عند الشيعة باب الاجتهاد مفتوح والإمام هو المختص بإصدار الأحكام
كما أن أهل السُّنة يرجعون فى شئون الفقه إلى الأئمة الأربعة: مالك، وابن حنبل، وأبو حنيفة، والشافعى، فإن أهل الشيعة يرجعون إلى أئمة كثيرين لهم قدرهم فى الفقه من أمثال: زيد بن على زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق وغيرهم.. وأئمة الشيعة كثيرون لأن باب الاجتهاد عندهم مفتوح ومتجدد مع تجدد القضايا والمشاكل الفقهية مع الزمن، والإمام القائم فى كل عصر هو المختص بإصدار الفتوى والأحكام الفقهية..
فالإمام زيد بن على زين العابدين عاش فى فترة ازدهار الدولة الأموية. ولد فى المدينة فى سنة 80 هجرية. وكانت الدولة الأموية قد فرضت على آل البيت أن يلزموا المدينة ولا يخرجوا منها إلا إلى مكة للحج. وبعد استشهاد الإمام الحسين بقى ابنه على زين العابدين وكان من أكبر فقهاء عصره، رفض دعوة أهل العراق حين دعوه إلى القدوم إليهم ليبايعوه خليفة، وأوصى ولديه محمد الباقر وزيدا بألا ينخدعا بهذه الدعوة فيكون مصيرهما كمصير الإمام على والإمام الحسين.. ومع ذلك رحل زيد إلى البصرة والكوفة، فوجد الحكام الأمويين يأمرون خطباء المساجد بأن يلعنوا على المنابر الإمام عليَّا والسيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد تيار السخط على الأمويين فى العراق قد أدى إلى نشأة جماعات سرية تعمل على الإطاحة بحكمهم، وبعضهم يواجه لعن علىّ على المنابر بتوجيه اللعنات إلى أبى بكر وعمر، وحاول الإمام زيد أن يعيد الصواب إلى جماعات من غلاة الشيعة بدأت تنتشر فى العراق فلم يستطع، فأعلن براءته منهم، واكتفى بإعطاء دروس فى الفقه حرص فيها على ذكر فضل أبى بكر وعمر وتأكيد مشروعية ولايتهما الخلافة وأعلن للشيعة: «كان علىّ أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، وأعلن- على خلاف جمهور الشيعة- أنه لا يشترط أن يكون الإمام من أولاد علىّ وفاطمة بل يشترط فيه الصلاح. وفى البصرة التقى الإمام زيد مع الإمام أبى حنيفة فقيه السُنّة وكان بينهما حوار ومودة، حتى أن أبا حنيفة قال إنه لم يجد فى البصرة أفضل من زيد بن على.
كانت القضية الأولى التى شغلت الفقهاء فى العراق فى ذلك الوقت هى: هل المسلم الذى يرتكب كبيرة من الكبائر؟ يعتبر كافرا، أو أنه مسلم وحسابه عند الله إن شاء غفر له وإن شاء عذّبه فى النار؟ وهل من حق البشر أن يعاقبوا مرتكب الكبيرة أو أن أمره إلى الله وليس إلى البشر؟ فرأى الإمام زيد أن مرتكب الكبيرة ليس كافرا، وليس مؤمنا، ولكنه فى منزلة بين الكفر والإيمان، ولا يخلده الله فى النار، بل يعذبه فى الآخرة بقدر ذنبه وصدق توبته.
وكانت القضية الثانية التى انشغل بها أهل العراق عن القضاء والقدر، أو الجبر والاختيار، هل الإنسان حر فى أفعاله أو أن أفعاله مقدورة ومكتوبة وليس له خيار؟ وكان رأى الإمام زيد أن الإنسان حر وله حق الاختيار فيما يفعل، وأمامه طريق الطاعة وطريق العصيان، ولا يمكن أن يكون الله قد قدّر المعصية على إنسان، وإذا لم يكن الإنسان حرا فلن يكون هناك معنى للتكليف والثواب والعقاب والحساب، فالإنسان مسئول عن أفعاله، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سأل رجلا سرق «لماذا سرقت؟» فقال: «قضى الله على بذلك» فأمر عمر بقطع يده وجلده، قائلاً: (القطع للسرقة، والجلد للكذب على الله) وحرية الإنسان لا تتعارض مع القدر، لأن القدر- عند الإمام زيد- هو تقدير الله فى علمه الأزلى، وكان يستشهد برأى الإمام علىّ لمن قالوا بأن أعمال الإنسان قضاء من الله لا مفر منه: (لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهى، ولم تأت لائمة من الله لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسىء، ولا المسىء أولى بالذم من المحسن).
***
كان الإمام زيد بن على زين العابدين يدعو إلى الاعتماد على العقل، لكن الدعوة إلى إعلاء شأن العقل وحرية التفكير لم تكن مقبولة من الحكام الأمويين الذين عملوا على خنق الفكر والرأى، ليفرضوا على الأمة آراءهم وأفعالهم زاعمين أنهم خلفاء الله على الأرض، معتمدين على فقهاء يبررون لهم كل أعمالهم، وكان الإمام زيد يعارض ظلم الحكام، ويعلن آراءه بشجاعة، وتجمع الناس حوله يشجعونه على قبول الخلافة، وكان ذلك دافعا لكى يحاربه هشام بن عبد الملك، خاصة أن الإمام زيد يعلن أن هناك ثلاثة شروط لصحة الخلافة إذا لم تتوافر يسقط حق الحاكم فى الخلافة، وهى أولا: الشورى بمعنى ألا ينفرد الحاكم بالرأى أو يستبد بالحكم، وثانيا: المبايعة، أى أن يختاره الناس بإرادة حرة دون إكراه أو خوف أو إغراء، وثالثا: العدل بالمساواة بين الناس فى الحقوق والواجبات.
وشعر هشام بن عبد الملك إن هذا الرأى يهز شرعيته لأن حكم الأمويين قائم على الضغط والإغراء، وشرط العدالة والمساواة بين الناس ليس قائما فى حكمهم، ولذلك تحرش به هشام بن عبد الملك.. وفى الكوفة كان يبايعه الناس حتى بلغ من بايعوه أربعين ألفا. لكن هؤلاء خذلوه كما خذلوا الإمام علىّ والإمام الحسين، وتخلوا عنه حين تصدى له والى العراق- يوسف الثقفى- وتقدم الإمام زيد مع من بقى معه وكانوا نحو مائتين يقاتلون جيشا كبيرا للأمويين، وقتلوا الإمام زيداً بالسهام، ولم يهدأ الأمويون حتى نبشوا قبره ومثّلوا بجثمانه.
وبعده جاء ابن أخيه، الإمام جعفر الصادق.
***
والإمام جعفر الصادق هو النموذج الحى على تكامل السُنّة والشيعة، فإن جده لأمه هو أبو بكر الصديق، وجده لأبيه هو الإمام علىّ بن أبى طالب، وهو نسب لم يجتمع لغيره كما يقول عبد الرحمن الشرقاوى.
ولد الإمام جعفر الصادق فى المدينة سنة 80 هجرية ومات فيها سنة 148 هجرية. وكان مثله الأعلى أباه الإمام محمد الباقر، وكان مثله نموذجا للتواضع والعلم يردد قوله: (ما دخل فى قلب امرئ شىء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله).
***
فى مواجهة ظلم بنى أمية واستبدادهم اكتفى الإمام جعفر الصادق بأن يعلم الناس وكان قد تعلم من جده الإمام على زين العابدين بن الحسين عن جده الرسول صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم فريضة وأن نشر العلم جهاد فى سبيل الله، وكان يردد قول أبيه الإمام محمد الباقر: (من جهل فضل أبى بكر وعمر فقد جهل السُنّة، وإن قوما من العراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضى الله عنهما، والذى نفسى بيده لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، ولنالتنى شفاعة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما، إن أعداء الله عنهما لغافلون) كما ورث عن أبيه توقير عثمان بن عفان وكل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مات الإمام محمد الباقر وابنه جعفر فى الخامسة والثلاثين من عمره، فورث الإمامة عن أبيه، وتعمق فى دراسة القرآن والحديث وامتاز بالاهتمام بعلوم الطبيعة والكيمياء والنبات والطب ورأى أن المسلم أولى بدراسة هذه العلوم لأنها تحقق مصالح الناس، وكان من تلاميذه العالِم المشهور جابر بن حيان وخصص له معملا لإجراء تجاربه فى الكيمياء والطب..
اشتهر الإمام جعفر الصادق بحرصه على الحوار مع الزنادقة والملحدين والمنكرين والوثنيين وبقدرته على إقناعهم بالإسلام، وقد حاول الشيعة تحريضه على الثورة على الحكام وطالبوه بأخذ البيعة لكنه رفض، إلى أن سقط حكم بنى أمية فطالبه الجميع بقبول البيعة فظل على موقفه الرافض قائلا (من طلب الرياسة هلك) وجاء حكم العباسيين، فكانوا أشد ظلما من الأمويين، وقد سأله أحد الناس: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد قال الله تعالى: «ادعونى أستجب لكم» فما لنا ندعوه فلا يجيب؟ فقال له الإمام: لأنك تدعو من لا تعرف.
كان العباسيون يشجعون الدعوة إلى الزهد لكى ينفردوا هم وأتباعهم بالثروة، ورأى الإمام جعفر الصادق أن هذه الدعوة تزيد الأغنياء غنى وتزيد الفقراء فقرا، فكان يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى زمان مقفر مجدب، فأما إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها أبرارها لا فجارها، ومؤمنوها لا منافقوها) وكان يعرّف الزهد بأنه (الاكتفاء بالحلال لا التجرد من الحلال) ورأى الخليفة المنصور إن هذه الدعوة تحريض لعامة المسلمين بأن يطالبوا بحقوقهم فى المال، وأفتى بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر أكثر من قوت عام إذا كان فى الأمة صاحب حاجة إلى طعام أو مسكن أو كساء أو دواء.. وأفتى بأن السارق إذا سرق لأنه لا يجد قوت يومه فإن ولى الأمر هو المسئول والآثم، وقال عنه أبو حنيفة: (إن جعفر أعلم الناس) وقد صحبه أبو حنيفة سنتين يتلقى عنه العلم، وفى ذلك معنى مهم لم يلتفت كثير من أهل السُنّة والشيعة، وهو طبيعة العلاقة بين أئمة المذهبين، وفيها الاحترام والاعتراف بالفضل حتى أن اثنين من أكبر أئمة أهل السُنّة- وهما الإمام مالك والإمام أبو حنيفة لم يجدا غضاضة فى أن يكونا تلميذين له ويجلسا فى مجلس علمه.. ولقد كان الإمام جعفر الصادق أشد المعارضين للمتطرفين والغلاة من الشيعة، وأكثر الرافضين لتجاوزهم فى سب أبى بكر وعمر وعثمان وشططهم فى تمجيد أهل البيت ورفعهم إلى درجة فوق البشر، وتحللهم من التكاليف الدينية، كان الإمام جعفر الصادق يعارض كل ذلك ويعلن براءته من غلاة الشيعة.
***
يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة فى كتابه (الإمام الصادق): كان منهج الإمام الصادق قائما على ثلاثة أمور:
أولها: أن القرآن الكريم أصل الأحكام الشرعية، وأن كل ما فى الأحاديث يرجع إليه، وأن ذلك رأى نقله الشافعى ولم يعارضه.
ثانيها: أن علم القرآن يحتاج إلى دارس عميق النظرة يدرك كل ما فيه.
ثالثها: أن القرآن مقدم على السُنّة، فهو الذى يحكم عليها، وإن كانت هى مفسرة وموضحة.
يقول الشيخ أبو زهرة إن الصادق كان له منهاج يؤكد أنه فقيه مجتهد، وأنه قد تكلم فى الناسخ والمنسوخ، فذكر أن فى السُنّة ناسخا ومنسوخا، وأن فى القرآن أيضا ناسخا ومنسوخا، وأن فى القرآن متشابهات ضل فيها من ضل، وهلك فيها من هلك من هذه الأمة- وكان بذلك يحذر المجتهد فى الدين ألا يجتهد فيه إلا إذا كان على علم بالناسخ والمنسوخ من القرآن، حتى لا يعمل بمنسوخ ويترك الناسخ، وكذلك الأمر فى السُنّة والحديث حتى لا يفتى بحديث قد لحقه ما ينسخه. ومنهج الفقه الجعفرى يعتمد على العقل إذا لم يكن هناك نص فى القرآن و السُنّة، ويختلف مع منهج فقه السُنّة فى رفض القياس. وقال: إن أول من قاس إبليس حين أمره الله بالسجود لآدم فأبى وقال: خلقتنى من نار وخلقته من طين، فقاس بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم نورية النار لعرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما. ثم سأل: أيهما أكبر، القتل أم الزنا؟ قيل له: القتل أكبر، قال: فلماذا جعل الله فى القتل شاهدين وفى الزنا أربعة؟ هل يصلح القياس هنا، ثم سأل: أيهما أكبر الصلاة أم الصوم قيل له: الصلاة، قال: فلماذا وجب على الحائض أن تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة؟ أيقاس ذلك؟ ثم سأل: أيهما أضعف المرأة أم الرجل؟ قيل له: المرأة، قال: فلماذا جعل الله فى الميراث للرجل سهمين وللمرأة سهما واحدا؟ أيقاس ذلك؟ والمقصود أنه لا يجوز قياس حكم فى مسألة على مسألة أخرى، وأنه يقف عند القرآن و السُنّة ولا يتكلم إذا لم يجد فيهما النص الواضح، ولا يقول هذا حلال وهذا حرام من غير نص صريح، وكان يقضى بما فيه المصلحة كما كان يفعل عمر فى إدارته شئون الدولة الإسلامية، وكما كان الإمام على يفتى ويأخذ بالمصلحة فى كثير من الأعمال، وهذا ما يتفق مع منهج الإمام جعفر الصادق الذى يأخذ بحكم العقل، والعقل يتلاقى مع المصلحة تلاقيا تاما.
***
يقول الشيخ أبو زهرة: كان هدف الذين يريدون إفساد الإسلام والمسلمين أن ينالوا من القرآن الكريم، فلما عجزوا ادعوا أنه كان فيه زيادات حذفت، وأنه زيد عليه ما ليس منه، وما أسهل الادعاء الكاذب، لأن الاستدلال فى هذا المقام متعذر مستحيل، والادعاء سهل يسير، وخصوصا من الكاذبين الذين لا يتورعون عن الكذب فى أقدس وأعظم مقام، ولقد حاولوا أن يروجوا هذا الادعاء بأقوال ابتدعوها، وبعض هذه الأقوال مدسوسة فى كتب الشيعة الاثنى عشرية ينسبها الذين دسوها إلى الإمام الصادق، وقد كذبهم جميع المؤمنين من الشيعة الإمامية. وقد ناقش الشيخ أبو زهرة بالتفصيل ما نسب إلى الإمام الصادق عن أن هناك آيات فى القرآن لا يعرفها إلا الأئمة الشيعة، وانتهى إلى إثبات أن هذه الأقوال المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق مدسوسة، وأن أئمة آل البيت نسبت إليهم روايات غير صادقة ولذلك يجب عند دراسة الروايات المنسوبة إليهم- وخصوصا الصادق والباقر- ألا يقبل كل قول على أنه قولهم، ومن علماء الشيعة الإمامية من أثبتوا كذب هذه الادعاءات التى دست فى علم الشيعة، وكان أكثر الرواة ترويجا للادعاء بالزيادة والنقص فى القرآن هو الكلينى صاحب كتاب (الكافى) الذى يعد أقدم الكتب الأربعة التى يستند إليها هؤلاء، وقد أجمع كبار علماء الشيعة الاثنا عشرية على كذب هذا الادعاء، ويكفرون من يصدقه، وأجمعوا على أن مثل هذه الأخبار الشاذة قد اندست عن طريق غلاة الشيعة وقد ضرب بها مشايخ فقهاء الإمامية عرض الحائط، بل كفروا من ادعاها.
ويرى فقهاء الشيعة الإمامية أن ما جاء فى القرآن من بيان مفصل مثل أحكام المواريث والزواج والطلاق وحد القذف والزنا فهو واضح وكامل، وما جاء من قول مجمل مثل الصلاة، والزكاة، ومثل تحديد فترة العدة بعد الطلاق، فإن بيانه عمليا ترك للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الشيعة الإمامية يرون أن الأئمة أيضا لهم بيان ما هو مجمل فى القرآن بما أودعوا من علم، وأن لفظ السُنّة يشمل أقوال الأئمة.
***
وإمامنا الشيخ أبو زهرة يدعونا عند الحديث عن السُنّة والشيعة إلى أن نقرب ولا نفرق، ويقول عن الإمام جعفر الصادق إنه إمام من آل البيت، أجله أهل عصره من علماء وحكام وشعوب، واهتدى بهديه كثيرون، وضل فيه كثيرون، وأجمع الجميع على أن له التجلة والاحترام.. وهو فى دراسته لأقوال الشيعة الاثنى عشرية يريد التقريب لكنه لا يستسلم لكل أقوالهم، ولكنه يدرس فيوافق أحيانا، ويخالف برفق أحيانا بغير عبارات جافة، أو أقوال متهجمة، وأهم ما خالفهم فى أصول مذهبهم هو سلسلة الإمامة فى اثنى عشر، دون أن يحكم عليهم بسوء، أو يعبّر عنهم بعبارات سوء، وقال الشيخ أبو زهرة: (لنا رأينا ولكم رأيكم، وأكثر هذا الرأى ليس فيه عمل، وهو ذكر سلف، ثم كان مما خالفنا فيه ما قالوا إن علم الإمام جعفر الصادق علم الهامى، فقد قررنا أنه علم مكتسب، ورفعناه مكانا عليا بين العلماء باجتهاده وطلبه العلم ووصوله إلى درجة الإمامة بخطوات العلماء الطالبين، وما اختلفنا معهم فى تقديره ولكن اختلفنا فى سبيل ذلك التقدير، وخالفناهم فيما رواه الكلينى فى كتابه (الكافى) عن كتاب اسمه (الجفر) من أنه فيه علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. وبعض كتّاب العصر يقرر أن (الجفر) ليس إلا مجموعة علمية دونها الإمام على كرّم الله وجهه، وقد جاء فى (الجفر) ما نصه: (من مؤلفات أمير المؤمنين عليه السلام الجفر فى مجمع البحرين فى الحديث أملى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمير المؤمنين عليه السلام الجفر والجامعة وفرا فى الحديث.. فيهما جميع العلوم..
وشيخنا الشيخ أبو زهرة ينكر (الجفر) وينقل عن كتاب (أعيان الشيعة): (الظاهر من الأخبار أن الجفر كتاب فيه العلوم النبوية من حلال وحرام وأحكام وما يحتاج إليه الناس من أحكام دينهم، وما يصلحهم فى دنياهم، والأخبار عن بعض الحوادث، ويمكن أن يكون فيه تفسير بعض المتشابه من القرآن، أما أن يكون الجفر علما من العلوم يستنبط منه علم الحوادث المغيبة كما يفهم من بعض الكتب، وكما ارتكز فى أذهان بعض الناس، فلم نطلع على ما يؤيده). ويقول الشيخ أبو زهرة: مرحبا بهذا النظر.
ويقول شيخنا أبو زهرة: إن الإمام جعفر الصادق له فضل السبق، وله على الأكابر من الأئمة فضل خاص، فقد كان أبو حنيفة يروى عنه، ويراه أعلم الناس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارسا راويا، ومن كان له فضل الأستاذية على أبى حنيفة ومالك فحسبه ذلك فضلا.. وهو فوق هذا حفيد على زين العابدين الذى كان سيد أهل المدينة فى عصره فضلا وشرفا وعلما، وهو ابن محمد الباقر الذى بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممن جمع الله تعالى له الشرف الذاتى، والشرف الإضافى بكريم النسب، والقرابة الهاشمية، والعترة المحمدية.. ولكن طائفة من الناس غالوا فى تقديره، ومنهم من انحرفوا فادعوا له الألوهية، وكثيرون ادعوا أنه فى مرتبة قريبة من مرتبة النبوة، والعلماء الذين عاصروه والذين جاءوا من بعدهم وصفوه بأنه من الذروة من العلماء، واعترفوا له بالإمامة فى فقه الدين.
ثم يقول شيخنا أبو زهرة عبارة تستحق أن تكون المبدأ للمسلمين، عن الإمام جعفر الصادق قال: (إياكم والخصومة فى الدين، فإنها تحدث الشك، وتورث النفاق).
ويضيف الشيخ أبو زهرة: يجب أن نفرق بين الخصومة فى الدين، واختلاف الفقهاء فيما ليس فيه نص قطعى الدلالة والثبوت، فإن هذا الاختلاف ليس خصومة فى الدين، وإنما هو طلب للحق.
وهذا الموقف المعتدل هو الذى يجب أن يكون موقف السُنّة والشيعة فيما يختلفون فيه.
***
ولا بد أن يذكر للإمام جعفر الصادق أنه من أوائل الذين وضعوا العقل فى مكانة عالية، واعتبر العقل وسيلة المسلم للوصول إلى الإيمان، والتفرقة بين الصواب والخطأ، وبين الخير والشر. وكانت له مواقف عظيمة فى الدفاع عن حرية الإنسان، وعن حرية الإرادة، ويقول إن هذه الحرية هى أساس مسئولية الإنسان أمام الله. ثم إنه كان إمام الزاهدين، كتب إليه الخليفة المنصور يوما يسأله: (لِمَ لا تغشانا كما يغشانا الناس؟) فكتب إليه الإمام جعفر: (ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمور الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت فى نعمة فنهنئك، ولا نراها نقمة فنعزيك) فكتب إليه الخليفة المنصور: (تصحبنا لتنصحنا) فأجابه الإمام جعفر الصادق: ( من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك).
وكان الإمام الشافعى يعتمد على رواية الإمام جعفر للحديث، وهو صاحب مدرسة فى الفقه.
***
والخلافات الفقهية بين السُنّة والشيعة فى الفروع مما يحتمل الاجتهاد ولا تخرج فى معظم الأحوال عما نجده بين مذاهب السُنّة من خلافات، ويذكر المستشار عبد الحليم الجندى فى كتابه القيم (جعفر الصادق) على سبيل المثال:
فى الصلاة- لا خلاف بين السُنّة والشيعة فى كل ما يتعلق بها. أوقات الصلاة، وعدد الركعات واحدة، والخلاف فيما زاد على الفريضة، فبعض مذاهب الشيعة تفضل ركعتين قبل صلاة الصبح وثمانى ركعات قبل صلاة الظهر، وثمانى قبل العصر، وأربع ركعات بعد المغرب، وأربع ركعات بعد العشاء، وثمانى ركعات صلاة الليل، وركعتى الشفع، وركعة واحدة الوتر.
وفى الزكاة لا يختلفون عن السُنّة فى مقدار وشروط الزكاة ويضيفون إليها خُمس الدخل أو الإيراد للإمام لكى ينفقه فى وجوه الخير.
وفى الصوم- يرون أن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم مما يفسد الصيام.
وفى الحج، يرون أنه فريضة لا تسقط عن المسلم حتى بعد موته، وعلى الوارث أن يؤدى عنه فريضة الحج قبل تقسيم التركة.
والشيعة يجيزون الجمع بين صلاتى الظهر والعصر وبين صلاتى المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير، ولا يشترطون لذلك وجود عذر، وحجة الشيعة تفسير الإمام جعفر الصادق لقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) والغسق هو اشتداد الظلمة فى الليل، وبهذا تكون أوقات الصلاة الأربعة ممتدة من الزوال إلى نصف الليل، فالظهر والعصر ينتهيان فى الغروب، والمغرب والعشاء إلى منتصف الليل، أما الصبح فقد اختصه الله بقولــه: (.. .. وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا).
والأذان عند السُنّة فى الصبح يقول فيه المؤذن: (الصلاة خير من النوم) والشيعة يقولون (حى على خير العمل) ويقولون إن ذلك كان فى الأذان حتى عهد عمر- كما قال الإمام الباقر- وسبب رفعها من الأذان أن المؤذن وجد عمر نائما وقت أذان الصبح فأضاف (الصلاة خير من النوم) فاستحسن عمر ذلك وأمر بأن تضاف إلى أذان الصبح، وعلماء الشيعة متفقون على أن قول (أشهد أن عليّاً ولى الله) بعد (أشهد ألا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله) ليس من الأذان، ومن يقوله بنية أنه من الأذان فإن تلك بدعة فى الدين.
ويختلف الفقهاء فى مسح القدمين فى الوضوء- هل المفروض مسح القدمين أو غسل القدمين، ويرى الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على قدميه- ويستدلون بذلك على أن غسل القدمين ليس شرطا من شروط صحة الوضوء، ويستدلون بقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم).
وفى الزواج يكره الشيعة المبالغة فى المهور، ويرون أن الاقتداء بالرسول أفضل فقد دفع مهرا لزوجاته خمسمائة درهم.
وهم يرون من حق الرجل أن ينظر إلى من يريد الزواج منها، وهى قائمة وهى ماشية، وللمرأة أن تنظر إلى الرجل، وللمرأة أن تزوج نفسها سواء كانت بكرا أو ثيبا، إذا بلغت الرشد، ويستحسن أن تستأذن وليها، والسُنّة يرون وجود الولى شرط للبكر.
والشيعة يقرون بأن الطلاق الثلاث فى مجلس واحد يقع مرة واحدة، وقد أخذ علماء السُنّة عنهم ذلك بعد أن كانوا يقولون بأن الطلاق الثلاث فى مجلس واحد يقع ثلاث طلقات، والشيعة يرون أن الحلف بالطلاق على عمل لا يقع وأخذ السُنّة بذلك أيضا.
والشيعة يشترطون حضور شاهدين للطلاق، بينما لا يشترطون وجود شاهدين للزواج، فالزواج يمكن أن يتم بدون شهود، وهم يرون أن الطلاق فى حالة الغضب لا يقع، كذلك لا يقع طلاق المرأة وهى فى فترة الحيض، وليس للمريض أن يطلق، وله أن يتزوج، فإذا تزوج المريض ومات قبل أن يدخل بزوجته فإن الزواج يكون باطلا ولا يكون للزوجة مهر ولا ميراث.
والخلاف الأكبر بين السُنّة والشيعة حول زواج المتعة.
وللشيعة تفسير فى المواريث فى صالح المرأة، فهم يرون أن البنت ولد فى اللغة والعرف ولذلك يعطون البنت فى الميراث ولا يعطون الأخت أو الأخ إن كانت هناك بنت، ويفسرون على ذلك قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين). وهم يسقطون الوصية ما دام هناك ولد: ابن أو بنت.
والشيعة ينفردون فى الميراث بما يسمونه (الحبوة) للولد الأكبر ملابس أبيه وخاتمه ومصحفه زيادة على نصيبه فى الميراث، كما ينفردون بعدم توريث الزوجة مما تركه الزوج من عقار وأرض.
وفى الحج يتفق الشيعة مع السُنّة فى ميقات الحج، وأركانه.
***
وينفرد الشيعة بالقول بأن كل آية فى القرآن لها ظاهر وباطن، ويروون عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (إن فى كتاب الله أمورا أربعة: العبادات، والإشارات، والحقائق، واللطائف. فالعبادات للعوام. والإشارات للخواص. واللطائف للأولياء. والحقائق لأنبياء الله). وهم يفسرون الآية (إنا أعطيناك الكوثر) بأن الكوثر هو كثرة الذرية، لأن بعدها (إن شانئك هو الأبتر) والأبتر هو من لا ذرية له، ويفسرون الكوثر بأنهم ذرية السيدة فاطمة وهم كثيرون، وبعضهم يقول إن الكوثر نهر فى الجنة، وآخرون يقولون إن تأويل الكوثر هو النبوة.
ومن آراء الإمام جعفر الصادق أن صلة الرحم هى أعلى مقام فى الفضائل، ولذلك لا تستحق الزكاة للناس إذا كان أحد من الأقارب محتاجا، ويقول: (لا صدقة وذو رحم محتاج) ويقول: (لا تقطع رحمك وإن قطعك) ويقول: (إن صلة الرحم تخفف الحساب) ويستند فى ذلك إلى قوله تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) وكان الإمام جعفر الصادق يصلى عن ولده ركعتين فى كل ليلة، وركعتين عن والده كل يوم، ويقول عن الصلاة عن الميت: (إنه ليكون فى ضيق فيوسع عليه ذلك الضيق، ثم يؤتى فيقال له: خفف الله عنك ذلك الضيق لصلاة فلان عنك).
***
بعد الإمام جعفر الصادق ولى الإمامة ابنه موسى الكاظم وكان ذلك فى عهد الخليفة الهادى ثم عهد الرشيد، وكان الإمام موسى الكاظم بعيدا عن أمور السياسة والحكم ومع ذلك حبسه الرشيد ومات فى السجن، وقال البعض إنه مات مسموما. وخلفه فى الإمامة ابنه على الرضا، فلما صار المأمون خليفة جعله وليا للعهد رغم اعتراضه على ذلك، وزوّجه ابنته (أم حبيب) كما زوّج ابنه (محمد الجواد) ابنته (أم الفضل). ومات الإمام على الرضا فجأة مسموما كما يقولون، وخرج ابنه محمد الجواد من بغداد مع زوجته إلى المدينة، فلما ولى الخليفة المعتصم استدعاه إلى بغداد وبعد شهور مات وقيل إنه مات مسموما أيضا، وصار إمام الشيعة ابنه على الهادى واستدعاه الخليفة إلى قصره وقيل إنه مات مسموما كذلك.. وصار إمام الشيعة ابنه الحسن الخالص.. وبعده صار الإمام ابنه محمد وهو آخر الأئمة الإثنى عشر، وهو الذى قالوا عنه إنه دخل سردابا ولم يرجع، وهم ينتظرون رجوعه، فهو الإمام الغائب، وهو المهدى المنتظر.
وقامت دول على المذهب الشيعى فى العراق، واليمن، وخراسان، وإيران، وأفغانستان، وباكستان، والهند، ولبنان، وسوريا، والبحرين، ومصر، وشرق أفريقيا. وفى المغرب قامت الدولة الأدريسية.. وفى بخارى فى روسيا قامت الدولة الساسانية بخراسان.. وأقام أئمة الشيعة الإسماعيلية دولة كبرى فى أفريقيا وآسيا (الدولة الفاطمية).
وتاريخ الشيعة السياسى والفقهى طويل.
***
وفقه الشيعة قائم على الاجتهاد، وباب الاجتهاد مفتوح لمن تتوافر فيه شروط الاجتهاد، يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء وهو من كبار علماء الشيعة إن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان، وليس هناك عمل من أعمال الإنسان إلا ولله فيه حكم، فهو واجب، أو مندوب، أو محرم، أو مكروه، أو مباح، وما من معاملة على مال أو زواج إلا وللشرع فيها حكم بالصحة أو الفساد، ولما كانت أعمال الإنسان غير محدودة، وإنما هى متجددة بتجدد الأزمان والأمكنة والأحوال، فإما أن يقف الناس أمام تلك الأمور حائرين، لا يجدون من يفتيهم فيها بحكم الله ويبين لهم ما عليهم أن يفعلوه وما عليهم أن يتركوه، وإما أن يلتمس الناس لأنفسهم فقها وضعيا لهم وليس الذى يدعو إلى الاجتهاد هو حاجة الناس إليها فحسب، وإنما هو أمر تقضى به طبيعة الشريعة نفسها، وليست العزة للقرآن لمجرد التبرك به وإنما أن ينتفعوا به أبد الدهر فى جميع شئونهم، فما دام فى المسلمين عقول تفكر، فلا بد لهم من النظر فى كتاب ربهم، وقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يختلفون فى فهم نصوص الكتاب و السُّنة حسب اختلاف مراتب أفهامهم، وقد يسمع الصحابى من النبى فى واقعة ويسمع الآخر فى مثلها خلافه وتكون هناك خصوصية فى أحدهما اقتضت تغاير الحكمين، وغفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث فيحصل التعارض فى الأحاديث ظاهرا، ولا تتعارض واقعا، وإذا أمعنت النظر اتضح لك أن الاجتهاد كان مفتوح الباب فى زمن النبوة وبين الأصحاب فضلا عن غيرهم.
ويقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: إن باب الاجتهاد عند الشيعة مفتوح حتى تقوم الساعة، بخلاف المشهور عند جمهور المسلمين من أن باب الاجتهاد أغلق على ذوى الألباب. وقد بيّن كثير من علماء أهل السُنّة أن ذلك زعم باطل وتضييق لا دليل عليه، وأن هذا إنما كان يقال به فى عصور الضعف الفقهى والتعصب المذهبى، وبعض القائلين به إنما يريدون أنه لم يعد بين المسلمين من يصلح لهذا المنصب، أو لقصور الباع، وقلة المتاع، لا لأن بابا قد أقفل.
وكان الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر الأسبق يقول: (لقد أدركنا فى الأزهر أيام طلبنا للعلم عهد الانقسام والتعصب للمذاهب، ولكن الله أراد أن نحيا حتى نشهد زوال هذا العهد. وتطهر الأزهر منه، فأصبحنا نرى الحنفى والشافعى والمالكى والحنبلى إخوانا متصافين وجهتهم الحق وشرعتهم الدليل، بل أصبحنا نرى بين العلماء من يخالف مذهبه الذى درج عليه فى أحكامه لقيام الدليل عنده على خلافه، وقد جريت طول مدة قيامى بالإفتاء فى الحكومة والأزهر- وهى أكثر من عشرين عاما- على تلقى المذاهب الإسلامية- ولو من غير الأربعة المشهورة- بالقبول ما دام دليلها عندى واضحا، وبرهانها راجحا مع أننى حنفى المذهب، كما جريت وجرى غيرى من العلماء على مثل ذلك فيما اشتركنا فى وضعه أو الإفتاء فيه من قوانين الأحوال الشخصية فى مصر، مع أن المذهب الرسمى فيها هو المذهب الحنفى، وعلى هذه الطريقة تسير لجنة الفتوى بالأزهر التى تشرفت برياستها وهى تضم طائفة من علماء المذاهب الأربعة.
يؤكد الشيخ عبد المجيد سليم بذلك أن باب الاجتهاد- عند أهل السُنّة أيضا- لم يغلق، وهو باب واسع لمن حسبه ضيقا.
ومعنى ذلك أن ما كان سائدا من أن باب الاجتهاد أغلق عند أهل السُّنة كان تعبيرا عن مرحلة ساد فيها ضيق الأفق والجهل وعدم القدرة على استنباط الأحكام. وهذا ما رآه الإمام الأكبر الشيخ مصطفى المراغى شيخ الأزهر الأسبق.
***
ويجهل كثير من المسلمين عقيدة الشيعة الزيدية فى اليمن مع أنهم أقرب المذاهب إلى مذاهب أهل السُنّة وخاصة مذهب الإمام أبى حنيفة. وإمام هذا المذهب هو الإمام زيد بن علىّ وله كتاب باسم (الروض النضير) لا يخرج عن مذاهب الأئمة الأربعة عموما ومذهب الحنفية خصوصا. وقد تفرعت من مذهب الإمام زيد بن علىّ مذاهب فرعية تختلف فى بعض المسائل الفقهية اليسيرة- كما يقول الباحث الشيخ محمد بن إسماعيل العمرانى- ومن هذه المذاهب مذهب الهادوية الذى أسسه إمام اليمن الإمام الهادى يحيى بن الحسين وظل هو المذهب الرسمى للحكومة اليمنية أكثر من ألف عام، وهو يتفق مع المذهب الحنفى حتى أن بعض أئمة الهادوية يرى الأخذ من أقوال أبى حنيفة فى أية مسألة فقهية لا يجدون للهادى نصا فيها. وقد تعرض هذا المذهب للهجوم والاتهام بعدم دراسة كتب الحديث وعدم العمل بما فيها، وليس ذلك صحيحا، والحقيقة أنهم يأخذون بما جاء فى كتب أهل البيت أولا ويأخذون بما جاء فى كتب الأحاديث ثانيا، وهم لا يتعصبون على من يخالفهم فى الفقه. ويرون أن الاجتهاد جائز لمن حقق علوم الاجتهاد، ولكل مجتهد نصيب، ولا إنكار فى حكم فيه اختلاف، ولا يكون التكفير إلا بحكم قاطع، وحكم الحاكم بين الخصمين يقطع النزاع مهما كان مذهب الحاكم ومذهب الخصمين، والجاهل الذى لا يعرف عن المذاهب شيئا فإن مذهبه هو مذهب من يوافقه.
ويقول محمد بن إسماعيل العمرانى: إنه قد يوجد فى بعضهم شىء من التعصب المذهبى لكن ذلك يكون فى الغالب فى العامة الذين لا يعرفون عن أصل مذهبهم شيئا، وربما وجد نادرا فى بعض الخاصة لأسباب خارجية لا علاقة لها بأصل المذهب، كما هو الحال فى جميع المذاهب الإسلامية، وهم لا يجمدون على ما نصه إمام مذهبهم، وإذا رأوا فى أية مسألة أن رأيا من غير إمامهم أرجح دليلا منه أخذوا بقوله، وذلك نتيجة لفتحهم باب الاجتهاد المطلق، ولذلك نرى كثيرا منهم يذهبون لمذهب عالم سنى، وهم فى الاجتهاد لا يبالون بمخالفة أى عالم ما داموا متمسكين بالكتاب و السُنّة، ومنهم القاضى محمد الشوكانى صاحب المؤلفات القيمة التى لو لم يكن منها إلا ما طبع لكفته فخرا، فكيف والكثير منها لم يطبع، ومن مؤلفاته المطبوعة المشهورة (نيل الأوطار) و(تحفة الذاكرين) و(فتح القدير) وغيرها. وهم كغيرهم من أهل المذاهب الإسلامية الأخرى فى تعظيم الخلفاء الراشدين ويرون أن من ينتقص من شأنهم إما أن يكون من العوام الجهال، أو من الخاصة المتعصبين. وإمامهم الأكبر زيد بن على يوجب الحب والتعظيم للخلفاء الراشدين.