طه حسين فى مواجهة الاستبداد

عاش طه حسين - بحق - مناضلا من أجل الحرية، ومحاربا للاستبداد بكل صوره، ولــم يتردد فى المواجهة مع استبداد الاحتلال الانجليزى، واستبداد القصـــــر، واستبداد ودكتاتورية اسماعيل صدقى.. وقصة الخلاف بين طه حسين وإسماعيل صدقـــــى من أهم الفصول فى حياة طه حسين وقد تحمل فيها الطرد من الجامعة والمطاردة فى كل موقع آخر والإحالة إلى النيابة والمحاكم لمجرد التنكيل به.

وتاريخ إسماعيل صدقى حافل بالتناقضات، ففى عام 1925 كان من المؤيدين لحرية الفكر حتى إنه استقال وهو وزير من وزارة زيوار باشا احتجاجا على معاقبة الشيخ على عبد الرازق بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ولكنه بعد ذلك وهو رئيس للوزراء قرر فصل طه حسين من منصب عميد كلية الأداب ومن وظيفته كأستاذ بالجامعة وإحالته للمحاكمة بسبب كتابه «الشعر الجاهلى» على الرغم من أن معركة هذا الكتاب كانت قد هدأت.

ودور إسماعيل صدقى فى الحياة السياسية وفى الحركة الوطنية سنعود اليه فيما بعده ولكن ما يعنينا الآن هو العلاقة بينه وبين طه حسين.

والمؤرخون مجمعون على أن اسماعيل صدقى كان رمزًا للاستبداد السياسى وللدكتاتورية فى الحكم وأن ذلك ظهر بوضوح منذ شغل منصب وزير الداخلية فى حكومة زيوار باشا الموالية للإنجليز، وعلاقته بسلطات الاحتلال كما تكشف الوثائق والتقارير البريطانية ورسائل المندوب السامى البريطانى فى مصر إلى الخارجية البريطانية. وقد حارب اسماعيل صدقى معارضيه الوفديين فى جميع المواقع من الوزارات والمصالح والصحف حتى العمد والمشايخ فى الريف، وقام بالتدخل السافر فى انتخابات مجلس النواب إلى حد اتخاذ إجراءات تخالف الدستور والقوانين، ومنع انصار الوفد من حقهم فى الانتخاب، ولفق لأنصار سعد زغلول قضايا وعمل على ادانة محمود فهمى النقراشى فى قضية مقتل السردار البريطانى وسجله حافل بالعديد من ممارسات الاستبداد.

***


تفجر الخلاف بين اسماعيل صدقى وطه حسين فى سنة 1932 عندما قام صدقى باشا وهو رئيس الوزراء بإنشاء حزب استخدم فى إنشائه سلطة القهر والإكراه على العمد والمشايخ وعلى موظفى الحكومة وغيرهم من الطوائف واسماه «حزب الشعب» أراد أن يجعله السند السياسى لسياساته ولمحاربة المعارضة التى يمثلها حزب الوفد وهو حزب الأغلبية الشعبية فى ذلك الوقت بلا منازع.

وأراد صدقى إصدار صحيفة للحزب باسم «الشعب» كان يفرض على الجميع الاشتراك فيها، وأراد أن يسبغ الثقة والمصداقية على هذا الحزب الهش وعلى صحيفته الهزيلة فطلب من طه حسين أن يرأس تحريرها ويترك منصبه فى الجامعة على أن يحدد لنفسه الأجر كما يريد باعتباره أصلح من يقدر على إنقاذ الحزب والصحيفة، وكان طه فى ذلك الوقت قد صدر له قرار بأن يتولى منصب عميد كلية الأداب ولم يتسلم المنصب بعده كما كان يكتب مقالات فى صحيفة السياسة التى يرأس تحريرها الدكتور محمد حسين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين،وكان قبل ذلك يكتب فى «الجريدة» لسان حال حزب الأمة وتربطه صداقات بعدد كبير من اقطاب حزب الأمة القديم وكانت مقالاته من عوامل رواج كل صحيفة يكتب فيها ورفض طه حسين العرض الذى قدمه له اسماعيل صدقى. وأوغر ذلك صدر اسماعيل صدقى وهو الذى لا يعرف ولا يعترف بشىء اسمه حرية الرأى.

ولم يكن ذلك هو الموقف الوحيد الذى رفض فيه طه حسين طلبا لرئيس الوزراء المستبد، فقد عارض قبل ذلك وزير العارف فى حكومة صدقى وهو المشرف على الجامعة حين طلب من الجامعة منح الدكتوراه الفخرية لعدد من انصار إسماعيل صدقى (سميح ابراهيم باشا، وتوفيق رفعت باشا وعلى ماهر باشا) وأعلن طه حسين أن الجامعة لا تمنح ألقابها بأمر الوزير وطلب من الوزير علنا ألا يورط الجامعة فى السياسة ويبقى على الجامعة للعلم وحده وتراكم الغضب فى نفس اسماعيل صدقى عندما زار الملك فؤاد الجامعة وهتف الطلبة لعدلى يكن ولطه حسين وتجاهلوا رئيس الوزراء اسماعيل صدقى وحلمى عيسى باشا وزير المعارف وهما إلى جانب الملك فى هذه الزيارة واعتبر أن هذا كان من تدبير طه حسين!.

ليس هذا فقط، ففى هذه الزيارة ألقى وزير المعارف كلمة أمام الملك فؤاد وأعلن فى كلمته أن النية متجهة إلى منح عالم بلجيكى الدكتوراه الفخرية وكان يقصد بذلك إرضاء الملك - وكان هذا الإعلان دون استشارة مدير الجامعة ومجلس الجامعة فاعترض طه حسين على ذلك مما تسبب فى إحراج الوزير.

***

استاذة التاريخ الحديث الدكتوره صفاء شاكر تشير إلى هذه الوقائع وتضيف اليها أن البعض أرجع أسباب الخلاف بين إسماعيل صدقى وطه حسين إلى أن طه حسين كان يمثل رمزا للحرية الفكرية وحرية الرأى بينما كان إسماعيل صدقى يمثل الرجعية الفكرية التى اتصفت بها وزارته، لكن السبب الحقيقى للعداء هو رفض طه حسين الانضمام إلى حزب رئيس الوزراء ثم رفضه تولى رئاسة تحرير صحيفته أو الكتابة فيها فقد حاول إسماعيل صدقى مرة أخرى فأرسل إلى طه حسين من يقترح عليه أن يكتب المقال الافتتاحى فى الصحيفة على أن يحدد صدقى باشا موضوعها وأن تدور حول وجود حزب الشعب لتحقيق المصالح المصرية ورفض طه حسين فعرض صدقى باشا عليه أن يكتب فى الصحيفة بدون توقيع ورفض طه حسين أيضًا.

وردا على هذا الموقف من طه حسين عمل صدقى باشا على إعادة فتح ملف الأزمة حول كتاب «الشعر الجاهلى» وأثار الموضوع أحد أعضاء مجلس النواب من حزب الشعب وكان ذلك مقدمة لصدور قرار بنقل طه حسين من الجامعة إلى وزارة التربية والتعليم ثم صدر قرار آخر بفصله من وزارة المعارف، وكان قرار وزير المعارف (حلمى عيسى باشا) بنقل طه حسين إلى وزارة المعارف فى يوم 3 مارس 1932 نفس اليوم المقرر لتسلم طه حسين عمله عميدًا لكلية الأداب وهكذا حكم صدقى باشا على طه حسين بأن يحرم من مصدر رزقة.

***

ارسل طه حسين خطابا إلى مدير الجامعة (أحمد لطفى السيد) قال فيه إن قرار النقل يخالف شروط العقد الذى تم بين الجامعة والحكومة وتعهدت الحكومة فيه بأن يظل طه حسين استاذا فى كلية الأداب، وختم خطابه قائلًا : سأنفذ الأمر إحتراما لسلطات الحكومة ولكنى أرجو أن تعلم الجامعة أن هذا ليس نزولًا عن الحق على أن تتخذ الجامعة ما ترى من الإجراءات لاحترام هذا العقد.

واحتجاجا على هذا القرار قدم أحمد لطفى السيد مدير الجامعة استقالته ولجأ طه حسين إلى القضاء ودافع محامى الحكومة بأن النقل كان للصالح العام بعد أن اساء طه حسين إلى الدين الإسلامى بكتابه وكشف محمد على علويه باشا محامى طه حسين الأسباب الحقيقية وروى للمحكمة الضغوط التى مارسها صدقى باشا وأن النقل والفصل كان للتنكيل بطه حسين لرفضه الخضوع لإسماعيل صدقى والانضمام إلى حزبه بالاكراه وهو لا يؤمن بهذا الحزب، وصدر الحكم لصالح طه حسن.

فى هذه الأزمة حدث تحول فى حياة طه حسين وقف حزب الوفد إلى جانبه بحكم عقيدته المدافعة عن حرية الرأى ونتيجة لذلك اقترب طه حسين من حزب الوفد الذى كان يعارضه لكن صدقى باشا ظل يطارده فأحاله إلى النائب العام بتهمة القذف والسب فى حق رئيس الوزراء فى مقالين أحدهما فى جريدة (الجهاد) والثانى فى (الأهرام) ومع ذلك ظل طه حسين صامدا يكتب مقالات نارية فى صحيفة السياسة فى الهجوم على إسماعيل صدقى وحكومته وسياساته القمعية وكانت الصحيفة تطلق على حزب الشعب إسم (حزب اليأس والمصالح الشخصية) وتقول إن أعضاء هذا الحزب ليسوا أصحاب عقيدة ولا يبحثون عن مصلحة وطنهم ولكنهم يبحثون فقط عن مصالحهم وتهاجم مواقف وقرارات صدقى باشا التى تتعارض مع المصالح الشعبية.

ولأنه لا يصح إلا الصحيح... ولأن فى مصر قضاء له تاريخ.. فقد انتهى التحقيق مع طه حسين إلى قرار النيابة بالحفظ.. وبقى طه حسين قلما شامخًا.. وذهب إسماعيل صدقى إلى حيث لا يذكره أحد بخير!.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف