عــاش 130 يـــوما بــين المطرقة والسندان!
فى موسكو دعانى الصديق سامى عمارة الصحفى المعروف المقيم فى روسيا للعشاء فى بيته على شرف السيد محمود عباس (أبو مازن) أول رئيس وزراء فى فلسطين، مع الصديقين مكرم محمد أحمد ومحمد عبد المنعم، وسفير فلسطين فى موسكو. كانت هذه أول مرة ألتقى بها بالرجل الذى شغل الصحافة العالمية حين جاء إلى الحكم وحين أقصى عنه.
وكانت الفكرة الأساسية فى حديث (أبو مازن) أننا يجب أن نتغير نحن أولا قبل أن نفكر أو نطـالب بتغيير العالم أو بتغيير الظروف من حولنا، ففى داخلنا عوامل تعوق حركتنا، وتعطل قوانا، وتمنع تقدمنا، ثم إن علينا أن نتعلم التفكير الواقعى.. أن نحسن فهم الواقع كما هو وليس كما نريد أن يكون، وأن نحسب لكل خطوة حسابا دقيقا، وألا نفرّط فى فرصة تتاح لنا لكى نحقق بعض ما نريد إذا لم يكن ممكنا أن نحقق الآن وفوراً كل ما نريد.
تحدث أبو مازن عن الدور الذى قامت وتقوم به مصر، وقال إن الرئيس مبارك شخصيا يبذل جهدا خارقا لإنقاذ الشعب الفلسطينى من العذاب اليومى الذى يعانى منه ومن بشاعة العنف الإسرائيلى، وقدم لى نسخة من كتاب له بعنوان (تجربة المائة وثلاثين يوما.. إنجازات وعراقيل) حكى فيه تجربته فى الوزارة، بعد أشهر من تأزم الوضع السياسى الداخلى وانغلاق فرص العودة إلى المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات من الانتفاضة التى أكدت قوة إرادة الشعب الفلسطينى واستعداده للتضحية لكنها وحدها لم تكن مهيأة لإجبار إسرائيل على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية. استطاع أبو مازن أن يفتح الحوار مع الإدارة الأمريكية فكان أول رئيس وزراء فلسطينى يستقبله الرئيس الأمريكى وكبار المسئولين فى البيت الأبيض ووزير الخارجية.. واستطاع التوصل إلى هدنة مع فصائل المعارضة الفلسطينية رغم الاعتراض الإسرائيلى..
وكان موقف أبو مازن أنه لا يمكن لحكومته التى جاءت فى ظل أوضاع متأزمة سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وعلاقات دموية مع إسرائيل، أن تنجز برنامجها إلا إذا توافرت لها فترة زمنية كافية تحتاج إلى شهور بل إلى سنوات.. ودعم سياسى ومعنوى داخلى رسمى وشعبى حتى تكون لديها القوة وهى تفاوض إسرائيل.. ومصداقية أمريكية فى دعم هذه الحكومة الجديدة.. واستعداد جدى من الحكومة الإسرائيلية لقبول خارطة الطريق وتنفيــذ مـــــا عليها من التزامات..
أبو مازن واجه المشاكل منذ البداية.. بالتشكيك.. والتآمر المعلن والخفى(!) ووجد نفسه بين مطرقة حكومة شارون وسندان قوى فلسطينية تريد إفشال حكومته ليس لخدمة مشروع وطنى بديل، ولكن لخدمة مآرب شخصية وفئوية، وكان لا بد أن يصـل أبو مازن إلى النهاية الدراماتيكية ويقـدم اسـتقالة الحكومة.
وفى الإجابة عن سؤال: ماذا قدمت حكومته خلال عمرها القصير.. يقول أبو مازن: إنها حاولت إشعار المواطن الفلسطينى بنوع من الطمأنينة، وقامت بإنجازات محدودة لكنها مهمة، ووضعت مشاريع واعدة، والأهم من ذلك أنها كانت منعطفا مهما بالنظام السياسى الفلسطينى، ونقلة من حكم الأشخاص إلى حكم مؤسسات شرعية تخضع للمراقبة والمحاسبة.. ويقول: هذا لا يعنى أنها كانت حكومة مثالية فى كل شىء.. ولا يدعى أحد أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الدولة الموعودة.. ولكن كان من الممكن أن تكون حكومة أكثر قوة، وأكثر قدرة على مواجهة الالتفاف الإسرائيلى، لو حسنت النوايا، ومنحت فرصة.
تلك كانت المقدمة.. أما الخاتمة فكانت فى جلسة طلب أبو مازن عقدها للمجلس التشريعى الفلسطينى للمكاشفة والمصارحة ووضع النقط على الحروف، وقال فيها ما كان يكتمه فى صدره طوال مائة يوم. قال: إن الذين قاموا بتسيير مظاهرات ضده كانوا مدفوعين، وحملوا الشعارات التقليدية التى تلصق بالجميع.. الخيانة والعمالة والارتباط بالأجنبى.. ورفعوا لافتات: أين الأسرى؟ وأين اللاجئون؟ ولماذا يستمر بناء الحائط الإسرائيلى؟ ولماذا يستمر الاستيطان؟ وكأن حكومة أبو مازن هى التى جاءت بكل هذه المصائب. أو كأنها قادرة على تحقيق كل ذلك فى مائةيوم.
واتهم أبو مازن بأنه أضاع الثوابت الفلسطينية!. فقال للمجلس التشريعى: هل هذه الحكومة ضيّعت الدولة وحق العودة والقدس والمستوطنات؟ وكيف يقال إن هذه الحكومة جاءت برغبة وإرادة أمريكية- إسرائيلية، والحقيقية أنها جاءت بتكليف من اللجنة التنفيذية بالإجماع ومن اللجنة المركزية لحركة فتح بالإجماع، ومن المجلس المركزى بالإجماع، فمن هو الأمريكى الذى جاء بهذه الحكومة؟
وعن علاقته بالرئيس ياسر عرفات قال: علاقتى به علاقة تاريخية، وقد اختلفنا، وليست هذه أول مرة نختلف فيها، ولكننى لا أكرهه، وهو لا يكرهنى، وقد عشنا أربعين عاما نأكل ونشرب معا، ونناضل ونتحمل الآلام معا، ونعيش مع بعضنا البعض، ونحن بشر، ولسنا نسخة طبق الأصل من بعضنا البعض ولن نكون.. له رأيه ومواقفه وآراؤه التى أحترمها، وله قراراته التى أحترمها، لكننى لست نسخة طبق الأصل منه، ولهذا فأنا أعرف حدود العلاقة بينى وبينه، وهى ليست علاقة شخصية.. فإذا اختلفنا لا نختلف على أمر شخصى.. وإذا اتفقنا لا نتفق على أمر شخصى.. وأنا لست من الشلليين، ولست من دعاة الانشقاق.. أنا جزء من الشرعية.. أنا من مؤسسى هذه الشرعية، ولا يمكن أن أنحرف أو أنشق عليها.. ولا يمكن أن أقف ضد الشرعية التى يمثلها ياسر عرفات.. وكل ما فعلته حين اختلفنا أن خرجت وحدى..
قيل: إن أبا مازن خطف المفاوضات الفلسطينية واستأثر بها.
وقيل إنه يستبعد منظمة التحرير الفلسطينية ويريد أن يدمرها أو أن يتجاوزها.
ويقول أبو مازن: كل هذا غير صحيح ولدى مائة دليل علمى على أنه غير صحيح وقد حكيت أمام المجلس التشريعى تفصيلات كثيرة تؤكد أنها غير صحيحة.
وماذا عن القضايا المالية؟
يقول أبو مازن: حاولنا أن نتخذ بعض القرارات المالية فلم ينفذ بعضها، قلنا لابد أن يطبق قانون التقاعد فقامت الدنيا علينا، وقيل إن هذه رغبة أمريكا للتخلص من المنظمة، مع أن كل بلدان الدنيا فيها قوانين للتقاعد، وإلى متى يمكن أن يوظف الجد وابنه وحفيده فى الوزارة فى وقت واحد بينما لدينا 18 ألف خريج لا يجدون وظيفة..
قبلها أصدرنا قرارا باستقطاعات تصل إلى 15% من رواتب الموظفين، وأنا شخصياً لا أعرف أين تذهب هذه الاستقطاعات، وكان ذلك يؤذى الموظفين البالغ عددهم 150 ألفا وكانت لدينا إمكانات تكفى لوقف هذه الاستقطاعات، ولكن البعض اتهمنى بأننى أريد وقف الانتفاضة، ولا أعرف مــا عـلاقة الانتفاضــة بالاستقطاعات من رواتب الموظفين.. ولا أعرف لماذا نبحث عن سبب وطنى لضرب أى إجراء، وهذا ما حدث فى الاحتكارات، والبترول، والشركات، والسجاير، وغيرها، لماذا هذه الاحتكارات؟ ولمصلحة من؟ وعندما قررت إلغاءها شعر الناس بالانفراج وخاصة فى قطاع البترول الذى كان الغش فيه يتم بقرار رسمى (!) وكانت النتيجة زيادة فى إيرادات هيئة البترول بلغت ستة ملايين دولار فى الشهر، أى 72 مليون دولار فى السنة كانت تسرق (!)
وعندما قررت أن يتسلم الموظفون المدنيون والعسكريون رواتبهم من البنوك شنوا علينا هجمة شرسة، كيف نكشف أسماء رجال الأمن عندنا للبنوك، والواقع أن أسماء رجال الأمن جميعا سلّمت للجانب الإسرائيلى بأمر رسمى وسلمها الأخ صائب عريقات.. وعندما دخلنا إلى أرض الوطن تم تسجيل أسماء كل شخص مدنى أو عسكرى وكل بندقية أو رصاصة سجلت.. وهذا كله موجود عند الإسرائيليين والأمريكان، وعندما نطلب وضع الرواتب فى البنوك يقولون: ممنوع لأن هذا عمل غير وطنى (!)
يقول أبو مازن: فى كل يوم كان يأتينى قرار من أبى عمار.. السفارات ليست من حقنا يعنى وزير الخارجية ما هو عمله؟ لا أعرف! والمحافظون ليسوا من شئوننا.. إذن فوزارة الداخلية ماذا تعمل؟ المطار ليس من حقنا.. فلمن إذن؟ لمنظمة التحرير؟ الميناء لمنظمة التحرير؟ ديوان الموظفين لمنظمة التحرير؟ هذا يعنى أن أى وزير لا يملك سلطة على موظف يأتى أو يخرج، يعين أو يفصل، فهو يتلقى كل ذلك من الرئاسة.. ولا أعرف فى بلاد الدنيا ووزارات وزراء غير مسئولين عن موظفيهم.. والتليفزيون ووزير الإعلام.. أفهم أن التليفزيون للحكومة، وأفهم أننى أنا رئيس الوزراء، وأفهم أن أول جهة إعلامية هى أجهزة إعلامنا.. عندما قابلت كولن باول جاء التليفزيون الفلسطينى وسجل المؤتمر الصحفى.. كل وكالات الأنباء وتليفزيونات العالم أذاعته إلا تليفزيون فلسطين (!).
الخطاب الذى ألقيته أمام المجلس الوطنى أذاعته 3 محطات تليفزيون ولم يقدمه التليفزيون الفلسطينى! وعندما سألت وزير الإعلام قال إن هناك تعليمات بأن يذيع أفلام كارتون أثناء إلقاء الخطاب!!
حكايات.. وحكايات..
مسكين أبو مازن..
ومن يدرى ماذا لدى رئيس الوزراء الحالى؟
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف