ثـورة على الفســاد
فى كلمته عقب صلاة الجمعة فى أسيوط دعا الرئيس محمد مرسى الشعب المصرى إلى ثورة ثانية للقضاء على الفساد، وقال إن هؤلاء الفاسدين امتصوا دم الشعب عبر السنين الطويلة، ونبه إلى أن التركة ثقيلة من الفساد والظلم والعدوان على كرامة الناس وهو ما دعا المصريين إلى أن يقوموا بثورتهم.والحقيقة أن الفساد تغلغل وانتشر ولم يعد ممكنا القضاء عليه بالوسائل العادية، ويحتاج فعلا إلى «ثورة» تقوم بها الحكومة والشعب، لأن الحديث عن الفساد كان شائعا منذ سنوات قبل الثورة، ولم يكن أحد من المسئولين أو فى الأجهزة والمؤسسات الرقابية يستطيع أن يغالط وينكر الحقيقة.
ومنذ عام 2007 والحكومة وأجهزتها تعمل على إسكات الرأى العام الثائر على الفساد فى كل أوصال الدولة، وتعلن عن إجراءات لمحاربة الفساد ولا تنفذ شيئا منها، على الرغم من إعلان مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء فى عام 2007 عن نتائج دراسة أجراها كشفت عن انتشار الفساد بكل صوره فى كل المواقع وفى كل المحافظات وانتشار الشعور لدى المواطنين بعدم الثقة فى جدية الحكومة فى محاربة الفساد، وقال المواطنون الذين سئلوا إنهم يرون أن تقديم الرشوة والهدايا والإكراميات لم تعد من الأمور الغريبة، والموظف الصغير والمسئول الكبير يتصرفان فى المال العام لمصلحة كل منهما، والمجاملات والاعتماد على الوساطة والمعارف من الأمور الشائعة جدا لتخليص الإجراءات والحصول على الحقوق .. 75% قالوا إنهم قدموا بأنفسهم رشاوى وهدايا وإكراميات للحصول على حقوقهم.. و74% قالوا إنهم لجأوا أكثر من مرة إلى المعارف والوسطاء لتسهيل الإجراءات وبدون ذلك كان الحصول على الحق مستحيلا.. و65% قالوا إنهم يعرفون موظفين ومسئولين حققوا ثروات من المال الحرام.. و40%قالوا إنهم يعرفون موظفين يحتالون بطرق مختلفة لسرقة المال العام.
وفى سنة 2007 أيضا نشرت وزارة التنمية الإدارية تقريرا أعدته عن الفساد فى أجهزة الدولة وأعلنت عن إنشاء جهاز جديد اسمته «المرصد القومى لرصد الفساد».. وقالت فى هذا التقرير إن فى مصر 22 جهة مختصة بمكافحة الفساد، ولم تستطع القضاء عليه، ولهذا قررت إنشاء هذا «المرصد» الذى لن يكون بديلا عن جهات الرقابة الرسمية، ولن تكون للعاملين فيه صفة الضبطية القضائية،وسيكون عمله أن يقدم تقارير عن نتائج رصد كل مواقع العمل ويقدمها للجهات الرسمية.. وهكذا كانت المسألة «كلام فى كلام» كما قيل يومها.. وأكثر من ذلك أعلنت الحكومة عقب ذلك عن تشكيل «اللجنة القومية لمكافحة الفساد» وحددت مهمتها بوضع المعايير لقياس درجة انتشار الفساد (!) ورصد حالات الفساد، وتقديم مقترحات لمواجهة تزايد الفساد والتعديلات المقترحة للتشريعات القائمة لتشديد العقوبات، وإعداد مشروع للتوسع فى استخدام التكنولوجيا لتقليل التعامل المباشر بين الموظف والمواطن..
والغريب أن تقرير مركز المعلومات بمجلس الوزراء أعلن أن من أهم أسباب انتشار الفساد اختيار القيادات من أهل الثقة والمعارف والأقارب والأصهار وتولى المسئول الواحد الإشراف على أكثر من جهة، وإسناد الأعمال والمقاولات والتوريدات بالأمر المباشر أو بالممارسة المحدودة.. وهذا أيضا «كلام فى كلام» لأن ما قيل ظل فى دائرة القول ولم يتحول إلى فعل!
???
المشكلة لم تكن فى قلة عدد أجهزة الرقابة والمحاسبة والاحتياج إلى أجهزة ولجان جديدة لرصد الفساد.. ففى مصر ما يزيد على 12 هيئة يعمل فيها آلاف الخبراء ولها سلطات واسعة للبحث والتحرى والرقابة والضبط أهمها طبعا الجهاز المركزى للمحاسبات، وهيئة الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة، وجهاز أمن الدولة (الأمن الوطن الآن) وجهاز الكسب غير المشروع ونيابة الأموال العامة، وإلى كل ذلك تضاف الرقابة البرلمانية من مجلسى الشعب والشورى والمجالس المحلية والرقابة الشعبية فى الصحافة والإعلام.. كل ذلك واستمر الفساد يتحدى الأجهزة والمؤسسات والرأى العام.. كان الفساد هو الأقوى.. لأن الفساد كان يستند إلى سلطة الدولة!! وهذا ما جعل جهات الرقابة والمحاسبة مقيدة ولا تستطيع أن تحقق أو تحاكم فاسدا إلا بعد أن يأتيها الضوء الأخضر من (فوق)، وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك ترسانة من القوانين تحمى الفساد وتعطيه مشروعية.. بل تظهره أمام الرأى العام على أن ما يقوم به الفاسدون من إنجازات لصالح التنمية والاستثمار والمستثمرين، أما العمولات والرشاوى ونهب المال العام فهذا هو المسكوت عنه أو هو ما كان يعبر عنه الناس بقولهم «إن ما خفى كان أعظم».
???
أليس من المضحك أن الحكومات الفاسدة قبل الثورة لم تكن تنكروجود الفساد.. بل إن آخر هذه الحكومات عقدت مؤتمرا كان موضوعه (التقنيات الحديثة فى مجال الكشف عن الفساد) وكان هذا المؤتمر برئاسة رئيس الوزراء (الموجود فى السجن الآن) وشارك فيه الوزراء ورؤساء الهيئات الحكومية ورجال الأعمال وقيادات سياسية وأعضاء مجلسى الشعب والشورى (وبعضهم فى السجن الآن أيضا) وفيه أعلن رئيس الوزراء أن الحكومة لا تتستر على أى فساد أو انحراف، وتضرب بيد من حديد علىكل من يثبت أنه حصل على ربح بطرق غير مشروعة، وإن الحكومة قررت مواجهة الفساد بفكر جديد وشامل يستوعب جميع قطاعات المجتمع دون تفرقة بين كبير وصغير ولا أحد فوق القانون (!).
???
كان هذا الكلام أمام الميكروفونات ومندوبى الصحف وكاميرات التليفزيون وظل الناس بعدها يرون بعيونهم أن الفساد يزداد تغلغلا وانتشارا حتى وصل بالناس إلى درجة الانفجار.. ولذلك قامت الثورة.
والآن.. لم يعد يجدى النداء على الفاسدين ليصلحوا أنفسهم ويتوبوا ويتقدموا بأنفسهم تطوعا لإعادة المال الحرام الذى حصلوا عليه.
ولم يعد أمامنا إلا «ثورة» للتطهير واقتلاع الفساد من جذوره.
وهذا حديث آخر..