أسرار المتطرفين الشيعة
 

 الغموض الذى يحيط بالشيعة عموما يرجع إلى وجود فرق باطنية على هامش الشيعة لها عقائد وطقوس غير معلنة، وحقيقة أفكارها من الأسرار التى لا يعرفها غير أنصارها، وما يعلن منها غير ما يخفى.
والإسماعيلية من أشد الفرق غموضا، لأن معظم عقائدها وممارساتها وكتبها ظلت لفترة طويلة فى طـى التقية والكتمان. وقليل من الباحثين من استطـاع أن يدرس أفكارها. ومن هؤلاء الدكتور على سامى النشار الذى قال عنها: إنها كانت المنحنى الأكبر الخطير للشيعة الإمامية، وكانت إحدى الضربات التى وجهت إلى مذهب الشيعة الإمامية. وقال عنها الدكتور مصطفى غالب فى أهم كتاب صدر عن تاريخ الدعوة الإسماعيلية.
بدأت الحركة الإسماعيلية فرقة من فرق الشيعة المعتدلة، ثم صارت تهدف إلى تكوين مجتمع خاص يتمسك بالتخفى، وقاموا بدور خطير فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية فى عدد من البلاد الإسلامية، وأسسوا أكثر من دولة لهم.. كانت لهم دولة فى المغرب أسسها عبد الله المهدى سنة 296 هجرية امتدت إلى صقلية وجنوب إيطاليا.. وكانت لهم دولة فى اليمن أسسها (ابن حوشب) سنة 270 هجرية.. وكانت لهم دولة فى مصر على يد القائد جوهر الصقلى سنة 1358 هجرية.. ودولة فى بلاد فارس أسسها الحسن بن الصباح سنة 483 هجرية.. ودولة فى البحرين أسسها الحسين الأهوازى وحمدان الأشعث وأبى سعيد الجنابى، وزكرويه بن مهرويه سنة 270 هجرية.. وكانت لهم قلاع وحصون مستقفلة منيعة فى بلاد الشام.. وكانت لهذه الدول آثار فى مجرى الحوادث فى العصور الوسطى.. وشاركت فى حروب امتدت حتى شملت العالم الإسلامى كله.
وكانت للإسماعيلية عقيدة دينية خاصة بهم، عملوا على نشرها فى العالم بالدعاية المنظمة، واستطاعوا تقويض الدولة العباسية نتيجة نشاط جماعاتهم السرية، واستعدادهم للموت تنفيذا لأوامر رؤسائهم، وفى هذه الفترة انتشرت الكتابات المليئة بالطعن فى مبادئ هذه الحركة واتهامها بالإباحية، والزندقة، والإلحاد، والخروج عن الدين الإسلامى، والطعن فى نسب أئمة الحركة.. ولجأ الإسماعيلية إلى إخفاء دعوتهم، والعمل بطرق خفية لنشر مبادئهم والعمل على تقويض أركان الدولة العباسية..
فى البداية نشأت هذه الحركة فى العراق وفارس كحركة دينية فى سنة 128 هجرية بتعاليم وأفكار الإمام جعفر الصادق، وإن كان بعض الإسماعيليين يدعون أن مذهبهم نشأ منذ قديم الزمان، حتى قبل ظهور الإسلام، ويقولون: إن هذه الدعوة بدأت منذ عهد إسماعيل بن سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء. لكن المؤرخين يرون أنها بدأت منذ عهد الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق فى عهد الخليفة العباسى أبى جعفر المنصور الذى كان يطارد أئمة الشيعة فى كل مكان، وإن كان تاريخ إسماعيل بن جعفر الصادق غامضا ومليئا بالمتناقضات، ويذكر المؤرخون أن الخليفة هارون الرشيد طارد الإسماعيلية.. ولذلك كان أئمة الإسماعيلية مستورين.. لا يعرف أحد مكانهم وتحركاتهم..
يقولون: إن الإسماعيلية اهتمت اهتماما شديدا بالدعاية المنظمة لتحقيق نجاحها حتى تحولت من دور الستر والتخفى إلى دور الظهور والحكم، فقسموا العالم إلى 12 قسما واعتبروا كل قسم (جزيرة) ولكل قسم منها داعية أكبر أسموه (حجة الجزيرة)، وقسموا كل (جزيرة) إلى ثلاثين منطقة لكل منها داعية معتمد يسمونه (نقيبا) مهمته نشر الدعوة فى دائرته، والتصدى للخصوم، ونقل الأخبار والأسرار إلى (حجة الجزيرة) ومنه إلى الإمام، ولكل (نقيب) 24 داعية، 12 منهم ظاهرون ومعروفون، و12 داعية محجوبا مستترا، وبذلك كان جهاز الدعوة والدعاية المنتشر فى أنحاء العالم 8640 داعيا لكل منهم اختصاص وهم درجات، فمنهم من يختص بمجادلة العلماء والفقهاء علنا أمام الناس، ومنهم من يختص باجتذاب العامة ومحدودى الثقافة. ولذلك أسسوا منهجا للدعوة والحوار مع المخالفين لهم ومقارعة الحجة بالحجة.. وتخصصوا فى تدريب وإعداد الدعاة القادرين على الجدل ومخاطبة كل جماعة بما يتفق مع طبيعتها وميولها وثقافتها..
ومن الواضح أن تنظيم جهاز الدعوة عند الإسماعيلية لم يكن يقل عن تنظيمات الكوادر فى الأحزاب العقائدية المنظمة فى العصر الحديث مثل الحزب الشيوعى مثلا.. فهناك الدعاة الذين يكونون (القيادة العليا للدعوة) وهم أعوان للإمام يختارهم بنفسه من أقوى وأكثر الأنصار علما، ويسمى الداعية من هؤلاء (داعى الدعاة) وهو الواسطة بين الإمام ودعاة المناطق، ويرأس مجالس التأويل، وإلى جانب هذه الدرجة الرفيعة كانت لديهم مرتبة أخرى لا تقل عنها هى مرتبة (الحجة) وأحيانا يكون الحجة مستترا لا يعرفه إلا الإمام نفسه، وهناك مرتبة سرية أخرى هى مرتبة (باب الأبواب) لا يعرف أصحابها إلا الإمام فقط، وهؤلاء وصلوا إلى (حد العصمة) وهم حجة على الخلق، وحاملو علم الإمام وأصحاب دعوته، لذلك فإن مرتبة (الباب) هى أرفع مراتب الدعوة وتلى مرتبة الإمام مباشرة، وهى مرتبة سرية للغاية، والباب (له فصل الخطاب).
***
هكذا نرى أن البناء التنظيمى للحركة الإسماعيلية فى منتهى الدقة، وفيه مستويات للقيادة واضحة ومحددة ويتكون الهرم من: (الإمام) وله رتبة الأمر، يليه (الباب) وله رتبة فصل الخطاب، ثم (الحجة) وله رتبة الحكم على الحق والباطل، ثم (داعى الدعاة) وله رتبة تعريف الحدود العلوية والعبادة الباطنية وهو الرئيس المباشر للدعاة، ثم (داعى البلاغ) وله رتبة الاحتجاج وتعريف المعاد، ثم (النقيب) وهو الذى يحدد الحدود السفلية والعبادة الظاهرة، ثم (المأذون) وله أن يأخذ العهد والميثاق على الاتباع، ثم (داع محصور أو محدود) ومهمته جذب من يجد لديهم استعداد للاستجابة للدعوة، ثم (جناح أيمن) يساعد النقيب، و(جناح أيسر) يساعد النقيب أيضا، ثم (مكاسر) وهو الذى له الحق فى الدخول فى مجادلات مع العامة، ثم (مستجيب) وهو الشخص الذى انضم إلى الجماعة ويؤخذ عليه العهد والميثاق..
مثل هذا التنظيم الهرمى الدقيق لا نجده فى أية دعوة أو حركة دينية أو سياسية أخرى فى تاريخ المجتمعات الإسلامية. وهذا هو السر فى انتشار الحركة الإسماعيلية بصورة لم تحدث فى العالم من قبل.
أما تنظيمات الإسماعيلية فى العصر الحاضر فهى لا تتبع هذا النظام ولم يعد للدعاية الإسماعيلية وجود تقريبا، ولم يعد فى صفوف الإسماعيلية الآن قيادات لديها ثقافة دينية عالية، ولذلك أصبح الاهتمام الأكبر لهذه الطائفة بالقضايا الاجتماعية، وأصبحت أهم قياداتهم قيادات اقتصادية وليست قيادات دينية.
والوظائف المعروفة الآن هى:
<U>أولا: الهيئة الدينية: </U/>
وتتكون من سيف الدعوة. وهذه رتبة شرفية فخرية تعطى لكبار زعماء الطائفة. بعدها رتبة (مكى) الذى يشرف على تعيين موظفى المساجد وجباية الأموال ويترأس المصلين، وفى أغلب الأحيان يكون صاحب هذه الرتبة ممن لديهم قدر محدود من الثقافة الدينية، ثم (كامريا) وهو المشرف على خزانة الطائفة، ثم (واعظ) ومهمته الوعظ وحضور المآتم وتلاوة آيات من القرآن ولا يتمتع غالبا بثقافة دينية.
<U>ثانيا: المجلس الإسماعيلى الأعلى:</U/>
مهمة هذا المجلس الإشراف على شئون الطائفة ويتم تعيين أعضائه بقرار من الإمام، ويتألف المجلس من رئيس، وأمين سر، وعدد من الأعضاء قد يصلون إلى عشرة أعضاء.
<U>ثالثا: اللجنة الثقافية:</U/>
مهمتها الإشراف على المدارس، واختيار البعثات العلمية، وفى الطوائف الإسماعيلية فى الهند وأفريقيا وباكستان هناك جمعيات خيرية، ونسائية، وصحية، وروابط للطلبة، وهذه التنظيمات أنشأها أغا خان الثالث.
***
ما هى عقائد الإسماعيلية؟
تتلخص عقائد الإسماعيلية فى (علم الظاهر) وهو ما يتصل بالفرائض وبأركان الدين، و(علم الباطن) وفيه التأويل، والعقائد الخاصة بهم، وقد ذهبوا إلى تكفير من يعتقد بالظاهر دون الباطن أو بالباطن دون الظاهر. ويقولون: (من عمل بالباطن والظاهر معا فهو منا، ومن عمل بأحدهما دون الآخر فالكلب خير منه).
ومن أصول العقيدة الإسماعيلية ضرورة وجود الإمام المعصوم، من نسل الإمام علىّ بن أبى طالب، والنص على الإمام يجب أن يكون من الإمام الذى سبقه، ويتسلسل الأئمة من الآباء إلى الأبناء، بحيث يخلف الأب أكبر أبنائه، والإمامة أو الولاية عندهم من أركان الدين بعد الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد. فإذا أدى المؤمن كل العبادات وعصى الإمام، أو كذّب به، فهو آثم فى معصيته، ولا يقبل الله منه العبادات والطاعات، ويقولون فى الظاهر: إن الإمام من البشر ولكن فى التأويلات الباطنية يقولون: إن الإمام هو (وجه الله) و(يد الله) وإنه هو الذى يحاسب الناس يوم القيامة، وهو الصراط المستقيم، والذكر الحكيم.. والإمام هو الذى يدل العالم على معرفة الله، فهو لهذا وجه الله الذى يعرف به الله، وهو يد الله التى يبطش بها الله بأعدائه.
والإمامة عندهم درجات ومقامات أعلاها مرتبة (الإمام المقيم) وبعده (الإمام الأساس) و(الإمام المتم) و(الإمام المستقر) و(الإمام المستودع).. وهكذا.. ثم إنهم يقولون: إن تأويل القرآن واجب، لأن التأويل الباطنى من عند الله خص الله به الإمام علىّ كما خص الرسول صلى الله عليه وسلم بالتنزيل، ويستدلون بقصة موسى مع الرجل الصالح المذكور فى سورة الكهف، أما علوم الباطن فهى محاطة بالستر والكتمان لا يعرفها إلا من يستحق ذلك فقط، ولهم نظريات فلسفية متأثرة بالفلسفة اليونانية خاصة أفلاطون وأرسطو..
***
وفهم عقائد الإسماعيلية ليس سهلا.. فالشيعة الإمامية الاثنا عشرية يقولون: إن مذهبهم أسسه الإمام جعفر الصادق، والإسماعيلية يقولون: إن الإمام جعفر الصادق هو الذى أسس مذهبهم.
والإمام جعفر الصادق من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعروف أنه كان من أكبر فقهاء عصره، متمسكا بالكتاب والسُنّة، يؤدى رسالته الروحية لإرشاد المسلمين جميعا وليس لفئة أو جماعة معينة، وكان حريصا على محاربة الأفكار الخارجة على الإسلام، وابتعد عن الخلافات على الزعامة والسلطة السياسية.
ولكن الدعوة الإسماعيلية تطورت إلى حد ظهور جماعة قالت بنسخ الشريعة الإسلامية (!) وقال بعضهم: إن الله جعل لأحد الأئمة هو الإمام محمد بن إسماعيل جنة آدم، ومعناها: إباحة المحارم، وإباحة كل شىء استنادا إلى تأويل الآية (فكلا منها رغدا حيث شئتما) وقال بعضهم إن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين استنادا إلى تأويل الآية (ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). وقالوا إن الفرائض والسنن التى أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم لها ظاهر وباطن، والنجاة فى العمل بالباطن.
وفى عهد الإمام الإسماعيلى أحمد بن عبد الله الرضى المتوفى سنة 817 هجرية كانت الحركة العقلية الإسلامية قد بلغت مداها، وتوسع المسلمون فى ترجمة علوم وفلسفة اليونان، وكان الخليفة العباسى المأمون وراء هذه النهضة العقلية.. فى هذا الوقت ظهرت رسائل إخوان الصفا المشهورة، واعتبرت قرآنا بعد القرآن(!) وقالوا: إنها قرآن العلم كما أن القرآن هو قرآن الوحى، أو هى قرآن الإمامة وذلك قرآن النبوة، واعتبر الدعاة أن رسائل إخوان الصفا وحى نزل على الإمام أحمد بن عبد الله الرضى، وهذه الرسائل تضم أفكارا من الفلسفة اليونانية مختلطة بالعقائد الإسلامية. يقول الدكتور النشار عن هذه الرسائل: إنها ليست فلسفة إسلامية أصيلة، وإنما هى محاولة لمزج العقائد الإسلامية بفلسفة أفلوطين والفيثاغورية، وهى لا تعبر عن فلسفة أهل السُنّة والجماعة أو المعتزلة أو الشيعة الإمامية والاثنى عشرية، فهى محاولة فلسفية منسقة، ولكنها بعيدة عن الروح الإسلامية. وهذه الرسائل كانت سلاحا بين يدى الإسماعيلية يحاربون به الدولة العباسية.
يقول الدكتور النشار: إن الإسماعيلية مذهب فلسفى أخذ يتضخم شيئا فشيئا مبتعدا عن روح الإسلام السُنّى، وعن روح الإسلام الشيعى الاثنى عشرى.
ويقول الدكتور عبد الرحمن بدوى فى كتابه (مذاهب الإسلاميين): إن الصفة المشتركة التى يدين بها الذين اعتنقوا نحلة الباطنية هى تأويل النص بالمعنى الباطنى تأويلا يذهب مذاهب شتى قد يصل إلى حد التناقض، فهو يعنى أن النصوص الدينية المقدسة (القرآن) رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأسرار، وأن الطقوس الدينية أيضا رموز وإشارات إلى حقائق خفية، بل إن الأحكام العملية (العبادات) هى الأخرى رموز وأسرار. ويقول المؤرخون القدامى: إن فكرة التأويل الباطنى للنصوص والعبادات من وضع أعداء الإسلام حين يئسوا من القضاء عليه بالقوة فأخذوا فى وضع أحاديث كاذبة نسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأثروا بها على أصحاب العقول الضعيفة وأفسدوا الأحاديث الصحيحة بالأحاديث الكاذبة وبالتأويل. ومن أبرز الشخصيات التى نشرت فكرة التأويل ميمون القداح، وقال عنه الأستاذ محمد عبد الله عنان فى كتابه (الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية) إنه كان ملحدا درس الأساطير الدينية وعلم الكلام والجدل الفلسفى وتظاهر بالإسلام، وباعتناق المذهب الشيعى، واستتر بالدعوة لآل البيت، وانتشرت دعوته فى جنوب فارس وجنوب العراق والبحرين، وانتشر دعاته فى كل مكان يتسترون بالشيعة ويعملون فى الخفاء لبث مبادئ الإلحاد ويخاطبون كل طائفة بما يلائم ميولها وتفكيرها. فكان خطرا على الإسلام ووحدة المسلمين، وقد وضع ميمـون بـذور الإسماعيلية الباطنية، وواصل أبناؤه هذا الجهد، وكان منهم عبد الله بن ميمون الذى كان يدعى أن الأرض تطوى له فيذهب إلى أى مكان فى لمح البصر، وإنه قادر على معرفة الأحداث والكائنات فى البلدان البعيدة.
كذلك ظهر رجل آخر من دعاة الإسماعيلية الباطنية اسمه محمد بن الحسين ولقبه (دندان) كان يكره العرب ويتحدث عن مساوئهم، فذهب إليه القداح وأشار عليه ألا يظهر ما فى نفسه ويكتمه، ويظهر الانتماء إلى الشيعة، وبذلك يجد الفرصة للطعن فى الصحابة، ومن الطعن فيهم يمكنه الطعن فى الشريعة، فاستحسن دندان ذلك وأعطى القداح مالا كثيرا لكى ينفقه على الدعاة لهذا المذهب، فسار إلى الأهواز والبصرة والكوفة وخراسان وأرض حمص مع فرقة من دعاته، وتفرقوا فى البلاد، وأظهروا الزهد والعبادة لإغراء الناس باتباعهم وهم فى الحقيقة على خلاف ذلك.. هذا ما جاء فى كتاب (الكامل) للمبرد.
ويصف الأستاذ محمد عبد الله عنان ابن ميمون بأنه أعظم هدام وأذكى متآمر عرفه التاريخ، استغل حالة التفكك الذى أصاب الشيعة بانقسامهم على أنفسهم، فضم طائفة الخطابية إليه، وكون من الفرق المبعثرة خليطا مضطربا. ويقول الدكتور النشار: إن عبد الله بن ميمون وجد الحقل الخصب فى أنصار آل أبى الخطاب، ثم المنصور، ثم أبى مسيلمة، وبقايا الثورة والفلول الحاقدة على الخلافة تتلمس قيادة جديدة ونقطة ارتكاز تنقض بها على الحكم، وسار هذا الاتجاه بتأييد الاتجاهات الشعوبية، ووضع عبد الله بن ميمون يده فى يد الشعوبيين الذين كانوا يتلمسون الفرصة للقضاء على العرب وعلى الإسلام. وما كاد ابن ميمون ينظم جماعته السرية الهائلة فى جنوب فارس حتى بعث الدعاة إلى الأقطار ينشرون مبادئه باسم الدعوة الإسماعيلية والتبشير بالمهدى المنتظر. مدفوعا فى ذلك بالحقد القديم على العرب والإسلام، وبالطموح إلى جمع المقهورين والظافرين فى جماعة سرية واحدة، تؤمن بالتحرر من قيود الشريعة، ويعملون على خداع المؤمنين واستغلال غفلتهم لتوجيههم إلى مساعدة غير المؤمنين والغزاة على تحطيم الدولة الإسلامية، وبقوة التنظيم المتماسك والطاعة العمياء التى غرسوها فى اتباعهم يصل أعداء الإسلام إلى غايتهم، وقد توسع عبد الله بن ميمون فى الدعوة الإسماعيلية واستغلها إلى أقصى الحدود وانتشرت فعلا على يديه واختلطت بغيرها من المذاهب. وصادفت هوى فى نفوس جماعات مختلفة فى العنصر والديانة من شيعة، وسنة، ومسيحيين، ويهود، وصابئة، ومانويين، ولأن عبد الله بن ميمون كان فارسيا متعصبا فقد كان ينظر إلى آل علّى نظرته إلى سائر العرب، ومع ذلك استغل محبة الشيعة لهم فاستخدم ذلك وسيلة لتحقيق أهدافه، وجمع أنصاره من أصحاب العقائد والديانات الأخرى من غير المسلمين ومن غير الشيعة وممن اعتنقوا الإسلام وعقائد الشيعة فى الظاهر وأبطنوا العكس. وهؤلاء كان إيمانهم بأن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالا وسخرية، وأن بقية الناس- أو الحمير كما يسميهم عبد الله بن ميمون- ليسوا قادرين على فهم هذه المبادئ، ولكنه مع ذلك كان يساعدهم لكى يصل إلى هدفه. وقال عنه الباحثون: إنه استطاع أن يؤلف بين أهل الإيمان والزنادقة، وأن يكوّن منهم حزبا يعمل بقوة على إسقاط الدولة العباسية، وكان له علم خاص لونه أبيض، لأنه كان يزعم أن دينه دين النور الخالص، الذى ستصعد إليه النفوس بعد أن تنتهى من الحياة على الأرض.
***
رجل آخر اسمه عبد الله بن سبأ تجمع المصادر على أنه كان يهوديا وأسلم فى خلافة عثمان، ويذكر المؤرخون فى زمانه أنه أظهر الإسلام فقط، وتستر ليخفى هدفه الحقيقى وهو أن يفسد على المسلمين دينهم. وكان يتنقل بين البلدان لينشر أفكار الضلال، فبدأ بالحجاز ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، وأخرجه أهل الشام وذهب إلى مصر، وفى كل هذه البلاد كان يبث أفكاره ويخطط لمؤامراته، فكان أول من قال بالغلو فى الإمام على، والتفت حوله مجموعة كبيرة وأطلق عليهم اسم (السبئية).
بعض المستشرقين شككوا فى وجود عبد الله بن سبأ، وناقش د. طه حسين ما قيل عنه ولم يقطع بوجوده أو بعدم وجوده، لكن المصادر القديمة لمؤرخى السُنّة والشيعة تجمع على أنه شخصية حقيقية ونقلوا آراءه وأشاروا إلى خطورة مذهبه. وعبد الله بن سبأ هو الذى أعلن تأليه الإمام علىّ، وهو الذى أنكر موته، ويقول الدكتور عبد الرحمن بدوى: إن معظم المستشرقين لم ينكروا وجود ابن سبأ. ولم ينكروا دوره، ولكن أحمد أمين فى كتابه المشهور (فجر الإسلام) يؤكد أن عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية وأنه لم يجد فى أقوال المشككين فى وجوده أدلة على ذلك، وفى كتاب (حركات الشيعة المتطرفين) للدكتور محمد جابر عبد العال تأكيد لوجود ابن سبأ وتأكيد للمؤامرة. ويقول: إن الخصومة بين اليهود والمسلمين أيام الرسول صلى الله عليه وسلم جعلت اليهودية الموتورة تلجأ إلى الحيل أو المؤامرة، وهكذا كانت مؤامرة ابن سبأ لبث بذور الفتنة. وكتاب آخر بعنوان (المهدية فى الإسلام) للأستاذ سعد محمد حسن يؤكد أن البحث العلمى جعل العلماء أخيرا يعترفون بوجود عبد الله بن سبأ كشخص له وجـود تاريخى، وكـذلك الدكتـور على الشابى فى كتابه (أثر التراث الشرقى فى المذهب السبئى)..
كل ذلك يرد على التشكيك فى وجود عبد الله بن سبأ الذى نجده فى بعض كتب الشيعة، لكن أحد علماء الشيعة المعاصرين وهو الشيخ محمد حسين الزين العاملى فى كتابه (الشيعة فى التاريخ) يقول: (إن ابن سبأ كان فى عالم الوجود، وأظهر الغلو، وإن شك بعضهم فى وجوده وجعله شخصا خياليا، أما نحن بحسب الاستقراء الأخير، فلا نشك بوجوده وغلوه.. نعم قد غلا ابن سبأ فى دينه وتسربت بدعته هذه إلى أفكار جماعة غير قليلة سميت باسمه).
***
ما هى أفكار ابن سبأ التى تثير كل هذا الجدل بين العلماء والمؤرخين؟
فى المصادر المختلفة أن ابن سبأ هو أول من غرس ثلاث أفكار خطيرة. فكرة الوصية. وفكرة ألوهية الإمام على، وفكرة الرجعة.
عبد الله بن سبأ روج لفكرة أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه غائب غيابا مؤقتا، ولابد من إمام ينوب عنه ويقوم مقامه، وهذا النائب هو الإمام على، وهكذا ابتدع نظرية وصية النبى عليه الصلاة والسلام للإمام علىّ بالإمامة من بعده, ولم يكن ابن سبأ أول من قال بفرض إمامة علىّ. ولكنه كان أول من أعلن ذلك وأشهره وجعله قضية كبرى من قضايا المسلمين، وإن كان المقريزى يقول فى (خطط المقريزى): (إن ابن سبأ هو الذى أحدث القول بالوصية للإمام على بالإمامة والخلافة بالنص، وإنه قال: لكل نبى وصى، وكان علىّ وصى محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلىّ خاتم الأوصياء) وكان ابن سبأ يشكك فى خلافة وبيعة عثمان ويدعو الناس إلى خلعه ويقول: إنه مغتصب لحق غيره.
بذلك كانت فكرة ابن سبأ عن الوصية هى المسوغ للغلاة اعتمدوا عليها، ولو كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالخلافة بعده لعلىّ لكان أبو بكر وعمر أول من أطاع وبايع عليا.
ويقول الدكتور على الشابى: إن الدارس لتطور الفكر السياسى الإسلامى يلحظ أن دعاة كثيرين اتخذوا لهم على مدى التاريخ هذه الوصية مطية لتركيز نفوذ قادتهم السياسيين، وصبغ هذه القيادة بالصبغة الدينية المقدسة، بحيث لا ينقضى حكمهم مهما تكن ظروف الحياة.. ففكرة الوصية إذن ساعدت على تمكين الغلو وتقوية جذوره.
وقد أشار العقاد فى كتابه (عبقرية الإمام) إلى أن أحاديث كثيرة وردت بشأن حب النبى صلى الله عليه وسلم للإمام على واختلاف وجهات النظر عند كل من الشيعة وأهل السُنّة فيها، ولكنهم يجمعون رغم اختلافهم على أن عليا كان من أحب الناس إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن أحبهم على الإطلاق، فهو ابن عمه الذى كفله وحماه، وكان ربيبه الذى أوشك أن يتبناه، وكان زوج ابنته العزيزة عنده، وكان بديله فى الفراش ليلة الهجرة التى همّ المشركون فيها بقتل من يبيت فى فراشه، وكان نصيره الذى أبلى أحسن البلاء فى جميع غزواته، وتلميذه الذى علم من فقه الدين مالم يعلمه ناشئ فى سنه.. وكما يقول الإمام الدكتور عبد الحليم محمود فإن صلة على بالرسول عليه الصلاة والسلام أقدم من الإسلام نفسه.
ويقول الدكتور طه حسين فى كتابه (على وبنوه): إن أهل الكوفة شعروا بالندم على تفريطهم فى الإمام على وتخلفهم عن نصرته بعد موقعة صفين حتى أرهقوه من أمره عسرا، فلما فارقهم، وفارقتهم بموته سماحة الخلق ولين العيش هاموا فى حبه وقالوا فى تعظيمه وإجلاله أعظم القول، وغلا بعضهم فى ذلك حتى رأوا فيه عنصرا من الألوهية يرفعه فوق غيره من الناس. ومما ضعّف من ندم أهل الكوفة وإفراطهم فى حب الإمام علىّ ما لاقوه من الهوان على أيدى الأمويين.. وفى ذلك أيضا يقول الإمام الراحل الدكتور عبد الحليم محمود فى كتابه (التفكير الفلسفى فى الإسلام): إن أنصار الإمام علىّ أخذوا يذكرون حياته بعد موته بصالح الأعمال وجليلها، وأخذت صورة علىّ بمر الزمن تلبس شيئا من الإجلال والتقديس والتنزيه والربانية والألوهية.. وهل من مزيد.
يضاف إلى ذلك أن الشيعة لاقوا الاضطهاد من الحكام الأمويين والعباسيين وتعرض الكثير منهم للقتل حتى الأئمة، ويصف الإمام محمد الباقر ما لاقته الشيعة على أيدى الأمويين فيقول: (بويع الحسن بن على ثم غُدر به، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر فى جنبه، ثم قُتل الإمام الحسين، ثم لم نزل- نحن أهل البيت- نُستذل، ونُمتهن، ونُحرم، ونُقتل، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا بكل بلدة. وقطعت الأيدى والأرجل على الظن، وكل من كان يُذكر بحبنا سجن، أو نهب ماله، أو هدمت داره).
ولا يزال ذكر ما فعله الحجاج بن يوسف الثقفى بآل البيت وشيعتهم عالقا فى الأذهان، لأنه مارس عليهم أبشع صور التنكيل فى التاريخ، ولما ولى زياد حكم الكوفة فى عهد معاوية قطع أيدى ثمانين من أهلها بعد فراغه من أول خطبة فيهم، وكان يتتبع الشيعة وهو عارف بهم لأنه كان منهم أيام علىّ، فقتلهم وقطع الأيدى والأرجل وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم، وشردهم عن العراق. ولما جاء العباسيون كانوا أشد على الشيعة فى القتل والسجن لأنهم كانوا أكثر معرفة بخفاياهم.. وهكذا عاش الشيعة طيلة عهد الأمويين والعباسيين فى مآس متلاحقة.
من الطبيعى إذن أن يكون رد الفعل على هذا الاضطهاد زيادة الغلو والتطرف، ومن ناحية أخرى استغل المفسدون من أعداء الإسلام مشاعر القهر لدى الشيعة فنشروا سمومهم بينهم، واتخذوا من محنة أهل البيت ذريعة لتمجيدهم إلى حد الخروج عن الحدود المقبولة وخلعوا عليهم صفات الألوهية.
***
الاضطهاد دفع الشيعة أيضا إلى العمل فى الخفاء، والتزام السرية فى تحركاتهم، ويقول أحمد أمين فى فجر الإسلام: (هذه الاضطهادات كان من نتائجها أحكام الشيعة السرية، فهم أقدر الفرق الإسلامية على العمل فى الخفاء وكتمان عملهم حتى يتمكنوا من عدوهم، وهذه السرية استلزمت الخداع والالتجاء إلى الرمز والتأويل) فقد كانوا يخضعون للحاكم فى الظاهر ويتبعون الإمام الشيعى فى السر، ويجذبون الأنصار بالدعاية السرية التى أجادوها.. وبذلك اعتبر بعض الباحثين الشيعة ضمن الجمعيات السرية، وأنها أيضا معارضة سياسية هدفها إسقاط الحاكم وتولية الإمام، ولجأوا لتحقيق ذلك إلى كل وسيلة بما فى ذلك تأويل القرآن، وككل عمل سرى يمكن أن تتسلل إليه أفكار غريبة بسهولة، ومن هنا ظهرت فرق تعتنق تعاليم إباحية وتدّعى أنها التعبير عن الفهم الحقيقى للقرآن والسُنّة، وظهرت جماعات الغلاة، وظهرت أيضا جماعات تدعو إلى الثورة. وكل عمل يتم فى الخفاء لابد أن تتسلل إليه أفكار منحرفة لا يمكن الجهر بها فى العلن.!
***
هل هذه الفرق المتطرفة التى يسميها الباحثون (غلاة الشيعة) من الشيعة فعلا؟
علماء الشيعة أنفسهم يرفضون ذلك. فالشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء له كتاب مهم بعنوان (أصل الشيعة وأصولها) يقول فيه: إن نسبة غلاة الشيعة إلى الشيعة ظلم فاحش، وخطأ واضح، وأنهم ليسوا إلا ملاحدة، وأن الشيعة الإمامية يتبرأون منهم براءة التحريم.
والشيخ محمد حسين الزين له كتاب آخر بعنوان (الشيعة فى التاريخ) يقول فيه: إن حشر الغلاة بين الشيعة من تشنيع أعداء الشيعة.
والدكتور أحمد شلبى- الباحث والمؤرخ والأستاذ المعروف- يقول فى (موسوعة التاريخ الإسلامى): إن هؤلاء الذين يطلق عليهم الغلاة ومن شاكلهم ليسوا شيعة على الإطلاق، بل ليسوا مسلمين على الإطلاق، وبذلك نٌخرج من الشيعة عشرات الفرق ادعت أنها شيعة وليست شيعة.
***
وهل يمكن أن ندخل ضمن الشيعة فرقة قالت: إنه لا حاجة لهم إلى المال لأن الأرض ستكون لهم، ودعوا إلى شيوعية المال والنساء وحكايات هؤلاء كثيرة نجدها فى كتب مؤرخى مذاهب الغلاة؟
وهل يمكن أن يكون من الشيعة من يخلع على الأئمة صفات الألوهية ويدعون أنهم يعلمون الغيب، أو يقولون: إنهم أنبياء مرسلون؟. أو يقولون بحلول الله فى الحاكم؟. وهل من الشيعة من قالوا: إن لهم دينا ينسخ جميع الأديان- بما فى ذلك الإسلام- وإن لهم شريعة جديدة أو الذين قالوا بتناسخ الأرواح وانتقالها فى صورة الإنسان والحيوان، وإن النفس تحل بعد الموت فى جسد آخر، فتنتقل نفس الموحد إلى جسد موحد آخر، ونفس المشرك إلى مشرك.. أو من قالوا بأن الصلاة مثل الزكاة مفروضة مرة واحدة فى السنة، فمن صلى مرة واحدة فى السنة فقد أقام الصلاة، ويزعمون أن ذلك تفسير قول الله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فالصلاة والزكاة- عندهم- لها باطن، وما خلق الله من ظاهر إلا وله باطن ويزعمون أن ذلك تفسير قول الله تعالى: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)..؟ وهل يمكن أن يكون من الشيعة هؤلاء الذين يحدثنا عنهم الدكتور مصطفى الشكعة فى كتاب (إسلام بلا مذاهب) الذين لا يسمحون لأنفسهم بالصلاة فى مساجد عامة المسلمين، والذين يتمسكون بفروض الدين التى تشبه فى الظاهر عقيدة المسلمين المعتدلين، ولكن لهم عقيدة باطنية تفسر كل فريضة تفسيرا مختلفا، فهم يصلون كما يصلى المسلمون ولكنهم يقولون: إن هذه الصلاة للإمام المستور(!) ويذهبون إلى مكة للحج كبقية المسلمين، ولكنهم يقولون: إن الكعبة هى رمز للإمام علىّ.؟ وهل من الشيعة هؤلاء الذين يمارسون طقوسا فى الخفاء، ولهم كتب عن العقيدة يحتفظون بها فى الخفاء ولا يطلعون أحدا عليها غيرهم؟
وهل من الشيعة فرقة أباحت قتل كل من يختلف معهم؟
***
وهل من الإسلام، أو من الشيعة، الذين قالوا بإعفاء المؤمنين بهم من الصلاة والصيام والزكاة، وخدعوا الناس بروايات عن النبى صلى الله عليه وسلم محرفة، وكانوا يفسرون القرآن على غير حقيقته، وقالوا: إن الصلاة والزكاة سبعة أحرف وهى تدل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الإمام علىّ، والمعنى بالصلاة والزكاة ولاية الرسول والإمام على، فمن تولاهما فقد أقام الصلاة وآتى الزكاة، وقد شعر بعض ضعاف الإيمان بالراحة لمثل هذه التخاريف ووجدوا فيها ما يعفيهم من أداء الفرائض ويبيح لهم المحارم، وكان كل من يدخل فى هذه الطائفة يطلب الداعى منه قربانا، لكى يسأل له الله أن يحط عنه الصلاة ويضع عنه هذا الإصر، فإذا دفع المريد ما هو مطلوب منه سمح له الداعى بالتحرر من فريضة الصلاة، ويقرأ له قول الله تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم) ثم يقبل عليه أهل الدعوة الآخرون فيهنئون ويقولون له: الحمد الله الذى وضع عنك وزرك الذى أنقض ظهرك، ثم يرفع عنه تحريم الخمر والميسر، ويخبره الداعى إنهما رمزان لأبى بكر وعمر لمخالفتهما لعلىّ وظلمهما له وأخذهما الخلافة منه، أما الخمر الحقيقية فهى حلال، ويتلو قول الله تعالى: (قل من حرّم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق) وقوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) ثم يحل لهم أكل الميتة ولحم الخنزير بناء على التفسير المنحرف لهذه الآيات. أما الصوم فيفسره الداعى بأنه (الكتمان) ويتلو قول الله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ويفسر ذلك بأن المقصود هو كتمان الأئمة فى وقت الاستتار خوفا من الظلمة، ويستشهدون بقول السيدة مريم فى الآية الكريمة (إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) ويقولون: لو كان الله يقصد بالصيام ترك الطعام لقال: إنى نذرت للرحمن صوما فلن أطعم اليوم شيئا، فالصيام إذن هو السكوت عن الكلام. أما الطهارة فهى طهارة القلب عندهم، ويقولون إن المؤمن بدعوتهم طاهر بذاته، والكافر بدعوتهم نجس لايطهره الماء ولا غيره. ويفسرون قول الله تعالى: (فإن كنتم جنبا فاطهروا) بأنه (فإن كنتم جهلة بالعلم الباطن فتعلموه- والعلم الباطن هو حياة الأرواح، وهو كالماء الذى هو حياة البدن). ويفسرون قول الله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق) على أن ماء الرجل طاهر بذاته. ثم تأتى المرحلة الأخيرة- منتهى الأمر وغاية السعادة- فيتلو الداعى: (قل من حرّم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) ويقول: إن الزينة هنا هى: أسرار النساء التى لا يطلع عليها إلا المخصوصون، ويتلون قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) والزينة مستورة، ثم يتلو قوله تعالى: (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) فمن لم ينل الجنة فى الدنيا- فى نظر هؤلاء المخرفين المنحرفين-لم ينلها فى الآخرة.. وهكذا أباحوا النساء لأتباعهم.
وكم فى الكتب من انحرافات لا يمكن أن يصدقها عاقل.. وهى منسوبة إلى فرق من الشيعة.. والسذج يصدقون أن هذه الانحرافات يمكن أن يرددها مسلم.. ومع ذلك فقد كان هناك من يرددها فى زمن ما يريد بها إفساد عقيدة المسلمين والإساءة إلى الشيعة. ولا بد من الحذر من هذه المذاهب الفاسدة المفسدة، والشيعة أبرياء منها.
***
وفى الكتب حكايات أغرب من الخيال عن جماعات كانت تدّعى الإسلام وتدعى أنها من الشيعة وهى أبعد ما تكون عن ذلك.
فى كتاب الدكتور حسن إبراهيم عن تاريخ الإسلام السياسى وغيره من الكتب حكايات عن الحسن الصبّاح الذى أقنع أتباعه بأن السعادة والشقاء بيده، وأن المعصية هى معصيته هو وعصيان أوامره، وغير ذلك فليست هناك معصية، وكان أتباعه يعتقدون فى أنه نبى، بل إنه فى درجة أعلى من النبى، وإنه قادر على إدخال من شاء منهم الجنة التى وردت فى القرآن، وبالفعل كانت له حدائق ملأها بكل ما ورد فى القرآن من الفاكهة والأشجار والنخيل، وكان يقدم لأتباعه مخدرات يتناولونها ثم يحملونهم إلى تلك الحدائق، فإذا رأوا ما فيها- وهم فى حالة من غياب الوعى- أيقنوا بأنهم فى الجنة، ويعودون إلى زملائهم ليحدثوهم عما شاهدوا، فيزدادوا جميعا اعتقادا فى نبوته، بل فى ألوهيته! وقد استمرت دولة الصبّاح هذه بعد موته وانهارت على يد هولاكو!
***
قصص الغلاة والمتطرفين والمنحرفين كثيرة جدا.. تملأ مئات الكتب.. ومن أراد أن يسىء إلى الإسلام أو إلى الشيعة يأخذ من هذه الكتب ما يكفى ويزيد.. ومع الأسف، يحلو لبعض من يتصدوا للحديث أو الكتابة عن الشيعة أن ينقلوا عن هذه الفرق، ولا يفرقون بين الشيعة المعتدلة وبين الفرق المتطرفة والمنحرفة التى نسبت نفسها إلى الشيعة.
وعلى سبيل المثال نجد فى كتاب (غلاة الشيعة وتأثرهم بالأديان المغايرة للإسلام) للدكتور فتحى الزغبى أستاذ العقيدة بالأزهر فصلا كاملا عن تأثر بعض الفرق بالمجوسية، وكانت عقيدتهم معروفة فى الجزيرة العربية وأشار إليها القرآن الكريم، وكان المجوس يعبدون النار ويقدسونها، وكان الفرس يعبدون النار ذاتها بعد أن كانوا يعتبرونها رمزا للإله وفيها شىء من صفاته، وقد بقيت عبادة النار بعد أن دخل الإسلام بلاد فارس، وانتشرت بيوت النار فى الإمبراطورية الإسلامية، وحتى القرن العاشر الميلادى كانت معابد النار فى أنحاء بلاد فارس، ويقول المؤرخون: إن هذه المعابد كانت محترمة فى الدولة الإسلامية التى أطلقت الحرية الدينية فكانت هناك ديانات متعددة مثل المانوية، والمزدكية، والزرادشتية، والمجوسية، ويذكر الشهرستانى أن هؤلاء جميعا كانوا يمارسون طقوسهم فى حرية كاملة، وساعد هذا التسامح على بقاء مذاهبهم. وقد دخل بعض أصحاب هذه الديانات فى الإسلام وتظاهروا بالإيمان به وظلوا يؤمنون بعقائدهم فى الباطن، وكان دافعهم إلى ذلك إما التهرب من دفع الجزية، وإما الطمع فى تولى المناصب فى الدولة الإسلامية، وإما لرغبة فى إفساد العقيدة الإسلامية بالانتساب إليها والإساءة إليها من داخلها. وكانت هذه العقائد تبيح الكثير من المحظورات فى الإسلام فظل هؤلاء المنافقون متمسكين بعقائدهم وادعوا أنها من الإسلام وأنها من الشيعة.. وهذه العقائد والطقوس والممارسات مما يرفضها العقل لكنها مع ذلك وجدت من يستجيب لها، وفى كل عصر هناك من ينجذب إلى كل دعوة غريبة وشاذة.
المهم أننا حين نقرأ فى الكتب القديمة- والحديثة- عن فرق تنتسب إلى الشيعة ولها معتقدات تخالف مبادئ الإسلام يجب ألا نقع فى الخلط بينها وبين الشيعة المعتدلة.
والأهم أن نعرف أن الشيعة المعتدلين يتبرأون من هذه الفرق المتطرفة.
والأكثر أهمية أن نعرف أن معظم ما تذكره الكتب القديمة والحديثة عن فرق من غلاة الشيعة لم يعد لها وجود.. معظم هذه الفرق كانت فى الماضى وانتهت.. والقليل منها ما زال له وجود ولكن بعد أن غيرت الكثير من معتقداتها القديمة.
ما أريد أن أقوله: إننا يجب أن نكون فى منتهى الحذر عندما نقرأ عن فرق الشيعة.. ولا نأخذ كل ما يقال على أنه حقيقة.. فقد دخل فى صفوف الشيعة من ليس منهم.. وأساء إلى الشيعة خصومهم وأعداؤهم.. كما أساء إليهم بعض أنصارهم أيضا!.. ويجب أن نعرف ونتعامل مع الشيعة المعتدلين.. وهؤلاء مع السُنّة فى معسكر واحد
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف