لتصحيح صورة الإسلام فى بريطانيا
عدت من موسكو إلى لندن لقضاء بضعة أيام أتابع خلالها ما يجرى فى العاصمة البريطـانية، أعددت نفسى لإجراءات ومواقف سخيفة، كما تعودنا فى المطـارات الأمريكية، خاصة وقد قرأت كثيرا عن إنذارات بحوادث إرهابية، وبإعلان حالة الطوارئ فى المطـارات والشوارع والأماكن الحيوية فى لندن، ولكننى فوجئت بأن ذلك كله لا وجود له هناك.
كل شىء فى المطـار يسير كالمعتاد بالهدوء والأدب والنظـام تماما كما تعودنا من البريطـانيين.. والبوليس يتحرك بثقة وبهدوء ويبتسم لكل من يقابله من الغرباء، وقد يبادره بالتحية.. صباح الخير.. هالو.. والمحلات مزدحمة.. والعرب يملأون شارع اكسفورد أشهر الشوارع التجارية فى العالم، كما ينتشرون فى الأحياء العربية المعروفة التى لا تسمع فيها غير اللغة العربية باللهجات المختلفة، وغيرها من العواصم العربية..
وكنت قبل الرحلة واثقا من أن لندن هى المدينة رقم واحد فى العالم بالنسبة لارتفاع الأسعار، كما تقول الصحف وكتب السياحة، ولكننى وجدت أن موسكو وصلت فيها الأسعار إلى أرقام فلكية، ولم يعد لدى كل من تقابله سوى الشكوى من الغلاء وعدم القدرة على الوفاء بالالتزامات الضرورية.
المهم أننى قضيت أياما قليلة فى لندن شاهدت فيها الكثير وقابلت وتحدثت وقرأت.. وقبل أن أعود إلى القاهرة وصلت إلى لندن مجموعة من المفكرين المصريين تضم الدكتور أحمد كمال أبو المجد، والدكتور أسامة الباز، وفضيلة المفتى الدكتور على جمعة، والدكتور زغلول النجار لإجراء مقابلات وإلقاء محاضرات فى محاولة لتصحيح صورة الإسلام فى بريطانيا.
أولا: قبل وصول هذه المجموعة صدر تحذير من المسلمين البريطانيين من ظاهرة تزايد العداء والخوف من الإسلام والمسلمين، وهى الظاهرة المعروفة باسم (إسلاموفوبيا)، وأصدرت لجنة بريطانية شكلت لبحث مواجهة الإسلاموفوبيا تقريرا اعترفت فيه بتزايد حالات الاعتداء على المسلمين، ونشرت الشرطة البريطانية تقارير تشير إلى زيادة الحالات التى يتم فيها توقيف أبناء الأقلية الآسيوية، وأعلن عن السماح للحزب المعادى للمسلمين (الحزب القومى البريطانى) بالدعاية الانتخابية فى التليفزيون.
وظاهرة الإسلاموفوبيا تصاعدت فى بريطانيا منذ عام 1997 وفقا لما أعلنه المجلس الإسلامى البريطانى، وقد ذكر المجلس فى تقريره، ما يتعرض له المسلمون البريطانيون من (التمييز والتحيز والاعتداء والتحرش والحرمان) خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، وقد ازدادت حوادث الاعتداء على المساجد، وجاء فى هذا التقرير أن تجاهل هذه الحقائق يزيد من مشاعر الاحتقان ويمثل قنبلة زمنية يزيد من خطرها الشعور بالحرمان.
ونشرت الصحف البريطانية عن حالات الهجوم التى يتعرض لها المسلمون، وإلقاء قنابل حارقة على المساجد ورش الدهان على جدرانها، والبصق على النساء المحجبات أو إلقاء البيض عليهن، وذكر تقرير المجلس الإسلامى البريطانى أن الحرب فى العراق كان لها أثر سلبى على المسلمين البريطانيين، كما نشرت الصحف تصريحا للبارونة المسلمة أودين قالت فيه: إن علاقة حكومتنا باليمين المتطرف فى أمريكا أدت إلى وضع كل المسلمين فى العالم فى سلة واحدة، وأصبح مطلوبا من المسلمين جميعا الاعتذار عما قامت به جماعات متطرفة وليست لنا علاقة بها.
وفى التقرير أيضا أن القوانين الجديدة التى أصدرتها الحكومة لمكافحة الإرهاب كان معظم ضحاياها مسلمين، وأن قانون مكافحة الإرهاب الذى أصدرته الحكومة سنة 2001 وقانون الإرهاب الذى صدر قبله فى سنة 2000 كان لهما تأثير كبير فى خلق جو من الخوف، لأنها أدت إلى احتجاز مسلمين، وتجميد أموال جمعيات خيرية لا شأن لها بالإرهاب، مما أثر على العمل الخيرى وجعل المسلمين يترددون فى التبرع لأعمال الخير حتى لا يوصموا بالإرهاب. وقال التقرير أيضا: إن أكثر من 35 ألف مسلم تم توقيفهم من الشرطة حتى اللورد المشهور أحمد قال: إن الشرطة أوقفته مرتين أثناء سفره من مطار هيثرو، وقالت الصحف إن عدد المسلمين الذين اعتقلوا منذ عام 2001 ازداد بصورة واضحة.
ثانيا: أن الحال ربما يزداد سوءا، وكما ذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز يوم الاثنين 31 مايو الماضى، فإن الحكومة البريطانية تعتزم إدخال تعديلات ستؤدى- إذا صدرت- إلى تشديد الإجراءات القضائية فى قضايا مكافحة الإرهاب، وتشمل هذه الإجراءات المحاكمة فى جلسات سرية، والسماح للسلطات بالحد من حرية تنقل من تشتبه فيهم، وذكرت الصحيفة أن 562 شخصا اعتقلوا فى إطار قانون مكافحة الإرهاب، وأعلنت الجمعية الإسلامية البريطانية أن المسلمين البريطانيين وقعوا ضحية حملة مكافحة الإرهاب.
هذه كانت الصورة التى يعكسها الإعلام البريطانى عن صورة الإسلام وأحوال المسلمين البريطانيين فى بريطانيا غداة وصول مجموعة المفكرين المصريين.
ثالثا: ومع ذلك فإن الصورة ليست كلها قاتمة، ففيها مساحات مضيئة، فمصر تتمتع بوضع خاص باعتبارها الدولة الإسلامية التى قضت على الإرهاب، ونبهت إلى خطورته مبكرا جدا قبل أن تتنبه الدول الغربية، وهى أول من دعت إلى مؤتمر دولى للتعاون فى مكافحة الإرهاب، ومصر بلد الأزهر، والأزهر له فى العالم مكانة كبيرة واحتراما شديدا باعتباره قلعة الإسلام المعتدل والمحارب الصلب لكل الانحرافات والجرائم التى تدعى الانتماء للإسلام، وفى نفس الوقت فقد لمست شخصيا مدى الحرية التى يتمتع بها الزائر لبريطانيا، فلم يعترض طريقى أحد، ولم يضايقنى أحد بالسؤال أو الاستجواب، ولم أشعر أن وجوهنا الغريبة تثير الريبة فى أى مكان.
فى نفس الوقت لمست انقساما بين المثقفين البريطانيين.. قسم يعادى الإسلام وينشر أفكاره العدائية فى الجامعات ومراكز البحوث من أمثال برنارد لويس، وقسم يتفهم حقيقة الإسلام ويدافع عنه وينشر أفكاره أيضا فى الجامعات ومراكز البحوث وفى الكتب والأحاديث الصحفية من أمثال البروفيسور الفريد هوليداى.
ومعنى ذلك أننا إذا وجدنا تيارا معاديا للإسلام فى بريطانيا، فيجب ألا نغفل عن التيار المؤيد المتفهم، بحيث نتعامل مع التيارين معا، وندير الحوار معهما.
رابعا: لاحظت أن الجميع يشتكون من غياب الصوت العربى والإسلامى، ويقولون: إن الوفود الإسرائيلية تصل بالعشرات كل يوم، وتتصل بجميع الدوائر، فى الجامعات والمدارس ومؤسسات العبادة والصحافة، والتليفزيون والجمعيات، وتسافر إلى مدن قريبة وبعيدة وتعقد ندوات واجتماعات مع مفكرين وأساتذة جامعات وقيادات الإعلام، بينما لم يصل إلى بريطانيا أى وفد مصرى أو عربى أو إسلامى خلال السنوات الخمس الماضية، ولاشك أن مجموعة المثقفين التى زارت بريطانيا وصلت فى الوقت المناسب، وهى تضم عددا من الشخصيات المعروفة ذات الثقل المؤثر، ولكن هل تكفى خمسة أيام تقضيها فى لقاءات وحوارات لتغيير المفاهيم والأفكار النمطية عن الإسلام؟.
دون أدنى شك أن زيارة هذه المجموعة كانت مهمة جدا، رغم أن برنامجها كان يمكن أن يكون أفضل إذا ما نظمت لها لقاءات فى برامج تليفزيونية جماهيرية، وشاركت فى حوارات مع المعارضين والمؤيدين للإسلام،ووجدت الفرصة لمخاطبة الرأى العام ورجل الشارع العادى إلى جانب الحوار مع الصفوة وقيادات الرأى.
وهذا يعنى ألا تكون هذه الزيارة الأولى هى الأخيرة.. ولابد أن تستمر.. وأن يكون جسر التواصل دائما والحوار مستمرا بين مصر- قلعة الإسلام الحصينة- وبريطانيا- قلعة الحريات الدينية والمدنية والديمقراطية- ومن حسن الحظ أن بريطانيا- ليست مثل أمريكا- لم يسيطر عليها التيار اليمينى المتشدد، ودعاة الكراهية والتطرف.. فلماذا لا نزورها كثيرا.. وندعو أصحاب الرأى وقادة الرأى العام فيها لزيارتنا ليعيشوا معنا.. ويشاهدوا بأنفسهم سماحة الإسلام فى مصر.. ويتعرفوا أكثر على صورة الإسلام الحقيقية؟. *