أئمة السنة يدافعون عن الشيعة
 الشيخ محمد جواد مغنية من كبار علماء الشيعة فى لبنان وكان رئيسا للمحكمة الشرعية العليا، وهو صاحب فكر معتدل لا يبتعد كثيرا عن أهل السُّنة. وله رأى مشهور فى تفسير الاختلاف بين السُّنة والشيعة فى إطـار الاتفاق على الأركان والمبادئ الأساسية للدين الإسلامى، يجعلهما جناحين للإسلام قد يختلفان فى أمور ولكن فى الحدود المسموح بها للاختلاف بين أبناء الدين الواحد. فهو يقول إننا يجب أن نفرق فى البداية بين الدين والمذهب، فالدين هو الإسلام، أما المذهب فهو أى مذهب من المذاهب الإسلامية.
والفرق بين الإسلام وأى مذهب من مذاهبه يتمثل فى أمرين:
الأمر الأول: إن الإسلام أعم من المذهب، لأنه يشمل جميع المذاهب، والمذهب خاص لأنه واحد، ويترتب على ذلك أنه إذا قال أتباع مذهب: إن الإسلام يأمر بكذا ورأى أتباع مذهب آخر العكس فلا يحق لأحدهما أن ينكر على الثانى قوله، أو أن ينفى عنه الصفة الدينية الإسلامية. مع ملاحظة أن هناك خلافات بين المذاهب، وقد ينفرد مذهب بقول لا يوافقه عليه أحد من المذاهب الأخرى، مثل قول الشيعة بأن البنت تختص بالميراث إذا لم يكن للميت ولد ذكر، ومثل قول أبى حنيفة بأن الصلاة تصح بغير الفاتحة، وقول مالك بأن الحامل إذا بلغت ستة أشهر فليس لها أن تتصرف فيما يزيد على الثلث، وقول ابن حنبل بأن من تزوج امرأة وشرط ألا يتزوج عليها يلزمه هذا الشرط، وقول الشافعى بأن شرط الخيار لا يصلح فى الإجارة.. فكل واحد من هذه الأقوال تخالفه أربعة مذاهب مجتمعة، ومع ذلك لا يمكن أن يدعى أحد بأنه ليس من الإسلام، لأن المذاهب كلها تنتمــى إلـى كتـــاب اللــه، وسُنّـة نبيــه صلــى الله عليه وسلم، ونفـــى الإســـلام عـن مذهــب يستتبـع نفيــه عـن الجميــع، وثبوتـه لمذهـب يستتبع ثبوتـه للجميع.
كذلك لا يسوغ نسبة حكم فى مذهب إسلامى إلى الإسلام ذاته على الإطلاق، فلا يمكن القول بأنه ثبت فى الشريعة الإسلامية أو فى الفقه الإسلامى كذا أو كذا إذا لم تكن جميع المذاهب السُنّية والشيعية قد اتفقت عليه، بل لا ينبغى القول بأن السُنّة تقول كذا إذا خالف القول أحد مذاهبها، ولكن يقال: ثبت فى المذهب الإسلامى الحنفى كذا، أو ثبت فى المذهب الإسلامى الجعفرى كذا.
ويفرق محمد جواد مغنية بين الدين والمذهب من وجه آخر فيقول إن الإسلام هو الدستور الذى بينت مواده وأحكامه فى الكتاب و السُنّة ، وهى أحكام واقعية ثابتة لا تختلف باختلاف علم المسلمين أو جهلهم بها، أما المذهب فهو عبارة عن رأى صاحبه، وفكرته عن الإسلام أو بعض أحكامه، فإذا كانت فكرته انعكاسا حقيقيا عن حكم الله فهى صواب، وإذا لم تكن كذلك فهى خطأ يُعذَّر صاحبه إذا كان قد بذل ما فى وسعه فى البحث عن الدليل، فالفرق إذن بين الدين والمذهب هو الفرق بين الحقيقة وتصورها فى الذهن. وهذا يعنى أن مخالفة مذهب ما ليست دائما مخالفة للإسلام، بل هى مخالفة لفكرة ورأى صاحب هذا المذهب، ولذلك فإن الفقيه عندما يتبين له أن رأيه خطأ فإنه يعدل عنه. وما دام الفقيه إنسانا فهو يخطئ ويصيب، وأفكاره مثل أفكار أى إنسان متأثرة بحياته وظروفه، وهذا ما جعل الإمام أبا حنيفة- على سبيل المثال- يقول بجواز التكبير فى الصلاة بلغة غير اللغة العربية، لأنه فارسى الأصل، وآراء الفقهاء ليست هى أحكام الإسلام، وإنما هى اجتهاداتهم فى فهم أحكام الإسلام تقبل الجدال والاختلاف، ومهما كان الدليل قويا فإن ذلك لا يمنع الخلاف، ولكنه فقط يقلل من احتمال الخلاف، ولا يمكن القول بأنه لا يجوز الخلاف مع مذهب فقيه وإلا فإن قوله لا يكون اجتهادا ويكون ضرورة وإلزاما ويكون هو الدين.
معنى ذلك أن التعصب لمذهب من المذاهب هو تعصب للفرد، لصاحب هذا المذهب ولآرائه ورؤيته لأحكام الإسلام، وليس تعصبا للإسلام ذاته، ولا لمبدأ من مبادئه. وإذا كان لابد من التعصب فليكن التعصب للإسلام ذاته وليس لمذهب من مذاهبه، وليكن التعصب بمعنى الحرص على تعاليمه واحترام شعائره، وتلبية أمر الله بأن يكون المؤمنون أخوة وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا.
***
ويتحدث الشيخ محمد جواد مغنية عن «ضرورات الدين والمذهب عند الشيعة الإمامية» فيقول: إن المسلم هو من صدق مقتنعا بكل ما اعتبره الإسلام من الأصول والفروع. والأصول ثلاثة: التوحيد، والنبوة، والحياة الآخرة. ومن شك فى أصل منها أو ذهل عنه قاصرا أو مقصرا فليس مسلما، ومن آمن بها جميعا جازما فهو مسلم، سواء كان إيمانه عن نظر واجتهاد، أم عن تقليد ما دام متفقا مع الحق والواقع. ويكفى من التوحيد الإيمان بوحدة الله وقدرته وعلمه وحكمته، ولا تجب معرفة صفاته بالتفصيل. ويكفى من النبوة الإيمان بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من الله، صادق فيما أخبر عنه، معصوم فى تبليغ الأحكام، وأنه قد يخبر بصفته رسولا مبلغا عن الله، وقد يخبر عنه بصفته الشخصية، باعتباره إنسانا من البشر، فما كان من النوع الأول يجب التعبد به، وما كان من النوع الثانى فلا يجب. أما تصديق القول بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يسمع ويرى وهو نائم كما يسمع ويرى وهو مستيقظ، أو بأنه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، أو بأنه كان عالما بجميع اللغات، أو بأنه أول من تنشق عنه الأرض، فإن ذلك- وأمثاله- ليس من ضرورات الدين ولا المذهب.
وأما الإيمان بالآخرة فيكفى بأن كل مكلف يحاسب بعد الموت على ما اكتسبه فى حياته، وبأنه سيلاقى جزاء من عمل إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، أما كيف يحاسب العبد، وعلى أية صورة بالتحديد يكون ثواب المحسن وعقاب المسىء، فهذه- وأمثالها- أمور لا يجب التدين بشىء منها.
هذه هى الأصول: التوحيد- والنبوة- والمعاد، هى دعائم ضرورية لدين الإسلام، ومن ينكر واحدا منها لا يعد مسلما: شيعيا ولا سُنّيا. أما الفروع التى هى من ضرورات الدين فهى كل حكم اتفقت عليه جميع المذاهب الإسلامية مثل وجوب الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وحرمة زواج الأم والأخت، وغير ذلك مما لا يختلف عليه اثنان من المسلمين، ولا تختلف عليه طائفتان منهم، لأن إنكار حكم من هذه الأحكام إنكار للنبوة، وتكذيب لما ثبت فى الدين الإسلامى بالضرورة.
وهناك فرق بين الأصول والفروع الضرورية.. الأصول ملزمة.. ومن لا يؤمن بأحد الأصول خارج عن الإسلام سواء كان جاهلا أو غير جاهل، أما الذى لا يدين بفرع من الفروع الضرورية مثل الصلاة أو الزكاة، فإن كان لا يؤمن بها مع علمه بصدور الأمر بها من الرسول صلى الله عليه وسلم فهو غير مسلم، لأن فى ذلك إنكارا للنبوة ذاتها، وإن كان جاهلا بصدور الحكم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن يكون قد نشأ فى بيئة بعيدة عن الإسلام والمسلمين، فإن ذلك لا يخرجه من الإسلام، إذا كان ملتزما بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو على سبيل الإجمال.. معنى ذلك أن التدين بالأصول أمر لابد منه للمسلم، ولا عذر للجاهل فيها، أما إنكار الأحكام الفرعية الضرورية والجهل بها، لا يخرج المسلم عن الإسلام إلا إذا كان ينكرها وهو يعلم بأنها من الدين.
ويصل الشيخ محمد جواد مغنية- العالم الشيعى الكبير- من هذا التحليل إلى نتيجة فى منتهى الأهمية بالنسبة لبعض فرق الشيعة، فيقول إن الإمامة- بناء على ذلك- ليست أصلا من أصول دين الإسلام، وإنما هى أصل من أصول مذهب الشيعة، وبالتالى فإن من ينكرها يكون مسلما ولكنه لا يكون شيعيا.
هكذا يفرق بين ضرورات الدين، وضرورات المذهب، ويقول إن ضرورات المذهب عند الشيعة على نوعين: النوع الأول يعود إلى الأصول وهى الإمامة، فكل شيعى إمامى يجب عليه أن يعتقد بالأئمة الإثنى عشر، وإذا كان مؤمنا بالأصول الثلاثة (التوحيد- والنبوة- والمعاد) ولا يؤمن بالأئمة فإنه- عند الشيعة- يعتبر مسلما ولا يعتبر شيعيا. هو مسلم له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، ولكنه ليس شيعيا إماميا، لأن الإمامة أصل لمذهب الشيعة الإمامية، ودليلهم على ذلك الحديث الشريف: (مثل أهل بيتى كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق).
هذا هو النوع الأول من ضرورات مذهب الشيعة الإمامية، أما النوع الثانى من ضرورات هذا المذهب فإنه يرجع إلى الفروع، مثل نفى التعصيب (حق العم فى الميراث فى حالة وجود بنت وعدم وجود ولد ذكر) فالشيعة يرون أن الميراث يكون كاملا للبنت مع عدم وجود ابن ذكر، وليس لأحد من العصب حق فى الميراث فى هذه الحالة وتفسيرهم لذلك أن لفظ الولد ينطبق على كل مولود ذكر كان أو أنثى. ومثل وجوب حضور شهود لصحة الطلاق وحجتهم فى ذلك أن الطلاق مثل الزواج يلزمه الإشهار ووجود شاهدين قد يجعل الصلح ممكنا. ومثل فتح باب الاجتهاد، ومثل هذه الفروع تلزم الشيعى فإذا أنكر فرعا منها مع علمه بثبوتها فى مذهب الشيعة لا يكون شيعيا.
ويلفت عالم الشيعة الكبير- الشيخ محمد جواد مغنية- النظر إلى أن الشيعة لهم كتب الحديث التى يعتمدون عليها مثل كتاب (الكافى) و(الاستبصار) و(التهذيب) و(من لا يحضره الفقيه) فيها أحاديث صحيحة وأحاديث ضعيفة، وكذلك فإن كتب الفقه التى ألّفها علماء الشيعة فيها الخطأ والصواب، وليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأن كل ما فيه حق وصواب من أوله إلى آخره غير القرآن الكريم. أما الأحاديث الموجودة فى كتب الشيعة فهى ليست حجة على المذهب ولا هى حجة على أى شيعى بصفته المذهبية، وإنما يكون الحديث حجة على الشيعى الذى ثبت عنده الحديث بصفته الشخصية. وهذه نتيجة طبيعية لفتح باب الاجتهاد لكل من له الأهلية للاجتهاد، فإن الاجتهاد إنما يكون فى البحث عن صحة السند أو ضعفه كما يكون فى استخراج الأحكام من الآيات والأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وللشيخ محمد جواد مغنية إشارة فى غاية الأهمية، حين يقول: إن الاعتقاد بوجود الكذب والدس بين الأحاديث النبوية من الأمور التى تمثل ضرورة من ضرورات دين الإسلام دون تفرقة بين مذهب ومذهب، حيث اتفقت جميع المذاهب الإسلامية على وجود أحاديث ضعيفة وأحاديث مكذوبة ومدسوسة.
***
الشيعة لا يعتمدون إلا على الأحاديث التى رواها الإمام علىّ وسلسلة الأئمة من آل البيت، ويرفضون الأحاديث التى رواها أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من رواة أهل السُنّة . لكن أهل السُنّة لا يرفضون الأحاديث التى رواها الإمام على وآل البيت، بل إن هذه الأحاديث محل تقدير علماء الحديث والرواية من أهل السُنّة ويرون أن ما رواه أهل البيت عن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب الأخذ به، لما تمتعوا به من عدل وإتقان، والإمام على والحسن والحسين من الصحابة الذين لهم مكانة كبرى وهم فوق التعديل فى رواياتهم للحديث، ولا يمنع ذلك من الاختلاف معهم فيما اجتهدوا فيه، ففى الاجتهاد لا عصمة لأحد عند أهل السُنّة ، ولذلك نجد الأحاديث المروية عن أهل البيت والتى لها مكانة خاصة عند الشيعة الأمامية منتشرة فى كتب الأحاديث الستة المعتمدة عند أهل السُنّة والجماعة.
وفى دراسة للدكتور فاروق حماده رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة محمد الخامس بالرباط نجد أن أكبر كتب الحديث التى يعتمد عليها أهل السُنّة وهو مسند ابن مخلد الأندلسى (المتوفى سنة 276 هجرية) فيه 586 حديثا عن الإمام على و 142 حديثا عن رواية أبى بكر الصديق و 537 عن عمر بن الخطاب، وفى مسند الإمام أحمد بن حنبل (المتوفى سنة 241 هجرية) 819 حديثا عن الإمام على، و 81 حديثا عن أبى بكر الصديق و 417 عن عمر، وفى الكتب الستة المشهورة السُنّة : البخارى، ومسلم، وأبو داود، والنسائى، والترمذى، وابن ماجه نجد 322 حديثا عن رواية الإمام على، بينما نجد 60 حديثا فقط عن أبى بكر، وهكذا يتبين أن الإمام على له فى مصادر الحديث عند أهل السُنّة أكثر من الخلفاء الراشدين، وتفسير ذلك – كما يقول الدكتور فاروق حماده – أنه عاش بعد الخلفاء الراشدين، وكان الرواة عنه كثيرون، وكان له تلاميذ وتابعون كثيرون يطلبون العلم على يديه، ويكثرون السؤال، كما وقعت فى زمانه أحداث اقتضت البلاغ والرواية عن الرسول فنقل عنه تلاميذه وأبناؤه وأبناؤهم بأمانة ونزاهة.. ولذلك نجد فى كتب الحديث المعتمدة عند أهل السُنّة أحاديث رواها الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام على بن الحسين زين العابدين، والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق، والإمام موسى الكاظم، وهكذا.
والخلاصة أن أهل الحديث من السُنّة أخرجوا حديث أهل البيت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى كتبهم دون تحفظ، وذلك لإيمانهم بعدالة الأئمة وهم أئمة الشيعة والثقة فيهم محل إجماع عند علماء الحديث من السُنّة ولكنهم لم يوافقوا الشيعة على أن الأئمة لهم العصمة، ولذلك كانوا يعتمدون على روايات الرواة عن الأئمة من أهل البيت ممن اشتهروا بالعدل وضبط المعنى والعبارة بناء على المنهج العلمى الذى وضعه علماء الحديث، ونقلوا ما رواه الأئمة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى حبهم وفضائلهم وما يجب لهم من التوقير والإجلال، وليس فى كتب أهل السُنّة على الإطلاق ما يشير إلى كراهية أو عداء لأهل البيت، أو أفكار لفضائلهم الثابتة فى الأحاديث الصحيحة، بل نجد إجماع أهل السُنّة على القول بأن حب أهل البيت إيمان، وبغضهم نفاق، ورواياتهم الثابتة عنهم للحديث مقبولة بالإجماع، واجتهاداتهم كاجتهادات غيرهم، أخذ أهل السُّنة منها وتركوا كما أخذوا وتركوا من غيرهم بناء على اجتهاد من توافرت فيه شروط الاجتهاد.
***
وعالم الشيعة الكبير- الشيخ محمد جواد مغنية- ينبه إلى أن الشيعة الإمامية يرفضون غلاة الشيعة، بل أجمعوا على نجاسة هؤلاء الغلاة، وعدم جواز تغسيل أو دفن موتاهم فى مدافن المسلمين، وتحريم إعطائهم الزكاة، ولا يجوز زواجهم بالمسلمات كما لا يجوز للمسلمين الزواج من نسائهم مع أن الشيعة الإمامية تجيز زواج المسلم الشيعى بغير المسلمة ما دامت كتابية. وأجمع الشيعة الإمامية على أن المسلمين يتوارثون وإن اختلفوا بالمذاهب والأصول والعقائد، وقالوا: يرث المسلم المحق من المبطل، والمبطل يرث من المحق ومن المبطل، إلا الغلاة، فإن المسلم يرث منهم لكنهم لا يرثون من المسلم.
وماذا عن لعن الخلفاء الراشدين على منابر الشيعة وفى كتبهم؟ وماذا عن القول بأن الإمام على فيه جزء إلهى؟
يقول الشيخ محمد جواد مغنية إن الشيعة الإمامية يحترمون الصحابة، ويلتزمون بموقف إمامهم الرابع زين العابدين على بن الحسين فى (الصحيفة السجادة) من دعائه فى الصلاة الذى يقول فيه (اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحابة، والذين أبلوا البلاء الحسن فى نصره.. وسابقوا إلى دعوته،.. فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك، وأشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم.. إلخ)..
أما الغلاة فقد ذكر الشهرستانى عدة فرق منها، وهى الآن لا وجود لها، وكانت تقول: إن الأئمة آلهة أو أشباه آلهة أو أنصاف آلهة، وهؤلاء يعتبرهم الشيعة الإمامية خارج دائرة المسلمين، ولهم دينهم الخاص الذى لا يمت إلى الإسلام بصلة، ويستنكر الشيعة الأمامية موقف الكتَّاب الذين ينسبون الغلاة إلى فرق الشيعة، مع أن الشيعة الإمامية استدلوا بكتب العقائد والأصول على كفر الغلاة ووجوب البراءة منهم ومن كل ما فيه شائبة الغلو ومن أدلتهم قوله تعالى فى سورة المائدة (77): (قل يا أهل الكتاب لا تغلو فى دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) وكذلك الآية (15) من سورة الزخرف: (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين) ويستندون إلى قول الإمام علىّ كرم الله وجهه: (هلك فىّ اثنان: مبغض قالٍ، ومحب غالٍ) وقول الإمام جعفر الصادق: (من أحب الغلاة فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا. الغلاة كفار، والمغرضون مشركون. لعن الله الغلاة).
وكيف يمكن اعتبار هؤلاء الغلاة مسلمين أصلا، ومنهم- كما يقول الشيخ محمد جواد مغنية-السبئية-اتباع عبد الله بن سبأ-وهو أول من أظهر الغلو، الذين قالوا إن الإمام علىّ حل فيه جزء إلهى واتحد بجسده، وأنه يعلم الغيب، ويأتى بالغمام، والرعد هو صوته، والبرق هو تبسمه، وقالوا إن هذا الجزء الإلهى ينتقل بالتناسخ من الإمام علىّ إلى الأئمة بعده واحدا بعد الآخر.
ومن هؤلاء الغلاة (الخطابية) اتباع ابن الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدى الذين قالوا إن جعفر الصادق إله زمانه! وقد ذكر الشهرستانى أن الإمام جعفر الصادق بالغ فى التبرؤ من ابن الخطاب ولعنه.
ومن الغلاة من يدين بثالوث: الأب وهو علىّ، والابن وهو محمد، وروح القدس وهو سلمان الفارسى، والأغرب من ذلك قول بعضهم بأن يوم الأحد معناه علىّ، ويوم الاثنين معناه الحسن والحسين.
كيف يمكن اعتبار هؤلاء من الشيعة، وهم أصلا خارج دائرة الإسلام والمسلمين؟
***
والخلافات بين المذاهب مقبولة إذا كانت خلافات حول تفسير آية، أو فهم معنى منها، أو كانت خلافات حول صحة حديث يراه فريق صحيحا ويراه فريق آخر ضعيفا، وكذلك هناك خلافات مقبولة إذا كانت مما يجوز فيه الخلاف من القضايا الفلسفية وعلم الكلام، أما الخلاف المرفوض-كما يقول العالم الشيعى الراحل الشيخ محمد تقى القمى-فهو الخلاف الذى تمليه الكراهية وتغذيه الأوهام ويؤدى إلى البلبلة فى صفوف الأمة، ويؤدى إلى تفريق كلمة المسلمين. مثل الخلط بين الشيعة والغلاة، والخلط بين الشيعة المعاصرة والفرق البائدة، وهناك كتب كثيرة لإشعال الخصومة بين طوائف المسلمين.
وهذا ما دعا كبار شيوخ السُنّة إلى التحذير من مروجى الفتنة بين أهل المذاهب الإسلامية، وقد أصدر الشيخ عبد المجيد سليم-شيخ الأزهر الأسبق-بيانا حذر من ذلك، وقال فى بيانه للمسلمين إن الدين الإسلامى قائم على نوعين من الأحكام، أحدهما أحكام ثابتة يجب الإيمان بها ولا يجوز الاختلاف فيها، وهى لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تخضع لبحث الباحثين، واجتهاد المجتهدين، وليس فيها شىء من الغموض أو الإبهام، وهى ثابتة عن الله تعالى بطريق يقينى لا يحتمل الشك، وهى واضحة فى معانيها. والنوع الثانى من الأحكام أحكام اجتهادية مرتبطة بالمصالح، والمصالح تختلف باختلاف الظروف والأحوال، وهى راجعة إلى الفهم والاستنباط ولذلك تختلف هذه الأحكام باختلاف العقول، وبعض هذه الأحكام الاجتماعية واردة بطريق لا يرقى إلى درجة العلم واليقين، ولا يتجاوز مرتبة الظن والترجيح.. النوع الأول-القطعى فى الرواية والدلالة-هو الأساس الذى أوجب الله على المسلمين أن يبنوا عليه وحدتهم ولا يتنازعوا فيه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شىء) و(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) و(..واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ).
هذا النوع من الخلاف منهى عنه فى كتاب الله.
أما النوع الثانى من الأحكام فإن الاختلاف فيه أمر طبيعى، لأنه من العقل، والعقول تتفاوت، والمصالح تختلف، والروايات تتعارض، ولا يعقل أن يخلو مجتمع من الاختلاف فى مثل هذا النوع من الأحكام، وهو اختلاف لا يؤدى إلى تفرق المسلمين. وقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون والأئمة يختلفون، ويدفع بعضهم حجة بعض،ويجادلون فى آرائهم بالتى هى أحسن، ولم نسمع أن أحدا منهم رمى غيره بسوء، ولا كان الاختلاف بينهم سببا للعداء أو البغضاء وكانوا كما قال عنهم الله تعالى: (أشداء على الكفار رحماء بينهم).
وقال الشيخ عبد المجيد سليم فى بيانه: (لقد أدركنا فى الأزهر على أيام طلب العلم عهد الانقسام والتعصب للمذاهب، ولكن الله أراد أن نحيا حتى نشهد زوال هذا العهد، وتطهر الأزهر، فأصبحنا نرى الحنفى والشافعى والمالكى والحنبلى إخوانا متصافين وجهتهم الحق، وشرعتهم الدليل، بل أصبحنا نرى بين العلماء من يخالف مذهبه فى أحكامه عندما يقوم عنده الدليل على خلافه، وقد جريت طول مدة إقامتى بالإفتاء فى الحكومة والأزهر-وهى أكثر من عشرين عاما-على تلقى المذاهب الإسلامية بالقبول-ولو من غير المذاهب الأربعة المشهورة-مادام دليلها عندى واضحا، وراجحا، مع أننى حنفى المذهب، كما جريت وجرى غيرى من العلماء على مثل ذلك فيما اشتركنا فى وضعه أو الإفتاء فيه من قوانين الأحوال الشخصية فى مصر، مع أن المذهب الرسمى فى مصر هو المذهب الحنفى، وعلى هذه الطريقة سارت لجنة الفتوى بالأزهر التى تشرفت برئاستها وهى تضم طائفة من علماء المذاهب الأربعة.
وفى هذا الاتجاه طالب الشيخ عبد العزيز عيسى وزير الأوقاف الأسبق بإنشاء مركز أبحاث أو معهد لدراسة كتب وأفكار الطوائف المختلفة فى البلاد الإسلامية المعاصرة، من حيث الفكر الدينى، والعقيدة، والشريعة، وعلم الكلام، وعلاقة أهل كل بلد بالمذاهب السابقة، ويعيد دراسة المؤلفات والكتب والرسائل الموجودة فيها، ويبحث عن عوامل الاختلاف فيما بينها، ويقارن بين فكر الماضى وفكر الحاضر فى كل بلد، وعلى هذه الدراسات يمكن بناء علاقة صحيحة بين المذاهب والبلاد الإسلامية، لأن أوجه الاتفاق والاختلاف سيتم تحديدها، وسيظهر التزوير الذى حدث فى التاريخ والروايات، وتظهر المعلومـــات الصحيحة، وكــان اقــتراح الشيخ عبد العزيز عيسى أن يكون هذا المعهد، ويمكن أن ينشأ فى الأزهر، ويكون تمويله من الدول الإسلامية، ويدرس فيه أساتذة وباحثون من جميع البلاد والفرق الإسلامية.
خسارة أن هذه الفكرة لم تجد استجابة حتى الآن.
***
ولم يكن الأمر سهلا أن يفتح الأزهر أبوابه لدراسة فقه الشيعة بقرار من الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر وذلك ضمن دراسة الفقه المقارن وقد كتب الشيخ محمد المدنى إنه قيل لهم: كيف تدخلون فقه الشيعة فى الأزهر مع أن هذا مذهب الذين يعتقدون أن جبريل إنما بعث بالرسالة إلى علىّ فأخطأ ونزل بها على محمد، وأن عليا قد حل فيه جزء من الإله، وهؤلاء نقول لهم: إن كلمة (الشيعة) تطلق على عشرات المذاهب التى تنسب إلى الإسلام حقا أو باطلا، وبعض هذه المذاهب ضال منحرف عن الأصول الإسلامية، وبعضها مستمسك بما يجب الإيمان به مثل مذاهب السُنّة وأن خالفهم فى بعض الفروع الفقهية أو النظريات والمسائل الكلامية. الفريق الأول من الذين يسمون شيعة هم ضالون منحرفون لا يعدُّون من أهل الإسلام وإن ادعوه، لأن العبرة فى ثبوت الإسلام إنما هى بالإيمان بأصول العقائد الإسلامية، وعدم إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة وهؤلاء ليسوا كذلك، وقد انقرضوا ولم يعد لهم اثر فى العالم الإسلامى، ولو فرضنا أن لهم بقية فى كهف من الكهوف أو طرف من الأطراف فليسوا منا ولسنا منهم، وهم خارجون على ملة الإسلام، ملعونون من السُنّة والشيعة.
أما الشيعة الذين تقرر إدخال فقههم فى الأزهر فهم الشيعة الإمامية الأثنا عشرية، وهم يؤمنون بأصول الإسلام كلها، ولا يستطيع أحد من المسلمين أن يحكم بكفرهم، وكل ما بينهم وبين السُّنة من اختلاف إنما هو فيما وراء الأصول التى يجب الإيمان بها لتحقق مفهوم الإسلام، وقد اشتهر فقههم باسم الفقه الجعفرى نسبة إلى الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر، وهؤلاء الشيعة الإمامية يلعنون أهل المذاهب المنسوبة إلى الشيعة من الغلاة ويتبرأون منهم ويحكمون بكفرهم ونجاستهم. وكذلك الشيعة الزيدية فى اليمن وهو أقرب مذاهب الشيعة إلى مذاهب السُّنة.
ويشير الشيخ المدنى إلى ما يقال من أن الشيعة الإمامية يقولون: إن القرآن ناقص، وأن هناك آيات لم تذكر فى المصحف الذى بين أيدينا، فيقول: معاذ الله، إنما هى روايات رويت فى كتبهم كما روى مثلها فى كتبنا، وأهل التحقيق من الشيعة و السُنّة بينوا زيف وبطلان هذا القول، وليس فى الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك، كما أنه ليس فى السُّنة من يعتقده.
ويستشهد الشيخ المدنى بما حدث فى مصر سنة 1948 حين ألف أحد المصريين كتابا بعنوان (الفرقان) حشاه بكثير من أمثال هذه الروايات المرفوضة ناقلا لها عن الكتب المصادر عند أهل السُنّة ، فطلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بين بالدليل والبحث العلمى أوجه البطلان والفساد فيه، فاستجابت الحكومة وصادرت الكتاب، ورفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضا، فحكم القضاء الإدارى فى مجلس الدولة برفضها.
ويعلق الشيخ المدنى على ذلك بقوله: أيقال (استنادا إلى ذلك الكتاب المرفوض) إن أهل السُنّة ينكرون قداسة القرآن، أو يعتقدون نقص القرآن برواية رواها فلان، أو لكتاب ألفه فلان؟ كذلك الشيعة الإمامية، هى روايات فى بعض كتبهم كالروايات فى بعض كتبنا.
فهو يريد أن يحذر من الانحراف فى أقوال وأفكار وكتب جماعات وأفراد من السُنّة والشيعة معا، وأن الشيعة ليست الفرقة الوحيدة التى تنفرد بوجود متطرفين ينتسبون إليها ويسيئون إلى المذهب، ولهم أمثال ينتسبون إلى السُنّة ويسيئون إليها أيضا.
ويستشهد الشيخ المدنى بما قاله الإمام العلامة السعيد أبوالفضل ابن الحسن الطبرى وهو من كبار علماء الشيعة الإمامية فى القرن السادس الهجرى، فى كتابه (مجمع البيان لعلوم القرآن) عن الروايات الضعيفة التى تزعم أن نقصا ما فى القرآن-يقول:(روى جماعة من أصحابنا أن فى القرآن تغييرا ونقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذى نصره الإمام المرتضى قدس الله روحه، وذكر أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام، فإن العناية اشتدت، على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين بلغوا فى حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كل شىء اختلفوا فى إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية والضبط الشديد؟).
وكلام الشيعة الإمامية صريح واضح على أنهم كغيرهم من المسلمين فى الإيمان بأن القرآن كامل تماما كما كان أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان الصحابة يحفظونه ويحافظون عليه، وقد عين الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة تخصصوا فى حفظ القرآن منهم عبد الله ابن مسعود، وأبى بــن كعــب، وغيرهما ختمــوا القــرآن على النبى صلى الله عليه وسلم عدة مرات، ويقول الإمام المرتضى: (كل ذلك يدل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مضاف إليه، ومن خالف ذلك من الإمامية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف فى ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته)..
هل يمكن لأحد بعد ذلك فى أن يشكك فى قرآن الشيعة الإمامية؟ وإذا كان هناك البعض ممن انحرفوا بالقول بأن القرآن فيه آيات زائدة أو ناقصة، فهل نسمح لعقولنا بالنظر فى مثل هذه الأقوال ونحن نعلم أنها جزء من حملة التشكيك فى أركان ومبادئ وأصول العقيدة الإسلامية، وما أكثر الذين حاولوا ذلك، وما زالوا يحاولون، وستبقى محاولاتهم إلى آخر الزمان، ولن تقدر على التشكيك فى أمر ثابت باليقين، فلم تعرف البشرية كتابا تناوله أصحابه بمنتهى الحرص على كل كلمة وكل حرف فيه كما حدث ويحدث للقرآن، على أن كل حرف فيه مقدس، وفى ذلك تصديق لقول الله: (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون) صدق الله العظيم.
***
والكاتب الكبير أحمد بهاء الدين كان من المدافعين عن الشيعة الإمامية والزيدية، وفى مقال له فى مجلة المصور كتبه عندما كان رئيسا للتحرير فى العــدد رقـم 2100 (8 يناير 1965) شرح أفكار الشيعة وأوجه الخلاف والاتفاق بينهم وبين مذاهب السُّنة، ثم قال: (وقد عرفت معظم المذاهب الإسلامية الموجودة حاليا صورا من التطرف والانحراف على يد بعض المنادين بها، ولكن معظم هذه الصور المتطرفة والمنحرفة اندثرت وانقرضت باندثار أسبابها، وأخذت كلها تميل إلى الاعتدال والتسامح والعقل، أى أخذت تميل إلى جوهر الإسلام الحقيقى، ولكن خلافاتها القديمة التى طالما خضبتها بالدماء فى بعض العصور بقيت موجودة وإن كانت ساكنة جامدة، موجودة تظهر أحيانا كعنصر محرك وراء كثير من عوامل التفرقة بين أبناء الدين الواحد والشعب الواحد والقطر الواحد. وكالعادة فى كل زمان ومكان نجد أن كثيرا من المصالح «الدنيوية» طبقية أو إقطاعية أو عشائرية تتحصن وراء هذه الخلافات وتعمل على تعميقها، لكى تبقى هذه المصالح لأصحابها، حتى أصبح هناك فريقان: جمهور هو الأغلبية، وهو من أبناء هذه الطوائف الطيبين، وقلة يحترفون الاتجار بالطائفية ويحترفون استغلال المشاعر الطائفية تحقيقا لمصالحهم الخاصة).
ثم وصل أحمد بهاء الدين فى مقاله إلى القول (لا أعرف بالضبط إلى من أتوجه بالخطاب فى هذا المقال. هل أتوجه به إلى نائب رئيس الوزراء ووزير الأوقاف (المهندس أحمد الشرباصى) أو إلى الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر أو إلى الأستاذ أحمد حسن الباقورى مدير جامعة الأزهر، أو إليهم جميعا وإلى كل القادة الدينيين المستنيرين فى كل البلاد العربية من شتى المذاهب الإسلامية؟ لابد من مجهود شجاع يبذل للتقريب بين المذاهب الإسلامية، تمهيدا لتوحيدها على المدى الطويل، فالخلافات الأساسية بينها يمكن بالتأكيد حلها بالتفسير المستنير السليم للدين. أما الخلافات الفرعية فلم يعد مقبولا أن يختلف المسلمون حول أحكام مثل: هل يسير المشيعون فى الجنازة خلف جثمــان الميــت أو يسيرون أمامــــه؟ وهـــل الوضــوء بترتيـــب معـــين أو بغير ترتيــب؟.. وهــل.. وهــــل.. ومثـــل هـــذا الجهد يحتاج أولا أن تأتى أكثر من مبادرة من أكثر من جهة، ويحتاج ثانيا إلى أن يتم بحثه فى جو هادئ بعيد عن ضجة الدعاية واستغلال السياسة، ويحتاج ثالثا إلى زمن وصبر طويلين).
وقد بعث الشيخ محمد المدنى رسالة إلى أحمد بهاء الدين تعليقا على المقال قال له فيه: (لا شك أن الموضوع الذى طرقتموه موضوع خطير فى حياة الأمة الإسلامية عامة والشعوب العربية خاصة، فإنه لم يعد هناك مجال لبقاء التناحر القائم على العصبيات المذهبية المنتسبة إلى الدين فى ظاهرها والتى يبرأ الدين منها، وينهى الله ورسوله عنها، وهى فى الحقيقة ميراث ثقيل ورثته الأمة الإسلامية فى عهود اشتجرت فيها بعض الخلافات النظرية والمعارك الكلامية فى قضايا ليست من أصول الدين ولا مما هو ركن فى إيمان المؤمنين. وربما كان للعوامل التى ذكرتموها فى مقالكم أثر فى خلق هذه الخلافات أو فى تزكيتها، ثم تطاول العهد عليها فأصبحت فى أذهان العامة وبعض الخاصة أمورا جديرة بالاهتمام، ومجالات يختصم فيها أهل الإسلام، ولكن الكارثة الكبرى هى أن المستعمرين المغتصبين لمختلف البلاد الإسلامية اتخذوا من هذه الخلافات الموروثة أسبابا سهلة لما قاموا به من التفريق والتقطيع وضرب الأمة بعضها ببعض، وكان من سياستهم ودهائهم أن يورثوا العداوة بين أرباب المذاهب المختلفة فى كل شعب إسلامى وعربى، وأن يعملوا بكل حيلة على أن تبقى هذه النيران مضطرمة متوهجة حيثما كانت مذاهب إسلامية، حتى تظل لهم السيطرة والقيادة، ويضمنوا اتجاه جميع رجال المذاهب إليهم شاكين أو مستنصرين. وكان من آثار ذلك أن تخلفت الأمة الإسلامية عن الركب العالمى الحضارى وكانت قبل ذلك فى مقدمته، وتمكن أعداؤها والطامعون فى خيراتها، وجعلوا يوجهونها فى غفلة أهلها كما يشاءون، شعباً شعباً، وطائفة طائفة، مستعينين بهؤلاء على هؤلاء، ضاربين بعضهم ببعض، مما حق عليهم سُّنة الله فى المتفرقين المتنازعين، وهى المصير إلى الضعف والذُل والاستعمار والاستعباد.
***
هكذا دافع كبار أئمة ومفكرى السُّنة عن الشيعة المعتدلة، وتبرأ المعتدلون من الشيعة من الغلاة، وأجمع الشيعة و السُّنة على أنهم يؤمنون بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وبأن أركان الإسلام لا خلاف عليها، وأن البعث والحساب والجنة والنار حق.. فهل إذا اختلفوا فى شىء بعد ذلك نقول لهم لستم مسلمين.. أو نعتبرهم أعداءنا.. أو نبتعد عنهم.. ونخالف بذلك أمر الله (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) و(إنما المؤمنون إخوة)؟
ويبقى أن نسأل: ما العمل ليعود المسلمون- كما بدأوا- صفا واحدا؟
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف