أفكار غريبة أساءت إلى الشيعة وعقائد غير إسلامية اخترقت الإسلام
 مشكلة الشيعة أنها تمثل المعارضة لأهل السُنّة فى بعض الأمور، وأن تلك المعارضة -أو الاختلافات- كانت إغراء لأصحاب الديانات الأخرى الذين دخلوا فى الإسلام - نفـاقا - لأنهم وجدوا أنهم بانضوائهم تحت عباءة الإسلام يستفيدون أكثر.. ووجدوا فى اختلافات الشيعة منفذًا لدس أفكارهم وعقائدهم التى كانت فى حقيقتها غريبة على الشيعة.. وغريبة على الإسلام! ولكنهم- بعد ذلك- أصبحوا محسوبين على الإسلام، ومحسوبين على الشيعة، وصار كل من يريد الهجوم على الشيعة أو على الإسلام يستشهد بأقوالهم، ومع أن معظم هذه الفرق اندثرت، ولم يعد لمعظمها وجود فى الوقت الحالى، وما بقى منها ليس سوى مجموعات صغيرة وهامشية ومرفوضة من التيار العام للشيعة، وليس لها مكان بينهم بأى حال من الأحوال. إلا أن البعض ينقب من الكتب القديمة لإحياء أفكارها وتقديمها وكأنها أفكار الشيعة اليوم.
يذكر المؤرخون القدامى كيف دخل المتطرفون من الديانات الأخرى فى الإسلام، وينقل الدكتور على سامى النشار عن كتاب ابن أبى الحديد (شرح نهج البلاغة).. كيف أن العرب قبل الإسلام كانت فيهم جماعات تعتنق بقايا دين إبراهيم، وكان هناك أقوام من العرب دخلوا فى اليهودية، ودخل آخرون فى الديانة النصرانية، وتزندق منهم قوم فقالوا بالثنوية (أى الثنائية: إله للخير وإله للشر) وتزندق حجر بن عمرو الكندى، ويعلق الدكتور النشار على ذلك بأن الثنوية إذن كانت موجودة فى قبيلة كندة، وقد سكنت قبيلة كندة بعد ذلك الكوفة، وفى هذه القبيلة نشأ الغلو الشيعى، وكان أخطر الزنادقة أبو سفيان الأموى عدو الإسلام العتيد، بل إن مسيلمة المتنبئ الكذاب تأثر بالثنوية أيضا، وقد طاف مسيلمة فى الأسواق حيث كانت تعرض مختلف الأفكار والعقائد والملل، وكانت الأسواق فى ذلك الزمان مثل حديقة هايد بارك البريطانية الشهيرة التى يقول فيها كل من يشاء كل ما يريد دون حرج أو خوف.
وفى الكوفة أيضا سكن كثيرون ممن ارتدوا عن الإسلام، ثم عادوا وأسلموا، وبعضهم انضم إلى مسيلمة الكذاب، وتابعوه على أنه نبى (!)، وباختصار فإن الأفكار والعقائد والملل الغريبة الشاذة كانت موجودة رغم انتشار الإسلام والمسلمين.. بل إن الزندقة والسحر والمجامع السرية كانت موجودة، وإلى جانب هؤلاء كان أصحاب الديانات الأخرى يرقبون بكراهية سيادة العرب القادمين من الصحراء بعقيدة بسيطة وسهلة يسيطرون بها على الأكاسرة والقياصرة، فماذا يُنتظر منهم؟.. لقد انتظروا كل فرصة لتمزيق صفوف المسلمين وتفريق كلمتهم، وكان النزاع بين الأمويين والهاشميين فرصتهم، وكانت بداية الغلو فى عقائد الشيعة غلوا فى الحب أنتج الأساطير حول الإمام علىّ وأبنائه، وبعد ذلك انقسم شيعة أهل البيت إلى عدة أقسام مثل غلاة الهاشمية: أتباع أبى هاشم بن محمد بن الحنفية – وغلاة الإمامية: أتباع أبناء السيدة فاطمة الزهراء (الحسن والحسين)، وغلاة الجعفرية: أتباع جعفر بن أبى طالب، وغلاة العباسية: أتباع أبناء العباس بن عبد المطلب (عم الرسول)، والأساطير التى نسجوها حول هؤلاء لم تكن سوى تكرار لما فى الديانات والعقائد والملل الأخرى التى كانت موجودة قبل الإسلام، ويقول الشهرستانى فى كتابه الشهير (الملل والنحل): الغالية هم الذين غلوا فى حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخلقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية، فربما شبهوا واحدا من الأئمة بالإله، وربما شبهوا الإله بالخلق، وهم على طرفى الغلو والتقصير.. ويفسر ذلك بقوله: (وإنما نشأت تشبيهاتهم من مذاهب الحلولية (أى أن يحل الإله فى إنسان) ومذاهب التناسخية (أى أن تحل روح إمام فى إمام بعده)، ومذاهب اليهود، إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق، وفسرت هذه المشبهات فى أذهان الشيعة الغلاة حتى حكمت بأحكام الألوهية فى حق بعض الأئمة، ثم انتقل التشبيه والتجسيم إلى فريق من أهل السُنّة والجماعة)، ثم يعدد الشهرستانى بعض فرق من غلاة الشيعة فى عصره، ومنها فرق غريبة لم يعد لها وجود فى عصرنا على الإطلاق، ويرى أن فكرة التناسخ بين الأئمة التى يؤمن بها بعض غلاة الشيعة مصدرها المجوس وهى موجودة فى الديانة المجوسية، ومصدرها أيضا البراهمة فى الهند والصابئة، والفلاسفة، وهؤلاء قالوا: إن الله بكل مكان، ناطق بكل لسان، ظاهر فى كل إنسان، وهذا هو مذهب وحدة الوجود..
***
هنا نصل إلى النقطة الأساسية للخلاف بين السُنّة والشيعة، وإلى النقطة الأساسية التى تفصل بين الشيعة المعتدلين وغلاة الشيعة، وهى فرق تجاوزت حدود الشريعة باسم الشريعة، وأساءت إلى الشيعة باسم الشيعة، وأصبحت محسوبة على الشيعة، ويحلو لكثير ممن يتناولون أمور الشيعة أن يستعرض الآراء الغريبة لهؤلاء الغلاة، ويظن - أو يعمل ماكرا على الادعاء - بأن هؤلاء هم الشيعة، والحقيقة أن هؤلاء أساءوا إلى الشيعة وإلى الإسلام.
فلن يعارض أحد فى اتجاه الشيعة عموما إلى الغلو فى حب الإمام علىّ والحسن والحسين وآل البيت عموما ونسلهم إلى يومنا هذا، ولكن المعارضة تبدأ عندما تنسب بعض الفرق من غلاة الشيعة النبوة أو الألوهية إلى واحد من هؤلاء، أو القول بأن الله اختصه بالعلم بما كان وما سيكون، والله أخبرنا بأنه هو وحده الذى يعلم الغيب، فإذا قيل إن الأئمة يعلمون أيضا ما كان وما هو كائن وما سيكون فى الغيب فإن ذلك ليس إلا سعى جماعات أو فرق خطيرة علنية وسرية لها هدف خبيث لهدم عقيدة الإسلام الصحيحة، وتمزيق الكيان الإسلامى، وإشعال الخلافات بين المسلمين، بحيث تبقى هذه الفتنة على مر السنين تشغل المسلمين عن أمور دينهم ودنياهم، أما الشيعة المعتدلون فهم موضع احترام أهل السُنّة، ولم يستنكر علماء أهل السُنّة والجماعة حركة التوابين من الشيعة.. بل إن الإمام الأكبر أبى حنيفة النعمان عالم الإسلام كان يؤيد زيد بن على فى خروجه على بنى أمية وكان يمده بالمال والمساعدة، ولم يكن أبو حنيفة شيعيًا.. بل كان أكبر أئمة السُنّة، كذلك كان الإمام الشافعى وهو أبعد الناس عن التشيع يقول:
لو كان رافضا حب آل محمد
فليعلم الثقلان أنى رافض
وهكذا - كما يقول أستاذى الدكتور على سامى النشار- فإن حب آل البيت لا ضير فيه، ولكن الغلو هو الذى أدى إلى أخطر النتائج فى المجتمع الإسلامى، وأدى كذلك إلى أخطر النتائج فى تشويه صورة عقائد الشيعة، وأعطى لأعدائهم الفرصة لمعاداتهم، وللحرب عليهم.
***
ولمن أراد أن يعرف كل شىء عن الفرق المتطرفة والمشبوهة التى انتسبت للشيعة، والتى يستشهد بآراء بعضها الذين يهاجمون الشيعة، فإن فى كتاب الدكتور على سامى النشار (نشأة التشيع وتطوره) الكثير.. وطبعا هناك أشهر كتاب عدائى للشيعة هو كتاب (الملل والنحل) للشهرستانى الذى يأخذ أعداء الشيعة منه أقوال الغلاة والمتطرفين من فرق الشيعة وينسبونها إلى جميع فرق الشيعة دون تفرقة بين فرق الشيعة المعتدلة وفرق غلاة الشيعة.
من أمثلة غلاة الشيعة: غلاة الكيسانية الذين ابتدعوا تفسير القرآن على الطريقة الشيعية لتخريج أفكار شبيهة بأفكار الملل الوثنية والديانات الأخرى، وهم الذين ابتدعوا فكرة العلم السرى بالغيب الذى يتميز به نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أيضا الذين ابتدعوا فكرة الرجعة أى رجوع الأئمة إلى الحياة مرة أخرى، وذلك عندما مات إمامهم أبو هاشم بن محمد الحنفية أعلنوا أنهم (فى التيه) لا إمام لهم ولا مرشد، وأن الإمام علىّ أوصى بالإمامة إلى الحسن، والحسن أوصى إلى الحسين، وأوصى الحسين إلى محمد الحنفية، فكان كما يقولون: هو (العلم والمقنع) ثم انتقلت الإمامة إلى ابنه عبد الله أبى هاشم، ولم يكن له أبناء، فلما مات دون أن يوصى بالإمامة لأحد من أهله قال أنصاره: إن الإمامة عادت إلى أبيه الميت الذى سيعود حيًا ويساعد الناس على الخروج من التيه الذى هم فيه،وفكرة أنهم فى التيه هى من وحى اليهود، وهم أول من قالوا بأنهم فى التيه وظلوا يؤمنون بذلك ويرددونه حتى العصر الحديث، وفكرة اليهودى التائه معروفة ومشهورة، وهكذا قالت هذه الفرقة: إن (المهتدى) لم يمت ولكنه اختفى، وأنهم بسبب غياب الإمام لا يجدون من يرشدهم إلى ما هو حق وما هو باطل، أو ما هو صواب وما هو خطأ، وبناء على ذلك قالوا بفكرة جديدة أشد غرابة هى (رفع التكاليف) أى التحلل من أوامر الشريعة ونواهيها.
قالوا: إن محمدًا بن الحنفية لم يمت، وأنه موجود فى منطقة تسمى (جبل رضوى) وعنده عين ينبع منها الماء وعين ينبع منها العسل يأخذ منهما رزقه، وعن يمينه أسد وعن يساره نمر لحمايته من أعدائه، إلى أن يحين وقت خروجه وهو الإمام المنتظر. وهكذا ظهرت فكرة خلود الإمام وعودته.
كل هذه (التخاريف) لم تكن فقط كل ما يقوله أتباع هذه الفرقة، ولكن ظهرت فيهم طائفة ثانية هى (الحربية) أتباع عبدالله بن عمرو بن حرب الكندى وهو من قبيلة كندة، وكان فى البداية من فرقة أبى هاشم ثم انشق، أو استقل، وادعى أن الوصية أخرجت أبى هاشم من الحق فى الإمامة وانتقلت إليه.
وكان من أخطر الزنادقة الذين أسسوا الغلو الشيعى أبو سفيان الأموى عدو الإسلام العتيد، وفى هذا العصر انتشر فى الكوفة السحر والزندقة والمجامع السرية، وفيه أيضا ظهر العداء من أصحاب العقائد الوثنية للعرب القادمين من الصحراء بعقيدة بسيطة يملكون بها الممالك ويهزمون الأكاسرة والقياصرة، وهؤلاء المتربصون بالإسلام ظلوا فى انتظار الفرصة لتمزيق الجماعة وتشتيت جهود المسلمين فيما لا يجدى ولا يفيد، ووجدوا فرصتهم فى الخلاف بين السُنّة والشيعة، أو بين الهاشميين والأمويين.
ومن الغريب أن يظهر فى هذا العصر رجل مثل ابن سمعان التميمى ليروج لفكرة أن الإمام مقدس وأن وكيله فى منزلة النبى(!) وأن الإمام يحل فيه جزء إلهى، ويروج أيضا إلى التفسير الباطنى للقرآن، تخــرج عن ظاهــر النـص، وتضيف إليه ما ليس فيه، إلى حد أن ابن سمعان فسر قول الله تعالى (هذا بيان للناس وهدى) على أنه هو البيان والهدى. وقال إنه مذكور فى القرآن، وكان يردد (أنا البيان وأنا الهدى والموعظة)، وقد استمر هذا النوع الغريب من التفسير لدى بعض الفرق، واستمر فى العصر الحديث عند البهائية والبابية. وقد أعلن ابن سمعان أنه نبى، وأرسل إلى الإمام الباقر أبى جعفر محمد بن على بن الحسين يدعوه إلى الإيمان بنبوته، ويقول له: أسلم تسلم، فإنك لا تدرى أين يجعل الله النبوة والرسالة. وهكذا اشتد خطر هذا الرجل على العقيدة الإسلامية بعد أن اجتمعت طائفة من أهل الكوفة على الإيمان بمذهبه، إلى أن قتله حاكم الكوفة، وبعد مقتله ادعى أتباعه ألوهيته (!).
وهذا الرجل هو الذى أدخل التفسيرات الغريبة للآيات التى يحلو للبعض أن يرددها على أنها أفكار الشيعة، والشيعة بريئة منها، مثل قوله إن روح الله دارت فى الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى الإمام علىّ ثم إلى محمد بن الحنفية، ثم صارت إلى ابنه أبى هاشم، ثم حلت بعده فى ابن سمعان، وبذلك استحق أن يكون إمامًا وخليفة بما فيه من الجزء الإلهى الذى استحق به آدم سجود الملائكة (!) وبهذه الأفكار تكونت (الفرقة السمعانية) التى يحسبها البعض على الشيعة. وهؤلاء هم الذين اخترعوا فكرة (الاسم الأعظم) وكان ابن سمعان يزعم أنه هو الذى يعرف (الاسم الأعظم) ويزعم أنه قادر على هزيمة الجيوش، وأنه يدعو الزهرة بالاسم الأعظم فتجيبه.
كل هذه أفكار بعيدة عن جوهر الإسلام وعن جوهر الشيعة، ومع ذلك فقد نسبت نفسها للشيعة، واتخذها البعض وسيلة للهجوم على الشيعة، والادعاء بأن هذه هى أفكار وعقائد الشيعة عموما، وهذا غير صحيح.
***
يحدثنا الدكتور على سامى النشار عن شخصية غريبة أخرى لا يكاد أحد يصدق أنه كان يتمتع بالعقل فعلا، اسمه أبو منصور العجلى المقتول فى سنة 121 هجرية، وكان فى بدايته من المقربين إلى الإمام محمد الباقر وكان يتقن اللغة الفارسية، وبعد وفاة الإمام محمد الباقر اختلف مع الإمام جعفر الصادق وأعلن نفسه إماما، وقال إن آل النبى هم السماء، والشيعة هم الأرض، وأنه هو الصلة بين الاثنين، وقال أيضا إنه عرج به إلى السماء فمسح الله على رأسه، وكلمه الله باللغة السريانية وقال له: (أى بنى، أنزل فبلغ عنى) ثم أنزله الله على الأرض، فهو الكسف الساقط من السماء كما جاء فى القرآن: (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مرقوم)، وادعى أيضا أنه هو (الكلمة).
وأعلن أن النبوة لا تنقطع أبدا وأنها متجددة دائما، وأن عليًا بن أبى طالب كــان نبيًا ورســـولاً! وكـذلك الحسن والحسين، وعلـى بــن الحسين، ومحمــد بن على، إلى أن تصل السلسلة إليه فهو أيضا نبى ورسول، وستكون النبوة بعده لأبنائه. وادعى أن الوحى يأتيه (!) وأن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالتنزيل، وبعثه هو بالتأويل، ومن هذا التأويل قوله بأن الجنة التى ورد ذكرها فى القرآن عبارة عن رجل أمرنا الله باتباعه هو الإمام، أما النار فهى رجل أمرنا الله بمعاداته هو خصم الإمام، واستمر فى تأويل المحرمات التى ورد ذكرها فى القرآن على أنها رجال أمرنا الله بمعاداتهم، وتأويل الفرائض كلها على أنها أسماء رجال أمرنا الله بموالاتهم، وأن من يظفر بالرجل (الإمام) ويعرفه، يسقط عنه التكليف، ويكون قد وصل إلى الجنة وبلغ الكمال (!) ويذكر عن هذا الرجل أنه استحل النساء والمحارم، وأحل ذلك لأصحابه، وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر -وغيرها- حلال ولم يحرمها الله (!) وأنها فى الحقيقة أسماء رجال حرم الله اتخاذهم أولياء، وادعى أن تأويل ذلك قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا). وبعد ذلك أعلن أبو منصور هذا ما أسماه (الجهاد الخفى) وهو خنق وقتل كل من يخالفه فى مذهبه، وقال لأصحابه: (من خالفكم فهو كافر مشرك فاقتلوه فإن هذا جهاد خفى).
يقول الدكتور النشار: إن آراء أبى منصور العجلى هذا كان لها أكبر الأثر فى مجتمع الكوفة فى زمنه ثم فى مجتمع الشيعة عامة، خاصة إعلانه فتح باب الوحى وعدم انقطاع الوحى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الوحى متجدد والنبوة مستمرة لا تنقطع، ومهد بذلك لمذهب غلاة الإسماعيلية، ثم البهائية فى العصر الحديث. كما أنه فتح باب التأويل الذى دخلت منه فرق عديدة، ونسخ الشريعة الإسلامية بالتأويل، وأقام المجتمع المتحرر المتجرد من كل الشرائع، ووضع فكرة المعراج الروحى، وأخيرا أعلن أنه هو (المسيح الثانى)! أما دعوته إلى خنق المخالفين له فقد أدت إلى قيام أتباعه بتكوين فرقة عرفت باسم (الخناقين). ولهذا قتله والى الكوفة، وبعده تولى ابنه قيادة فرقة الخناقين ونشر بها الذعر فى العالم الإسلامى، وأعلن ابنه أنه هو أيضا نبى واستجاب له عدد غير قليل إلى أن قتله الخليفة المهدى.
هكذا تسللت أفكار غريبة من عقائد وديانات مختلفة بعيدة عن الإسلام وتكونت فرق تؤمن بها،وصارت هذه الفرق محسوبة على الشيعة. والبعض يردد هذه العقائد الغريبة على أنها عقائد الشيعة عموما. وهذا هو الخطأ الذى حدث وترتبت عليه نتائج خطيرة أبسطها الشرخ الذى حدث بين السُنّة والشيعة المعتدلين بينما تجمعهم أسباب كثيرة من الإيمان بالأصول وعدم الاختلاف على شىء منها.
***
ومن الأفكار الغريبة التى نقلوها عن عقائد وثنية قديمة أفكار رجل اسمه عبدالله بن معاوية الذى ادعى أن الله نور، وأنه هو هذا النور، وقال: من عرف الإمام فليصنع كما يشاء. وبهذه الإباحية جذب إليه الشواذ، فأقام مجتمعا إباحيا، ولم يتبعه الشيعة الحقيقيون، وقتله الحاكم الأموى، وكانت آراؤه تتلخص فى أن الله نور، وأن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص، وأن روح الله تناسخت، كانت فى آدم، ثم دارت فى الأنبياء إلى أن انتهت إلى الإمام علىّ، ثم دارت فى أولاده حتى وصلت إليه (عبد الله بن معاوية)، ولهذا فإن فيه الألوهية والنبوة معا، وهو يعلم الغيب، والعلم ينبت فى قلبه، وأما الثواب والعقاب فهما من نصيب الإنسان أو الحيوانات، والتناسخ يكون فى الدنيا، والعقاب فى هذه الأشخاص، وتأويل قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) أن من وصل إلى الإمام وعرفه ارتفع عنه الحرج فى جميع ما يأكل، ووصل إلى الكمال، وقالوا إن تناسخ أرواحهم جعلتهم مع نوح عليه السلام فى السفينة، فهم (أصحاب السفينة)، وهم مع كل نبى فى عصره وزمانه، وهم مع النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا فهم أصحاب الرسول) ويزعمون أن أرواحهم فيه، ويتأولون الحديث الشريف: (إنما الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف) فيقولون: (نحن نتعارف كما قال الإمام علىّ عليه السلام وكما روى النبى صلى الله عليه وسلم) ويقولون إنه على قدر طاعة الإمام يكون تناسخ الروح، فمن أخلص فى طاعته فتكون روحه فى الدواب التى تحظى بالرعاية مثل خيول الحكام التى تحظى بالسروج المحلاة، ومن لا يخلص فى طاعته للإمام تدب روحه فى دواب ضالة أو مهملة، وتبقى الأرواح تتناسخ فى الحيوانات ألف سنة، ثم تعود إلى صورة الإنسان مرة أخرى، وهذا امتحان لها على مدى طاعتها للأئمة (!)
أما الكفار والمشركون والمنافقون والعصاة، فينتقلون فى أجسام مشوهة عشرة آلاف سنة..
أفكار كثيرة غريبة، لا معقولة، لا يمكن أن يرددها عاقل ولا أن يصدقها من لديه أبسط معرفة بالإسلام، ومع ذلك فقد آمن بها البعض، وادعوا أنهم من فرق الشيعة، وحتى بعد أن قتل عبد الله بن معاوية استمرت هذه الأفكار يرددها عبد الله بن الحرث الذى أباح لأنصاره الخمر والميتة والزنا وسائر المحرمات، وأسقط التكاليف والعبادات.. فرق كثيرة رددت أفكارا غريبة عن الإسلام.. أفكار منقولة من عقائد وديانات وثنية. ووصل الأمر إلى حد ظهور فرقة اسمها (الجناحية) مهدت السبيل لرجل اسمه بابك الخزمى وصل إلى آخر ما يمكن الوصول إليه من الإباحية واستحلال قتل المسلمين، وقد سادت فترة من الزمن فى عهد العباسيين.
إذن فإن فكرة استحلال قتل المسلمين لها جذور فى هذه الفرق الغريبة التى تدعى أنها فرق إسلامية (!)
***
ويحدثنا الدكتور النشار عن شخصية تمثل أبشع صورة من صور الغلو، أقلقت مضجع الدولة، كما أقلقت الإمام جعفر الصادق- إمام الشيعة المعتدلين- الذى كان يلقى دروسه فى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فى المدينة. أما هذه الشخصية فهى شخصية أبى الخطاب الأسدى (المقتول سنة 138 هجرية) وقد نشأ فى الكوفة، وتردد على الإمام جعفر الصادق وأخذ عنه، ثم ادعى أن الإمام جعفر الصادق قال له: أصبحت غيبة علمنا، ومعدن سرنا، ومجمع أمرنا ونهينا، ومؤدب المؤمنين بأدبنا، أنت الباب الذى يؤدى إلى علمنا، وفيك ينبأ علم التأويل والتنزيل وباطن السر وسر السر..!! وقيل: إن هذه الأقوال عرضت على الإمام جعفر الصادق نفسه فكذبها وأنكرها، بل يذكر أن الإمام جعفر الصادق قال عنه: (اللهم العن أبا الخطاب، اللهم أذقه حر الحديد)
ولكن أبا الخطاب حين عاد إلى الكوفة نشر مبادئه وكوّن فرقة التفت حوله وآمنت بدعوته، وكان الرجل على مهارة وذكاء ودقة فى تنظيم الدعوة، فكان يدعو فى البداية باسم الإمام جعفر الصادق، وينسب العلم بالغيب إلى الإمام جعفر الصادق، فلما تبرأ منه الإمام جعفر الصادق ولعنه، وأعلن رفضه لنسبة العلم بالغيب إليه، بعد ذلك تحول أبو الخطاب إلى ادعاء النبوة، واستحل المحارم كلها ورخص فيها، وكان أصحابه كلما ثقل عليهم أداء فريضة سألوه وقالوا: يا أبا الخطاب خفف علينا، فيأمرهم بترك الفريضة! حتى تركوا جميع الفرائض! وأباح لهم أن يشهد بعضهم لبعض بالزور، وقال: من عرف الإمام فقد حل له كل شىء كان محرما عليه. وادعى أنه يعرف الاسم الأعظم لله، ثم ادعى النبوة، ثم ادعى أنه من الملائكة وأنه رسول الله إلى أهل الأرض والحجة عليهم!
هكذا وصل الأمر بهذا الرجل الذى ادعى الإسلام، وادعى أنه ممثل لإمام الشيعة المعتدلين جعفر الصادق، وصل به الأمر إلى أن أحل الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وترك الصلاة والصيام والحج، وإباحة الشهوات بعضهم لبعض، وأمر أصحابه: من سأله أخوه أن يشهد له على مخالفيه فليشهد له فإن ذلك فرض واجب، وأساء تفسير الآية الكريمة (يريد الله أن يخفف عنكم) على أن المقصود بها التخفيف بترك الصلاة والزكاة والحج لكل من عرف الإمام!
مثل هذا المجتمع الباطن السرى الإباحى الذى نظمه أبو الخطاب كيف ينسب إلى الإسلام وإلى الشيعة، وقد وصل به الأمر إلى القول بأن الأئمة هم أنبياء، ثم انتهى به الأمر إلى القول: أن الأئمة آلهة!
وزعم أن جعفر الصادق هو الإله فى زمانه! وأنه نزل إلى هذا العالم فى صورة إنسان ليراه الناس! ونشر فى أتباعه فكرة ملخصها أنهم المقصودون بقول الله تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين) فقال إن المقصود آدم، ونحن-الخطابية- أولاده، وقيل إن الخطابية عبدوا أبا الخطاب، وزعموا أنه إله، وزعموا أن جعفر الصادق هو الآخر إله إلا أن أبا الخطاب أعظم منه وأعظم من الإمام علىّ ذاته، وادعى أبو الخطاب إنه يمكن أن يظهر فى أية صورة شاء، وروى أصحابه عنه الأساطير ومنها أن رجلا سأله وهو فى المدينة فأجابه ثم انصرف ليظهر فى الكوفة.
كل ذلك نجده فى الكتب القديمة، هل هو صحيح أو مبالغات؟
الدكتور النشار يشكك فى صحة هذه الحكايات التى تروى عنه، رغم أن البعض يتمسك بها ويرويها على أنها أفكار الخطابية، وقد يزيدون من عندهم أن هذه أفكار الشيعة، أما الدكتور النشار فيرى أن أبا الخطاب الأسدى هذا كان له مقام كبير فى تاريخ الشيعة الغلاة والإسماعيلية، وإن كانت هناك فرق أخرى قد ظهرت تنتسب إليه وتردد هذه الأفكار الغريبة عن الأئمة والنبوة والألوهية والعلم بالغيب.
***
وكل من يريد الإساءة إلى الإسلام وإلى الشيعة ينبش فى بطون الكتب ويردد ما فيها من أحاديث أشخاص وفرق غريبة تشبه ما يظهر فى عصرنا الحديث من فرق شاذة، ولعلنا نذكر الجماعات التى ظهرت فى الولايات المتحدة وادعى زعماؤها أنهم أنبياء وآلهة، ووضعوا لاتباعهم صلوات وطقوساً خاصة بهم، بل وفرض أحدهم على أتباعه أن يحرقوا أنفسهم ليتطهروا من دنس الحياة الدنيا واحترقوا فعلا.. وما أكثر ما يذكر التاريخ القديم والحديث فى القارات الخمس من أمثال هذه الفرق الغريبة.
ولكن لماذا التركيز على الشواذ الذين نسبوا أنفسهم إلى الإسلام وإلى الشيعة وحدهم؟ هذا هو السؤال الذى يحتاج إلى إجابة.
ولمن يريد أن يعرف أكثر عن هذه الفرق وأمثالها أن يعود إلى كتاب الدكتور النشار ففيه تفصيلات تفوق الخيال وتدل على أن الإسلام تعرض لغزوات ومؤامرات وتضليل أكثر مما نتصور..ومع ذلك فإن الله صدق وعده.. هو الذى أنزل الذكر الحكيم.. وهو الذى تكفل بحفظه.. ووعد بحماية دينه الحق من كل كيد وانحراف.
***
يظلم الإسلام من يحسب هذه الفرق على الإسلام، ويظلم الشيعة من يحسبهم على الشيعة، وإنما هم جماعات تظهر فى كل الأديان، وفى كل العصور، لا يرضيهم الإيمان البسيط، ويسعون إلى أفكار غريبة وأسطورية وبعيدة عن العقل، ويجدون الإغراء فى غرابة هذه الأفكار ويجذبون بها أمثالهم من الباحثين عن الأفكار الغريبة والمعتقدات الغريبة.
