أين قانون الاحتكار؟!
عند بدء الدورة البرلمانية لمجلس الشعب كتبت أقول: إننى أراهن على أن قانون منع الاحتكار لن يعرض على مجلس الشعب فى هذه الدورة- وربما ولا فى الدورة القادمـة- وكنت أتمنى أن أخسر الرهان، ولكن هاهى ذى الدورة البرلمانية على وشك الانتهاء، ولم يتبق سوى أيام معدودة وينفض المجلس، وفى جعبة الحكومة قوانين أخرى ادخرتها منذ شهور لتعرضها- كالعادة- فى الساعات الأخيرة قبل انفضاض الدورة، وليس من بينها- طبـعا- قانون منع الاحتكار.. وإن كنت ومازلت أتمنى أن أخسرالرهان!
أتمنى أن أخسر الرهان، ويكسب البلد قانونا يحمى الشعب من الاحتكارات التى تتلاعب فى أقوات ومصالح الناس، وتكدس الملايين على حساب المواطنين.
والاحتكار ليس جديدا.. فقد عرفناه قبل ثورة 1952 واكتوينا بناره فى النظام الرأسمالى الذى كان قائما فى ذلك الوقت، وقد جاءت الثورة للقضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم وكان ذلك مبدأ من المبادىء الستة الأساسية للثورة، وكان هدف الثورة القضاء على مجتمع النصف فى المائة الذى كان متحكما فى موارد البلاد وأرزاق العباد..
قامت الثورة لتقضى على احتكار شركات عبود باشا للسكر والملاحة وغيرها، واحتكــار فرغــلى باشـا للقطــن، واحتكــار الشركة البلجيكية للترام، واحتكار أبو رجيلة لأتوبيسات النقل العام.. وإن كانت الثورة قد استبدلت احتكارا باحتكار، وصار الاحتكار الحكومى هو أساس الاقتصاد المصرى بعد قوانين التأميم، وكانت الحكومة محتكرة لتجارة الاستيراد، و75% من تجارة التصدير، ومحتكرة للشركات الصناعية، وهى التى توجه الإنتاج الزراعى والتسويق المحلى للمحاصيل الاستراتيجية مثل القطن والأرز والقمح وقصب السكر.. الخ. وهى التى تسيطر على التسويق المحلى عن طريق المجمعات الاستهلاكية.. ولكن ذلك كله كان لصالح المواطن الفقير والمحدود الدخل.. لكى يجد السلعة بالسعر المناسب دون استغلال.
ثم جاء التحول إلى الاقتصاد الحر، ومع ما فى الاقتصاد الحر من مزايا قلنا عنها الكثير، إلا أن هذا النظام ينطوى على خطر ظهور الاحتكارات.. وهذا ما حدث ويحدث فى جميع الدول التى تأخذ بنظام الاقتصاد الحر.. ولذلك فإن الدول تضع الضوابط والقوانين والرقابة الصارمة لكيلا ينفرد فرد أو مجموعة أفراد بالتحكم فى السلع والأسعار، وتكون أرباحهم الهائلة على حساب حقوق المواطنين.
فى كل دول العالم حدود تمنع انفراد عدد محدود من أصحاب رؤوس الأموال بالسيطرة على الأسواق.. وتضع احتياطات لحماية المواطنين من احتمالات سيطرة شركات أجنبية كبيرة من الحصول على النصيب الأكبر من وسائل الإنتاج والتوزيع مباشرة أو عن طريق وسيط مصرى يمثل شريكا أو واجهة لأفراد أو لمؤسسات أجنبية.. كل دول العالم دون استثناء تضع الحدود والقيود لضمان عدم تركيز المنشآت الصناعية المنتجة لسلعة ما أو الشركات المتخصصة فى توزيع سلعة أو مجموعة سلع فى يد فرد واحد أو شركة وحيدة، وتمنع التحايل المعروف والمذكور فى الكتب عن وجود شركات تتقدم وكأنها مستقلة عن بعضها وهى فى الواقع مجموعة احتكارية واحدة أو فى سبيلها إلى الاندماج معا فيما يعرفه تلاميذ السنة الأولى فى كليات التجارة والحقوق باسم (الكارتل).
والناس يتحدثون، وتقارير المجلس القومى للإنتاج والشئون الاقتصادية تتحدث عن احتكارات فى استيراد بعض السلع الأساسية مثل السكر، والذرة الصفراء، والأخشاب، واحتكارات فى صناعة الحديد، والورق، وغيرها كثير.. واحتكارات ثنائية فى المشروبات الغازية، والتليفون المحمول، ومنتجات الألبان، وأقمشة البدل الرجالى، وبعض المنسوجات الأخرى. ويضاف إلى ذلك تحكم كبار التجار فى التسويق المحلى للخضر والفاكهة التى تصل قيمتها الإجمالية 16 مليار جنيه، وتجارة الدواجن التى تبلغ قيمتها 3 مليارات جنيه، والبيض الذى تبلغ قيمة التعامل فيه محليا 706 ملايين جنيه، وتجارة الجلود التى يحتكر 4% من التجار 43 % من القيمة الاجمالية للجلود فى السوق، و45% من الجلود المدبوغة، وأسواق الجملة كلها تحت سيطرة عدد محدود من التجار الكبار، وكل هؤلاء المحتكرون هم الذين تسميهم الصحافة (الحيتان). والمجلس القومى للإنتاج يحذر من نشوء احتكارات فى الأسمنت، والأسمدة الكيماوية، والصناعات المعدنية، ويزداد الأمر خطورة إذا تطور الاحتكار إلى ما يمس الشركات الخاصة بالمرافق الرئيسية، مع احتمالات اندماج الشركات اندماجا علنيا أو خفيا.
كان المفروض أن يكون فى ذلك كله التحذير الكافى للسلطة التشريعية المسئولة عن حماية الشعب ومصالحه وحقوقه، وأقل ما كان ممكنا أن يضغط مجلس الشعب لإصدار قانون منع الاحتكار، خاصة وقد تكررت تصريحات الحكومة على مدى ثلاث سنوات من أن مشروع القانون جاهز، ومع تكرار التأكيدات على أن المشروع ذهب إلى مجلس الدولة، وخرج من وزارة العدل، ودخل مجلس الوزراء، وخرج إلى حيث لا نعلم!
وقانون منع الاحتكار ليس اختراعا، فهو موجود فى الدول الرأسمالية دون استثناء، وأكثر من ذلك فإن وزارة التجارة والتموين سبق أن أعدته فى سنة 1998 - أى منذ 6 سنوات- ومع ذلك هناك ما يعوق صدور هذا القانون.. ولا أحد يعرف ما هو أو من هذا العائق.. ونرجو أن يكون المانع خيرا.
والخوف الآن أن تزداد الاحتكارات وتنتشر وتمتد مع ما ينشر ويذاع عن تخلى الحكومة عن دورها الرئيسى فى تسويق السلع والخدمات الضرورية مثل مرافق المياه والكهرباء والغاز والنقل، وتسويق السلع الاستراتيجية مثل القمح، والقطن، والأرز، وقصب السكر، والسكر وزيت الطعام..
من حق المواطنين أن يتبادلوا الشكوى والتذمر من تحكم قلة فى الأسعار والسلع.. ومن تكدس الثروات على حساب محدودى الدخل.. ومع ظهور أو اختفاء الجمعيات التعاونية - وهى قطاع غير حكومى وفى نفس الوقت لا يهدف إلى الاستغلال - فإن حالة السوق يمكن أن تكون ضد مصلحة المستهلكين. وأيضا مع غياب دور حقيقى وفعال ومؤثر لجمعيات ومؤسسات حماية المستهلك، فإن المستهلك سيظل هو الضحية.
وأخيرا.. إذا كانت النية صادقة فى تمرير وتنفيذ قانون منع الاحتكار.. وإذا كانت الحكومة غير قادرة، أو غير راغبة فى تمرير هذا القانون، فإن الأمر سهل.. فإن مجلس الشعب هو سلطة التشريع.. وليس شرطا أن يظل جالسا ساكنا فى انتظار الحكومة.. ولديه السلطة.. والقدرة.. والاختصاص.. فى أن يعد هذا القانون.. ويناقشه.. ويصدره.. والمسألة سهلة.. خذوا قانون منع الاحتكار من أية دولة وترجموه وأصدروه.. فهذا أفضل مما نحن فيه الآن..
ويا مجلس الشعب.. أين أنت؟