها الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة، لأنها فى مصلحتهم، وسكت الأمويون لأنهم قلدوها فى بيت خالد بن يزيد الأموى، وسكت العباسيون لأنهم حولوها إلى منفعتهم.
ولكن الزيدية، وهم فرع من فروع الشيعة كانوا ينكرون المهدى والرجعة إنكارا شديدا، وقد ردوا الأحاديث المتعلقة بذلك، ورووا عن أئمة أهل البيت روايات تعارض روايات الأئمة الاثنى عشرية.
***
ويشير أحمد أمين إلى (الجفر) وهو جلد يقول بعض الشيعة: إنه مكتوب فيه علم ما سيقع لأهل البيت رواية عن جعفر الصادق فى زعمهم، فيه أخبار عن المهدى المنتظر الذى يملك الديلم والقسطنطينية ويفتح روما وانطاكيا.. إلخ.. وجعلوا هذه الروايات أحاديث بعضها نسبوه إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وبعضها نسبوه إلى أئمة أهل البيت، وبعضها نسبوه إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه، وهكذا.. ويقول أحمد أمين:
وكان لكل ذلك أثر سيىء فى تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام، كما كان من أثره تلك الثورات المتتالية فى تاريخ المسلمين، ففى كل عصر يخرج داع أو دعاة كلهم يزعم أنه المهدى المنتظر، ويلتف حوله طائفة من الناس، كما حدث مع المهدى رأس الدولة الفاطمية، وفى تاريخ المغرب لا يكاد يمر عصر من غير خروج من يدعى أنه المهدى، وكان آخرهم المهدى فى السودان، وفرقة البابية فى فارس التى دعا إليها ميرزا على محمد المولود سنة 1235 هجرية، وهو من نسل الحسين، وقد ادعى- وهو فى الخامسة والعشرين من عمره- أنه (الباب) بمعنى أنه (نائب المهدى المنتظر)، وما أكثر عدد من خرجوا فى تاريخ الإسلام وادعوا المهدية، وما قاموا به من ثورات، وما تسببوا فيه من تشتيت للدولة الإسلامية، وانقسامها وضياع قوتها.
ويعلق أحمد أمين بقوله: هذا كله من جراء نظرية المهدية، وهى نظرية لا تتفق مع سنة الله فى خلقه، ولا تتفق مع العقل الصحيح، ولعل تقدم العقل والعلم ونظم الحكم يقضى على البقية الباقية من هذه الخرافة، ويحول الناس إلى أن ينشدوا العدل، ويعملوا بأيديهم وعقولهم فى إيجاد الحكم الصالح فى الواقع لا فى الخيال.
ويتحدث أحمد أمين عن أثر فكرة المهدى على الصوفية، فقد أخذوا الفكرة وصاغوها صياغة جديدة، وتحدثوا عن (القطب)، وكونوا حول القطب مملكة من الأرواح، وقالوا: إنه هو الذى يدبر الأمر فى كل عصر، وهو عماد السماء، ولولاه لوقعت على الأرض، ويلى القطب النقباء وهم كما يقول ابن عربى فى كتابه الشهير (الفتوحات المكية)، إثنا عشر نقيبا فى كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك الاثنى عشر، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله تعالى فى مقامه من الأسرار والتأثيرات.. وقالوا: إن الله أعلم هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خفايا النفوس، وإبليس مكشوف عندهم، يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه، وهكذا كوَّن الصوفية أيضا مملكة باطنية وراء المملكة الظاهرية، اتخذوا فيها فكرة المهدى وغيروا ألفاظها.
***
وعند الشيعة (التقية) أصل من أصول المذهب، وهذه نقطة خلاف أخرى مع أهل السُنّة، والتقية معناها عندهم أن الإنسان يظهر غير ما يبطن إذا خاف من عدوه على نفسه أو ماله أو عرضه، فهى مداراة وكتمان، وتظاهر بغير الحقيقة، وهى -كما يقول أحمد أمين- النظام السرى فى شئون الشيعة، فإذا أراد إمام الخروج والثورة على الخليفة وضع لذلك نظاما وتدابير، وأعلم أصحابه بذلك فتكتموه، وأظهروا الطاعة للخليفة، حتى تتم الخطة المرسومة، وإذا أحسوا ضررا من كافر أو سنى داروه وأظهروا له الموافقة، فهذه أيضا تقية.. وهكذا.
والتقية تمثل ركنا أساسيا فى تاريخ الشيعة، والأحداث التاريخية أساسها إمام مستتر يدعو إلى نفسه فى الخفاء، ويبعث بدعاته إلى الأمصار، فيتخذون البيعة له من أنصارهم ويطالبونهم بالكتمان والتظاهر بالطاعة للحاكم القائم، ويلزمونهم بأن يعملوا ما يطلبه منهم الولاة الظاهرون حتى لا تحوم حولهم شبهة، إلى أن تنضج الثورة، ويحين الوقت الملائم، فيعلنوا الخروج على الحاكم ويحملوا السلاح فى وجه الدولة..
وقد روى الكلينى فى كتابه (الكافى) الكثير عن التقية فروى -مثلا- عن أبى عبد الله أنه قال: (تسعة أعشار الدين فى التقية. ولا دين لمن لا تقية له، والتقية فى كل شىء إلا فى النبيذ والمسح على الخفين)، وقال: إن الآية (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) أى بما صبروا على التقية، وما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، ويستند الشيعة إلى قول الله تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاه)، ويروى الشيعة عن أبى جعفر الصادق: (التقية من دينى ودين آبائى، ولا إيمان لمن لا تقية له).
وعلى هذا قال كثير من الشيعة: إنه يحسن لمن اجتمع مع أهل السُنّة أن يوافقهم فى صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت: من صلى وراء سنى تقية فكأنما صلى وراء نبى، وفى وجوب قضاء هذه الصلاة عندهم خلاف؛ بعضهم قال يجب القضاء وبعضهم قال: إنه لا يجب.. وقد فسروا كثيرا من أعمال الأئمة على أنهم فعلوها تقية، فسكوت علىّ على أبى بكر وعمر وعثمان تقية، ومصالحة الحسن لمعاوية كانت تقية، كما كانت التقية سببا فى تحميل الكلام معانى خفية، بحيث يكون الكلام ظاهرا يفهمه الناس، وباطنا يفهمه الخاصة، وفسر بعضهم القرآن على هذا النحو، فجعلوا كثيرا من الآيات رمزا لعلىّ والأئمة.. وجرى على هذا النمط الصوفية فقالوا: إن وراء كل علم ظاهر علماً باطناً، لا يصل إليه الإنسان من ظاهر اللفظ، ولكن يصل إليه عن طريق الإلهام والمكاشفة.
وأهل السُنّة يستنكرون التقية ويعتبرونها نفاقا لا يجوز، لأنه يجعل كل إنسان يسىء الظن بالآخر، ولا يعرف إن كان صادقا فيما يقوله وما يفعله، أم أنه يبطن غير ما يظهر وفقا لمبدأ التقية.
ويقول بعض علماء الشيعة: إن مبدأ التقية كان ضروريا فى الماضى، حين كان الشيعة يتعرضون للاضطهاد، وكانوا يضطرون إلى إخفاء حقيقتهم ولم يعد له مبرر الآن.
***
وفى كتاب (الشيعة والسُنّة) للأستاذ إحسان الهى ظهير (مطبعة لاهور -باكستان- الطبعة الثالثة والعشرون 1984).. فصل فى الرد على القول بالتقية -من وجهة نظر أهل السُنّة- يقول: إن الآيات التى يستند إليها الشيعة لتبرير التقية مثل قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وقوله: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) لا تدل على جواز الكذب والتقية، كما فى الآية (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، كما أن الأحاديث تؤكد على أن ظاهر المؤمن كباطنه، مثل الحديث الذى رواه أبو داود: (كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا فهو لك مصدق وأنت به كاذب)، والحديث الوارد فى كتاب أصول الكافى: (لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده).. وفى نهج البلاغة للإمام علىّ: (الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك).
***
أما نقطة الخلاف الجوهرية فهى حول زواج المتعة.
يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء فى كتابه (أصل الشيعة وأصولها): إن عقود الزواج عندنا قسمان:عقد الدوام وهو الزواج المطلق والعقد المرسل (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم)، وعقد الانقطاع وهو الزواج المقيد المؤقت، والأول اتفقت عليه عامة المسلمين، أما الثانى ويعرف باسم (نكاح المتعة) مصرح به بقوله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) فهو زواج انفردت به الشيعة الإمامية من بين سائر فرق المسلمين وقالت بجوازه ومشروعيته إلى الأبد، ولا يزال النزاع محتدما حوله بين الفريقين من زمن الصحابة إلى اليوم.
ويقول: إن المتعة بمعنى العقد إلى أجل مسمى وبأجر معين شرعها الله وعمل بها جماعة من الصحابة فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، واتفق المفسرون أن جماعة من عظماء الصحابة كعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله الانصارى، وابن مسعود، وأبى بن كعب وغيرهم كانوا يفتون بإباحتها.. والبعض يقول: إنها نسخت وحرمت بعدما أبيحت وحدث هنا الاضطراب فى النقل والاختلاف الذى لا يفيد ظنا، فضلا عن القطع، ومعلوم أن الحكم القطعى لا ينسخه إلا دليل قطعى، فتارة يقولون: إنها نسخت بالسُنّة وإن النبى حرمها بعدما أباحها، وتارة يقولون: إنها نسخت بالكتاب.
وفى زواج المتعة لا ترث الزوجة عن زوجها.. ويبرر الإمام كاشف الغطاء ذلك بأن ذلك مثل الزوجة الكافرة فإنها لا ترث زوجها، وكذلك الزوجة المعقود عليها فى حالة مرض الزوج إذا مات زوجها فيه قبل الدخول فإنها لا ترث زوجها أيضا، ويقول البعض: إن الزوجة فى زواج المتعة ليس لها عدة بعد انتهاء مدة الزواج، ويقول كاشف الغطاء- وغيره من أئمة الشيعة -إن العدة ثابتة بإجماع الإمامية- وهى حيضتان، أما النفقة فليس للزوجة نفقة فى زواج المتعة.. ويقول: إن النفقة ليست من لوازم الزوجية، فإن الناشز زوجة وليست لها نفقة، ولا حاجة للطلاق فى زواج المتعة، لأنه ينتهى بانتهاء المدة تلقائيا، أما الولد من زواج المتعة فينسب إلى أبيه.. ويقول كاشف الغطاء فى تفسير الحكمة من زواج المتعة: إنه يعصم من الحرام، ومن المعلوم أن حالة المسافرين لا تساعد على الزواج الدائم لما له من تبعات ولوازم لا تتمشى مع حالة المسافر، ومن تطول أسفارهم فى طلب علم أو تجارة أو مرابطة ثغر وهم فى ميعة الشباب يعانون العسر والحرج، مما تأباه شريعة الإسلام السمحة، وإما الوقوع فى الزنا، فلو عمل بزواج المتعة بأصوله من العقد، وحفظ النسل لانتهت من ديار المسلمين بيوت الدعارة.
ويقول أحمد أمين: إن الآية: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) فى سورة النساء ذهب قوم إلى أنها وردت فى حل زواج المتعة، ودليلهم على ذلك أنه عبر بلفظ الاستمتاع وليس بلفظ النكاح، والاستمتاع والمتعة معنى واحد، وأمر أيضا بإيتاء الأجر، وفى هذا إشارة إلى أن العقد عقد إيجار على منفعة، كما أنه أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع، وذلك يكون فى عقد الإجارة والمتعة، أما المهر فإنه يجب فى النكاح، ويطالب الزوج بالمهر أولا قبل أن يمكن من الاستمتاع.
وقد ردّ أهل السُنّة على ذلك وقالوا: إن الآية واردة فى الزواج المعروف الدائم، وليس فى زواج المتعة، لأن سياق الآية كلها فى الزواج، فقد ذكر أول الآيات أجناسا ممن يحرم زواجهن، وأباح ما وراء ذلك، فيكون معنى قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن.. .. ..) الاستمتاع بعقد الزواج المعروف، وأما تسمية الواجب أجرا فقد ورد فى القرآن تسمية المهر أجرا (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن) أى المهر، وقوله تعالى (يا أيها النبى إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن) وإما أنه أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع- والقول بأن ذلك ليس ذلك الشأن فى الزواج الدائم، فإن الآية تقديما وتأخيرا ويفهم منها آتوهن أجورهن إذا أردتم الاستمتاع بهن.. وقد استدل أهل السُنّة فى التحريم للمتعة بقوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) وزواج المتعة ليس زواجا، لأنه ينتهى بدون طلاق.
***
وقد وردت أحاديث فى المتعة، مثل قول محمد بن كعب عن ابن عباس: (إنما كانت المتعة فى أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت الآية (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام.. رواه الترمذى.. وعن علىّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، وفى رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء فى خيبر، وفى رواية أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إنى كنت أذنت لكم فى الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شىء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.. رواه أحمد ومسلم -وفى رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى فى حجة الوداع عن نكاح المتعة- رواه أحمد وأبو داوود.
يقول أحمد أمين -الظاهر من كل هذا أن نكاح المتعة أجازه الرسول فى بعض الأوقات وعند الحاجة، كالسبب الذى ذكره ابن مسعود أنهم كانوا فى غزوة من غير نساء واشتد بهم الأمر حتى استفتوا الرسول فى الخصاء، وقد روى عن الإباحة فى غزوات مختلفة آخرها يوم فتح مكة- ثم حرمت.. وقد أكد عمر بن الخطاب تحريمها فى خلافته وأخذ الناس بتحريمها أخذا شديدا، وروى عنه أنه قال: (لا أوتى برجل نكح امرأة إلا رجمته).
ثم انقطع الخلاف بإجماع الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار على تحريمها ما عدا فقهاء الشيعة الإمامية.
ويقول أحمد أمين: إذا حكمنا العقل فى هذا النوع من النكاح لم نجده يفترق كثيرا عن الزنا، وإن القول بأن المتعة من باب استئجار بضع المرأة شناعة يمجها الذوق السليم، وفيه تسهيل لعيشة الإباحة التى تتقيد بقيود، ولا تتحمل عبء الزواج، يضاف إلى ذلك ما يستتبعه نظام المتعة من فساد المرأة واستهتارها، وكثرة الضحايا منهن، فاستئجار المرأة أياما وتركها يعرضها لأشد أنواع الخطر، وهذا ما حدث فعلا، وإذا كان المثل الأعلى للأسرة زوجا واحدا، وزوجة واحدة وعروة وثقى باقية أبدا ينشأ فى أحضانها الأبناء فما أبعد زواج المتعة عن هذه الصورة الكريمة للزواج.
***
وقد سألت الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر عن زواج المتعة فأجاب بأنه محرم قطعا، وأن شرط الزواج الصحيح شرعا أن يكون قائما على نية الاستمرار والتأبيد ولا يكون فى نية أحد الزوجين أن يكون زواجا مؤقتا..
وكذلك كانت إجابة وزير الأوقاف الدكتور محمود حمدى زقزوق وأكد تحريم زواج المتعة.
***
نقطة خلاف أخرى فى الفقه.
الشيعة الإمامية يرون جواز الجمع بين صلاة الظهر والعصر معا جمع تقديم أو تأخير ويرون أنهما وقت واحد، وكذلك الجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير على أنهما وقت واحد أيضا، وذلك قياسا على يوم عرفة فى الحج حيث يجمع الحجاج بين الظهر والعصر جمع تقديم أى فى وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير أى فى وقت العشاء.
وفقهاء السنة يختلفون فى ذلك. مذهب الحنفية يمنع الجمع بين الصلاتين مطلقا فيما عدا يوم عرفة، ولا يبيحون الجمع حتى فى السفر. والشافعية والمالكية والحنابلة أجازوا الجمع فى السفر واختلفوا بعد ذلك فى جوازه للمرأة المرضع، والمريض.
وحجة الشيعة فى جواز الجمع بين الصلاتين استنادا إلى أحاديث عن أئمة أهل البيت. ومنها ما جاء فى البخارى فى باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب مواقيت الصلاة عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة الظهر والعصر معا والمغرب والعشاء معا، فقال أيوب: (لعله فى ليلة مطيرة، قال: عسى) أى ربما كان ذلك فى ليلة مطيرة (صحيح البخارى الجزء الأول- ص 144) وأخرج الترمذى فى باب الجمع بين الصلاتين فى الحضر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف، ولا مطر، قال فقيل لابن عباس: (ما أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته) صحيح الترمذى - الجزء الأول ص 355. وأخرج مسلم فى صحيحه باب الجمع بين الصلاتين عن أبى الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جمعا بالمدينة فى غير خوف، ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيدا: لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتنى فقال: أراد ألا يحرج أحدا من أمته). وهكذا يروون أحاديث عن الجمع بين المغرب والعشاء. وقد فسر ابن حنبل بأن الحالات التى جمع فيها الرسول بين الصلاتين كانت فى الأغلب حالات المرض أو غيره من الأعذار القهرية.
***
ويستند الشيعة الإمامية إلى الآية (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) وقول الرازى: (فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور فى الآية ثلاثة أوقات: وقت الزوال، ووقت أول المغرب، ووقت الفجر، وهذا نقيض أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر، فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين، وأن يكون أول المغرب وقتا للمغرب والعشاء، فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين، فهذا يقتضى جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء مطلقا، إلا أنه دل الدليل على أن الجمع فى الحضر لا يجوز من غير عذر، فوجب أن يكون الجمع جائزا بعذر السفر وعذر المطر وغيره) التفسير الكبير للرازى- الجزء 21ص 27.
مثال آخر للخلافات بين السنة والشيعة.
الشيعة الإمامية يقولون إن السجود فى الصلاة لا يصح إلا على الأرض مباشرة، ويرون أن ذلك يناسب الغاية من السجود، وهى الشعور بالذل أمام الله، ويستندون فى ذلك إلى أحاديث مثل: (جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل) وعن أنس بن مالك: كنا نصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شدة الحر فيأخذ أحدنا الحصباء (قطعة الحجر) فإذا برد وضعه وسجد عليه. وأخرج الشافعى فى كتابه (الأم) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا إذا سجد أن يمكن وجهه من الأرض حتى تطمئن مفاصله ثم يكبر فيرفع رأسه.. وقال الشافعى: الجبهة موضع السجود، ولو سجد على جبهته ودونها ثوب أو غيره لم يجزه السجود إلا أن يكون جريحا فيكون له عذر، وأحب أن يباشر راحتيه الأرض فى البرد والحر فإن لم يفعل وسترهما من حر أو برد وسجد عليهما فلا إعادة عليه ولا سجود سهو، الإمام الشافعى - الأم - الجزء الأول ص 99.
ومذاهب السنة تستند إلى أحاديث عائشة أم المؤمنين وعن ابن عباس وأنس بن مالك تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلى على خمرة (حصير أو سجادة من سعف النخيل) والشيعة الإمامية يفضلون من تراب الأرض تراب كربلاء حيث استشهد فيها الإمام الحسين ويقولون إنها تربة طيبة طاهرة، ولذلك يأخذون معهم قطعة من أرض كربلاء يضعون جبهتهم عليها فى السجود، وإن كانوا يقولون إن ذلك ليس من الفرض المحتم ولا من واجبات الشرع والدين وأنه من قبيل الاستحسان فقط. أما الأصل الواجب فهو السجود على أى شىء طاهر.
والشيعة الإمامية يتفقون مع السنة فى إباحة الخلع إذا كرهت الزوجة زوجها على أن تدفع له ما أخذته منه كما جاء فى الآية (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها).
***
والشيعة الإمامية يؤمنون بفكرة البداء - ومعناها أن الله يمكن أن يعلم ما لم يكن يعلم ويختلف أهل السنة فى ذلك ويستدلون على أن علم الله أزلى أبدى لا يضاف إليه ولا ينقص بآيات كثيرة منها: (لا يضل ربى ولا ينسى) طه آية 52 - و(هو الله الذى لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) الحشر آية 22 - و(قد أحاط بكل شىء علما) الطلاق 12 - أى أن علم الله تام كامل بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون وليس هناك جديد يمكن أن يضاف إليه.
والاختلافات الفقهية بين السنة والشيعة لها مثيل فى اختلافات بين مذاهب السنة، والرسول صلى الله عليه وسلم نبه إلى التسامح فى هذه الاختلافات بقوله: اختلاف أمتى رحمة – وهذا الحديث رواه ابن عباس (الموسوعة الفقهية - جزء أول ص 3 - طبعة وزارة الأوقاف بالكويت). وفى كتاب مجموع الفتاوى لابن تيمية أنه قيل لأحد المؤلفين وكان قد ألف كتابا أسماه (الاختلاف) فقيل له: لا تسمه كتاب الاختلاف ولكن سمه كتاب السعة، ويقول العلامة العسقلانى: (إن من خصائص أمة الإسلام الاختلاف ولذلك قيل إجماعهم حجة واختلافهم رحمة) وهذا ما قاله أيضا ابن تيمية. فالاختلاف مباح فى المسائل والقضايا الفرعية التى يجوز فيها الاجتهاد ويشمل كل حكم شرعى ليس فيه دليل قطعى فى الكتاب والأحاديث المتواترة المشهورة.
وليست هذه كل نقط الخلاف.
ولكن يجب ألا ننسى نقط الاتفاق، وهى كثيرة وتتعلق بأصول ومبادئ وجوهر الإسلام، لكى لا نسمح بأن يتحول الخلاف إلى عداء أو فرقة.
وكان الفقيه الكبير الشيخ فرج السنهورى يقول: إن الاختلافات بين السُنّة والشيعة الإمامية لا تخرجهم من عباءة الإسلام، وبالتالى يمكن التقريب بالحوار، خاصة وأن الخلافات بعضها خلافات تاريخية تتعلق بالماضى، وبعضها الآخر ناتج على الاعتماد عن تفسيرات أو مصادر مختلفة للحديث.. وهذا مما يمكن أن يكون موضوعا للحوار.
والأمورالخلافية -كما يقول الدكتور أحمد عمرهاشم- تنقسم إلى قسمين. أمور فرعية، وهذه من خصائص الإسلام، ونذكر أن الخليفة أراد أن يجعل كتاب الموطـأ للإمام مالك هو الرأى الوحيد الذى يرجع إليه المسلمون ويلزم الأمة كلها بهذا المذهب، فاعترض الإمام مالك نفسه، وقال: لا يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتشروا فى الأمصار وعند بعضهم ما ليس عند الآخر، فاترك الناس وما يناسب عصرهم وزمانهم ومكانهم ما داموا لا يصادمون كتاب الله أو أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن اختلاف العلماء رحمة بهذه الأمة. أما القسم الثانى من خلاف فى الأمور الأصلية فهذه يمكن التقريب بينها بالحوار.