وفى نفس الوقت يجب ألا ننسى أن هناك كثيرين من أصحاب الديانات والعقائد المخالفة للإسلام دخلوا فى الإسلام وبعضهم اعتنق الإسلام بقصد محاربته وتخريبه من الداخل، وبعضهم أسلم ولكنه ظل – ربما بحسن نية – محتفظا بمعتقداته الدينية الغريبة أراد أن يوفق بين الإسلام وبين هذه العقائد فنشر أمثال هذه الأفكار التى كانت مسخا للإسلام، وإساءة إليه حتى ولو بحسن نية.
ومع ذلك يجب أن نظل متذكرين أن هذه الأفكار لم تعد منتشرة، وهى تنتمى إلى الماضى، وإن كان البعض يجب أن يستخرجها من الكتب القديمة للإساءة إلى الإسلام وإلى الشيعة، أمـا بقية الفرق التى تعتبر من غلاة الشيعة والتى ما زالت باقية فهى فلول قليلة العدد وقليلة التأثير.
ومع ذلك فإن أهل السُنّة والشيعة معا عليهم أن يقوموا بحركة تجديد وإصلاح فى الفكر لتنقية الفرق الشيعية مما لحق بها، وإعادة تقديم المذهب الشيعى فى صورته الحقيقية النقية بعيدا عن الخرافات والأساطير والانحرافات.
***
لكن هؤلاء المتطرفين أو المنحرفين – يجب ألا يدفعونا إلى إغفال رجال عظام من أئمة الشيعة مثل على زين العابدين ابن الإمام الحسن بن على،والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق. وقـد توفى على زيــن العابدين فى خلافــة عمــر بـن عبد العزيز سنة 99 هجرية فقال عنه عمر بن عبد العزيز: (ذهب سراج الدنيا، وجمال الإسلام، وزين العابدين) وقد ترك على زين العابدين أولادا كثيرين منهم محمد الباقر، وزيد بن على.
وسنعود إلى مذاهب الشيعة المعتدلة، على أن نظل متذكرين أن غلاة الشيعة ليسوا هم الشيعة، وأن الأفكار الغريبة التى تنسب إلى الشيعة لا يؤمن بها كل الشيعة، ولابد أن نفرق بين ما كان فى الماضى وانتهى وما هو قائم اليوم، وحينئذ ندرك أن هناك جسورا كثيرة تصل بين السُنّة والشيعة فى الحاضر ويمكن أن تزداد فى المستقبل بجهود المخلصين من الجانبين.
وقد عقد مؤتمر كبير فى البحرين فى سبتمبر 2003 لتقريب المذاهب الإسلامية شارك فيه عدد كبير من علماء الشيعة وعلماء السُنّة. كما حضره فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر، والدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف، والدكتور يوسف القرضاوى، والدكتور مصطفى الشكعة، وغيرهم، واتفقوا على أن الإسلام هو المظلة التى تجمع كل من يؤمن بمبادئه وأصوله، وأن مساحة الاتفاق بين السُنّة والشيعة المعتدلة أكبر بكثير من مساحة الاختلاف، وأن الجهد يجب أن يستمر للتقريب بين السُنّة والشيعة، وتعريف كل فريق بما لدى الفريق الآخر لكى يتفهم أنصار الفريقين أن الخلافات ليست جوهرية ولا تمس جوهر العقيدة. وفى نفس الوقت يعرف الجميع أن أقوال غلاة الشيعة لم يعد لها التأثير الذى يتصوره البعض، لأننا فى زمن يتلاشى فيه تأثير الخرافة والأسطورة ويسود فيه العقل والمنطق.
وكانت كتابات وأفكار الإمام الراحل الشيخ محمود شلتوت من أهم محاور المؤتمر باعتباره أكبر دعاة التقريب.
وباختصار فإن عقلاء الأمة الإسلامية بدأوا يتحركون لتضييق الفجوة المصطنعة بين السُنّة والشيعة، وفى ذلك قوة للمسلمين. ونحن فى وقت نحتاج فيه إلى ما يوحد وليس إلى ما يفرق بين المسلمين، بينما الخطر يتهدد الجميع. *
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف