ماذا فى فقه وتفسير الشيعة؟ شهادات الشيخ شلتوت والباقورى والغزالى وسيد سابق
كان الشيخ أحمد حسن الباقورى- رئيس جامعة الأزهر ووزير الأوقاف الأسبق- من أكبر المؤيدين لفكرة التقريب بين مذاهب السنة والشيعة، وشارك فى نشاط جماعة التقريب فى الخمسينات، وعندما أصبح وزيرا للأوقاف رأى أن يقدم الدليل على أن فقه الشيعة الإمامية لا يختلف عن فقه أهـل السُنّة، فقرر أن تتولى وزارة الأوقاف طبع كتاب (المختصر النافع فى فقه الإمامية) من تأليف الشيخ أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلى المتوفى سنة 676 هجرية وهو من كبار فقهاء الشيعة الإمامية.
ولم يكن فى الحسبان- كما قال الشيخ الباقورى- أن تنفد الطبعة الأولى من هذا الكتاب فى هذه المدة القصيرة، ولكن الإقبال على اقتنائه كان أكثر مما تصور، وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على روح الإنصاف، ونبذ التعصب، وحسن الاستعداد للأخذ بفكرة التقريب.
وأمام كثرة الطلبات من مصر والبلاد الإسلامية قرر الشيخ الباقورى إعادة طبع الكتاب، وصدرت الطبعة الثانية سنة 1958 وقال عنها الشيخ الباقورى- رحمه الله- إنه يسره أن يرى هذا النضوج فى الوعى الذى يتفق مع الروح الإسلامية الصحيحة ويؤدى إلى تحقق معنى الوحدة بين المسلمين.
وقال الشيخ الباقورى فى مقدمة الكتاب إن قضية السُنّة والشيعة هى فى نظره قضية إيمان وعلم معا.فإذا رأينا أن نحل مشكلاتها على ضوء من صدق الإيمان وسعة العلم فلن تستعصى علينا عقدة، ولن يقف أمامنا عائق، أما إذا تركنا للمعرفة القاصرة واليقين الواهى أمر النظر فى هذه القضية والبت فى مصيرها فلن يقع إلا الشر. وهذا الشر الواقع، إذا جاز له أن ينتمى إلى نسب، أو يعتمد على سبب فليبحث عن كل نسب فى الدنيا، إلا النسب إلى الإيمان الصحيح أو المعرفة المنزهة.
فقضية السنة والشيعة قضية علم، لأن الفريقين يقيمان صلتهما بالإسلام على الإيمان بكتاب الله وسنة رسوله، ويتفقان اتفاقا مطلقا على الأصول الجامعة فى هذا الدين فيما نعلم، فإن اختلفت الآراء بعد ذلك فى الفروع الفقهية والتشريعية، فإن مذاهب المسلمين كلها سواء فى أن للمجتهد أجره أخطأ أم أصاب. وثبوت الأجر له قاطع بداهة فى إبعاد الظن ونفى الريبة أن تناله من قرب أو بعد. على أن الخطأ العلمى ليس حكرا على مذهب بعينه، ومن الشطط القول بذلك.
ورأى الشيخ الباقورى أن دراسة الفقه المقارن لازمة لقياس الشُّقة التى يحدثها الخلاف العلمى بين رأى ورأى، أو بين تصحيح حديث وتضعيفه، وسنجد أن المدى بين الشيعة والسنة كالمدى بين المذهب الفقهى لأبى حنيفة، والمذهب الفقهى لمالك أو الشافعى، أو المدى بين من يعملون ظاهر النص ومن يأخذون بموضوعه وفحواه، والجميع سواء فى نشدان الحقيقة وإن اختلفت الأساليب.. والحصيلة العلمية لهذا الجهد الفقهى جديرة بالحفاوة، فهى تراث علمى مشكور.
وأما أن قضية الشيعة والسُنّة قضية إيمان فإن ضمير المسلم لا يرضى بافتعال الخلاف، وإشعال البغضاء بين أبناء أمة واحدة، ولو كان ذلك لعلة قائمة، فكيف لو لم تكن هناك علة قط؟؛ كيف يرضى المؤمن صادق الصلة بالله أن تختلق الأسباب اختلاقا لإفساد ما بين الأخوة، وإقامة علاقاتهم على اصطياد الشبهات، وتجسيم التوافه، وإطلاق الدعايات الماكرة، والتغرير بالسذج؟؛ وإذا وقع فى ذلك من تعوزه التجربة، فكيف تقع فيه أمة ذاقت الويلات من شؤم الخلاف، ولم يجد عدوها ثغرة النفاذ إلى صميمها إلا من هذا الخلل المصطنع عن خطأ أو عن تهور؟.
ورأى الشيخ الباقورى أيضا أن يقوم بعمل إيجابى حاسم، لسد هذه الفجوة التى صنعتها الأوهام، والأهواء، فقرر أن تتولى وزارة الأوقاف ضم المذهب الفقهى للشيعة الإمامية إلى فقه المذاهب الأربعة المدروسة فى مصر، وأن تتولى إدارة الثقافة فى الوزارة تقديم أبواب العبادات والمعاملات من هذا الفقه الإسلامى إلى جمهور المسلمين، ليرى أولو الألباب عند مطالعة هذه الجهود العلمية أن الشبه قريب بين ما ألفنا من قراءات فقهية، عند أهل السُنّة وبين ما باعدتنا عنه الأحداث السيئة من فقه الشيعة. ليكون هذا العمل فاتحة لتصفية شاملة تنقى تراثنا الثقافى والتاريخى من أدران علقت به وليست منه.
***
وقال سماحة الأستاذ محمد تقى الدين القمى وكان وقتها السكرتير العام لجماعة التقريب: إن كتاب المختصر النافع على إيجازه يعطى صورة واضحة لمذهب فقهى لا يقل أتباعه عن أتباع أى مذهب من المذاهب المعروفة، هو مذهب الإمامية. وقد يعجب من يطلع على الكتاب من أن هذا الفقه لم يكن فى متناول يد الجمهور، ولكن الماضى وقد شحن بكثير من الأغراض التى دفعت إلى محاربة أصحاب هذا الفقه وانسحب العداء لأصحاب الفقه إلى عداء للفقه ذاته.
يقول الإمام القمى: إن مبدأ الخلافة والإمامة معروف، وهو الذى ميّز الطائفتين: السنة والشيعة، وإن اتجاه الأنظار فى الإمامة إلى آل علىّ عليه السلام، جعل الفقه المسند إليهم يناله ما نالهم من إيذاء وإرجاف، يرجع أكثره إلى أسباب سياسية تتعلق بالحكم، ولولا هذا لم يكن مذهب الإمام جعفر الصادق -وتقديره عند أئمة المذهب معروف - يقاطع ولا يدخل فى دائرة المذاهب المعروفة عند الجمهور، وكذلك يقال عن مذهب إمام كزيد بن على، ولا يتسع المقام لسرد ما ترتب على هذه القطيعة من حرمان وفراغ، ومن مصادرة لجانب عظيم من الفكر الإسلامى، ثم ما انتهت إليه هذه القطيعة من سوء ظن أدى إلى التشتت والأخذ بالأوهام وتقطيع أواصر الأخوة فى الدين. إن ثروتنا الفقهية - نحن المسلمين - ثروة ضخمة لا مثيل لها فى أى تشريع من التشريعات، ولا يقلل من قيمة هذه الثروة أن فيها نقط خلاف إلى جانب الآلاف من نقط الوفاق، فإن لذلك دلالته، فالوفاق يدل على أن الأصول تتحكم ولا يهملها أحد، وأما الخلاف فيدل على أن مجال النظر فيما يصح فيه اجتهاد له احترام وتقدير، وفقه الإمامية ليس فيه رأى ليس له مثيل فى مذهب آخر. فهو يتحدث عن العبادات والمعاملات، ويتحدث فى باب الطهارة والوضوء والاغتسال وعن المسح على القدمين المأخوذ من قراءة ثابتة معتد بها عند الجميع، كما يتحدث عن منع مس المصحف لمن ليس على طهارة، ويتحدث عن آداب الخلوة، وحرمة استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة ولو فى الأبنية، وهذا الفقه يجعل للطهارة قداسة، ويحتاط فيها أشد الاحتياط، لأنها مقدمة لعبادة أهم، هى الصلاة.
وفى أحكام الصلاة نرى كثيرا جدا من وجوه الاتفاق بين مذهب الإمامية وبقية المذاهب، فلا صلاة إلا بتكبيرة الإحرام، ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا خلاف فى عدد الفرائض، ولا فى الركعات والسجدات، وهم يُوَلون وجوههم شطر المسجد الحرام، ويشترطون القراءة بالعربية ولا يجيزون الترجمة، ومن لا يعرف العربية فعليه أن يتعلم منها ما يؤدى به الصلاة. وهم لا يجيزون ترك الصلاة بحال حتى أن الموحل والغريق يصليان بالإيماء، وإن وجد خلاف ففى مثل أن الأمامية يشترطون بعد الفاتحة قراءة سورة كاملة، ولا يجتزئون ببعض السور، ويشترطون الجهر بالبسملة، وإرسال اليدين وعدم عقدهما على الصدر، ويشترطون أن يكون الإمام عادلا لكى يصلى خلفه الناس، ويشترطون الخروج من الصلاة بالتسليم، وتلك خلافات لا تزيد عما بين المذاهب الأخرى بعضها وبعض. أما القبلة فهى الكعبة، وإن كان المصلى بعيدا فعليه أن يولى وجهه جهة الكعبة.
وفى الصوم فإنه يبدأ عند الإمامية بالرؤية، وينتهى بالرؤية ، ويعدد المفطرات، ولكن الإمامية يرون أن الكذب على النبى صلى الله عليه وآله وسلم مفطر يجب فيه القضاء والكفارة، وإن وجد بعد ذلك خلاف فلا يعدو أن يكون مثل اشتراطهم التثبت من العدالة فى شهود الرؤية، أو اشتراطهم زوال الحمرة المشرقية للإفطار وليس مجرد مغيب الشمس، أى أنهم يتأخرون بعض الوقت بالإفطار.
أما النوافل فى رمضان فلها عند الإمامية اهتمام كبير، وهم يطبقون فيها الحديث الصحيح: (افضل الصلاة، صلاة الرجل فى بيته إلا المكتوبة).
وأما الحج فإنه يأخذ فى فقه الإمامية حيزا أكبر مما يأخذه غيره نظرا للدقة فى تحديد شعائره، وهو عندهم من أعظم دعائم الإسلام، ويعتبرونه جهادا بالمال والبدن، ويرون تاركه على حد الكفر بالله، وإذا مات المكلف دون أن يحج اعتبر الحج دينا عليه ويُحج عنه، وبلغ من ثبوت هذا الحق أنه يؤدى بدون إذن، ولو كان بيد إنسان مال لميت عليه الحج وعلم أن الورثة لا يؤدون عنه الحج فإنه يجوز له أن يقطع قدر تكلفة الحج ويبذلها لمن يحج عنه، لأن هذا دين الله، وهو خارج عن ملك الورثة، والديون تُقضى قبل التوريث، ودين الله أحق بالقضاء. ودرجة الوفاق فى الأركان والمناسك والشعائر بين هذا الفقه وغيره كبيرة إلى حد يجعل الحج أعظم مظهر لوحدة المسلمين، وهذامن بركات بيت الله.
أما الاعتكاف، والزكاة، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، فلكل منها كتاب خاص فى فقه الإمامية، وأبواب المعاملات أيضا تلتزم بالكتاب والسُنّة والقواعد المستقاة منها، وهم يكثرون من الشروط، ومنها شرط كتابة العقود باللغة العربية، ويعتبرون التعامل مع المستهتر وتارك الصلاة مكروها، ويحرّمون الاتجار بالمحرمات وكل ما يترتب عليه فساد المجتمع. وهم فى أحكام الزواج والطلاق يتفقون مع بقية المذاهب، والخلاف فى أنهم يشترطون فى الطلاق شاهدين ولا يقع الطلاق بدونهما، ويستندون فى ذلك إلى الآية: (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوى عدل منكم) وهم لا يوقعون طلاق الثلاث بلفظ واحد أو متتابعا فى مجلس واحد، ولا ينعقد الطلاق عندهم بالحلف، وبعض أحكام الزواج والطلاق أخذ به أخيرا فى مصر فى الأحوال الشخصية مما يدل على فائدة الاطلاع والتعرف على كل مذهب.
***
والخلاف بين السُنّة والشيعة حول زواج المتعة هو من الخلافات التى لا سبيل إلى التوفيق بينها، ويقول الإمام محمد القمى إن أساس الخلاف فيه ليس فى أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرعه، ولا فى أن من الصحابة من عمل به على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا فى أن بعض الصحابة استمر يرى بقاء هذه المشروعية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما الخلاف حول ما إذا كان هذا الحكم قد نُسخ أو لم يُنسخ، وثبت النسخ عند فريق، ولم يثبت عند الفريق الآخر، وزواج المتعة عند الإمامية هو زواج امرأة خالية من الموانع الشرعية، يلزم فيه عقد ومهر، ويترتب عليه ميراث الولد، وعدة الزوجة بانقضاء المدة أو الانفصال.
ورأى السُنّة أن زواج المتعة كان مشروعا ثم نسخ، وأن الزواج الصحيح يجب أن يكون قائما على نية الاستمرار والتأبيد ولا يكون محدد المدة كما هو الحال فى زواج المتعة.
فهذه - إذن- نقطة خلاف جوهرية..
وكما انتفع أهل السُنّة ببعض أحكام الإمامية فى الطلاق، كذلك انتفعوا ببعض أحكام الوصايا والوقف، أما الحدود والتعزيرات (وهى عقوبات أخف من الحدود فى حــالات لم يرد فيها نص صريح بإقامة الحد) فإن فقه الإمامية يشدد فيها أكثر من فقه السُنّة، ويرى أن التشدد أفضل درءا للمفاسد، فحد الزنا الجلد أو الرجم، وحد اللواط القتل، وحد السرقة قطع اليد، وجزاء من يدعى النبوة القتل، ومن قال لا أدرى أمحمد صادق أم كاذب وهو على ظاهر الإسلام فجزاؤه القتل، ومن سب النبى صلى الله عليه وسلم وآله فجزاؤه القتل.
***
ومصادر الأحكام عند الإمامية أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل أو الأدلة العقلية.
وليس هناك خلاف حول المصحف، لا يختلف مصحف الشيعة عن مصحف السُنّة فى آية أو كلمة أو رسم حرف، فإن كانت كلمة (رحمت) بتاء مفتوحة فهى كذلك فى كل مصحف بأى أرض من بلاد المسلمين، لا فرق بين عربى وعجمى، ولا بين سنى وشيعى. ويتفق المسلمون جميعا دون استثناء على أن كتابهم هو الأصل الأول للشريعة. كذلك لا يختلف الشيعى عن السنى فى الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يتفق المسلمون جميعا على أنها المصدر الثانى للشريعة، ولا خلاف بين مسلم وآخر فى أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعله، وتقريره، سنة لا بد من الأخذ بها، إلا أن هناك فرقا بين من كان فى عصر الرسالة يسمع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين من يصل إليه الحديث الشريف بواسطة أو وسائط، ومن هنا جاءت مسألة الاستيثاق من صحة الرواية، واختلفت الأنظار، أى أن الاختلاف فى الطريق وليس فى السُنّة، وهذا ماحدث من خلاف بين السُنّة والشيعة فى بعض الأحيان، فالنزاع حول فروع وليس حول أصول، وفى مسائل صغرى وليس فى مسائل كبرى، فإن ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم لا خلاف فى الأخذ به، إنما الخلاف على رواة الحديث، وهل صدر الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا؟ وإذا كان يروى عن أئمة المذاهب فى بعض المسائل روايتان أو روايات مع قرب عهدهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام على- وهو عند الشيعة الإمام المنصوص عليه وعند أهل السنة إمام يقتدى به- ينقل عنه فى بعض المسائل الخلافية روايتان مختلفتان، إحداهما أخذت بها السُنّة والأخرى أخذت بها الشيعة، وإذا كنا نطلب الاستيثاق فى أقوال الأئمة وما يروى عنهم، فطبيعى أن الأمر بالنسبة للسُنّة النبوية يحتاج إلى دقة واستيثاق أكثر- فإن كلامه صلى الله عليه وسلم تشريع، وهو المشرع الوحيد للمسلمين، حلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، والوصول إلى نص عبارته يتطلب إلمام الراوى بفنون التعبير حتى لا يترك قرينة أو خصوصية لها تأثير فى بيان الحكم، وذلك للوصول إلى نص عبارته بحيث يعرف إن كان حديثه مطلقا أو مقيدا، عاما أو خاصا، والوصول كذلك إلى ثبوت الحديث أو عدم ثبوته، وهذا ليس خاصا بالسُنّة والشيعة، إنما يوجد بين مذاهب السُنّة بعضها وبعض، فكم من أحاديث ثبتت روايتها عند الشافعى ولم تثبت عند غيره..
ومع أن الجمهور يأخذون برواية أى صحابى، فالشيعة تشترط أن تكون الرواية عن طريق أئمة أهل البيت، لاعتقادهم أنهم أعرف الناس بالسُنّة، والنتيجة فى أكثر الأحيان لا تختلف، فالصــلاة لم يرد عنها تفصيلات فى القرآن، وكل ما جاء عنها عن طريق السُنّة ونقل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فى صلاته، ومع هذا فإن الخلاف بين السُنّة والشيعة فى أحكام الصلاة ليس كبيرا، وكــذلك الحج وغيره.
المهم أن يكون واضحا أن الشيعة يعملون بالسُنّة، والفارق أن الشيعة يأخذون السُنّة من أئمة أهل البيت.
***
كذلك الإجماع، فهو الأصل الثالث من أصول التشريع عند السُنّة، وهو كذلك عند الإمامية، والإجماع عند الشيعة هو إجماع العلماء على حكم يكشف عن حجة قائمة، هى النص عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الإمام على ونسله، وعندهم حجة، يرجع الإجماع إليها، ويكشف عنها.
وأما العقل أو الدلائل العقلية فيرى البعض أنه ثبت بالسُنّة، ويرى البعض الآخر أن الأدلة العقلية تعنى أن الأمر بشىء يعنى النهى عن ضده، ورأى البعض أن الدليل العقلى يكشف مضمون ودليل الحكم الشرعى. والعقل ينفرد بالدلالة على وجوب بعض أحكام الشريعة مثل رد الوديعة، أو كراهية الظلم والكذب، أو التمسك بالإنصاف والصدق، والبعض يرى الإباحة حين لا يكون هناك دليل للمنع أو التقييد، وأما القياس فلا يؤخذ به فى فقه الإمامية، ويرون أن القياس لا يتوافر فيه اليقين بنتائجه، فيكون العمل به عملا بالظن، والظن مُنهى عنه، ولم يثبت أن الصحابة أجمعوا على العمل بالقياس، بل ثبت أن بعضهم أنكره، ومن مذاهب أهل السنة من لا يرى العمل بالقياس، ومن علماء السُنّة من بيّن أن كل حكم عن قياس إنما أخذ عن دليل بالنص أو الإشارة.
***
ويحذر الإمام محمد القمى من الكتب التى خلطت بين الشيعة والفرق البائدة التى لا وجود لها إلا فى زوايا التاريخ أو فى تفكير المتحيزين، وينبه إلى المبدأ العلمى المتفق عليه بين الباحثين الراسخين، وهو الإنصاف والأمانة العلمية، وأن يستقى الباحث ما يريده من المعلومات من مصادر صحيحة، وما دامت المراجع المعتمدة لمذهب ما ميسرة فليس هناك ما يبرر الرجوع إلى غيرها، لاسيما إذا كنت تستند إلى الشائعات أو تصدر عن العصبيات، ويكرر الآيتين الكريمتين: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) و(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا..)
***
والمهم أن كتاب (المختصر النافع) فى فقه الإمامية راجعه وأشرف عليه الشيخ محمد المدنى وكان رئيسا لقسم العلوم الإسلامية فى كلية دار العلوم، والشيخ عبد العزيز عيسى وكان أستاذا مساعدا للفقه فى كلية الشريعة، والشيخ محمد الغزالى وكان مديرا لإدارة تفتيش المساجد بوزارة الأوقاف، والشيخ سيد سابق وكان مديرا لإدارة الثقافة بوزارة الأوقاف. وكتب مقدمته الشيخ الباقورى، وطبع على نفقة وزارة الأوقاف المصرية، وهذه الأسماء الكبيرة تكفى للثقة فى الكتاب وما فيه.
***
وقد وجه إلى الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر سؤال يقول: إن بعض الناس يرون أنه يجب على المسلم لكى تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية، ولا الشيعة الزيدية، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأى على إطلاقه فتمنعون الأخذ بمذهب الشيعة الإمامية مثلا؟
فأجاب فضيلته:
1- إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه إتباع مذهب معين. ولكل مسلم الحق فى أن يقلد بادئ ذى بدء أى مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا، والمدونة أحكامها فى كتبها الخاصة، ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أى مذهب كان- ولا حرج عليه فى شىء من ذلك.
2- إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السُنّة.
فينبغى للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله، وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون، مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرونه فى فقههم، ولا فرق فى ذلك بين العبادات والمعاملات.
***
وفى عام 1952 نشر فى القاهرة - لأول مرة - تفسير للقرآن من تفاسير الشيعة، هو كتاب (مجمع البيان لعلوم القرآن) الذى ألفه فقيه الإسلام أبو على الفضل بن الحسن الفضل الطبرسى، وهو من علماء القرن السادس الهجرى. فقال عنه شيخ الأزهر فى ذلك الوقت (الشيخ عبد المجيد سليم): إنه كتاب جليل الشأن، كثير الفوائد، لا أحسبنى مبالغا إذا قلت: إنه فى مقدمة كتب التفسير التى تعد مراجع لعلومه وبحوثه. وقد قرأت هذا الكتاب كثيرا، ورجعت إليه فى مواطن عدة، فوجدته حافلا معضلات، كشاف مبهمات، ووجدت صاحبه - رحمه الله - عميق التفكير، عظيم التدبر، متمكنا من علمه، قويا فى أسلوبه وتعبيره، شديد الحرص على أن يجلى للناس كثيرا من المسائل التى يفيدهم علمها، وإن إحياء هذا التفسير الجليل عمل من الباقيات الصالحات آمل أن يثيب الله كل معين على إتمامه ثوابا حسنا.
وكتاب (مجمع البيان لعلـــوم القرآن) دائرة معارف فيه كل ما يهتم به الباحث بمعرفته من روايـات القـرآن وقراءاته، ما تواتر من ذلك وما شذ، وما أجمع عليه القراء وما انفرد به بعضهم، فى إيجاز واضح مفيد، كما يعنى بالمفردات اللغوية للآيات، وبالإعراب، واختلاف النحاة فى بعضها، والشواهد من كلام وأشعار العرب، ويشير إلى النظم والقصة وأسباب النزول فى بعض الآيات.
والشيخ الإمام الطبرسى من مراجع الشيعة الإمامية الجعفرية، ومـــع ذلك فلا يلحظ القارئ فيه صبغة مذهبية، وليس فى الكتاب سوى إشارات عابرة إلى المذهب الشيعى فى مواضع كان لازما فيها الإشارة إلى مصدر الرأى.
وكان الذين اختاروا هذا التفسير ليكون عملا من أعمال التقريب بين المذاهب الإسلامية، والإشراف على اللجان التى أشرفت على إعداده، ثلاثة من أكبر أئمة السُنّة هم: شيخ الأزهر الشيخ عبد المجيد سليم الذى شغل منصب مفتى الديار المصرية ما يقرب من عشرين عاما، والشيخ شلتوت هو الذى كتب المقدمة لتفسير الإمام الطبرسى ، وكان عند بدء إعداد التفسير للطبع وكيلا للأزهر، وقال فى مقدمته: (إن المسلمين ليسوا أرباب أديان مختلفة، إنما هم أرباب دين واحد، وكتاب واحد، وأصول واحدة، فإذا اختلفوا فإنما هو اختلاف الرأى مع الرأى، والرواية مع الرواية، والمنهج مع المنهج، وكلهم طلاب الحقيقة المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكمة ضالتهم جميعا، ينشدونها من أى أفق. وأول شىء على المسلمين وعلمائهم وقادتهم أن يتبادلوا المعرفة والثقافة، وأن يقلعوا عن سوء الظن، وعن التنابز بالألقــاب، وعن الطعن والسباب، وأن يجعلوا الحق رائــدهم، والإنصـــاف قائـــدهم، وأن يأخـذوا من كل شىء بأحسنه (فبشـر عبــادى الذين يستمعـون القــــول فيتبعــون أحسـنه، أولئك الذين هــداهم الله، وأولئك هم أولــــو الألباب).
وكان الفقيه الثالث الذى أشرف على إعداد تفسير الطبرسى هو الشيخ محمد المدنى، وكان عميدا لكلية الشريعة، ورئيس تحرير مجلة (رسالة الإسلام) التى كانت تصدرها دار التقريب بين المذاهب، ومحرر الافتتاحية فى كل أعدادها، وكانت له مقالات كثيرة نشرتها المجلة، وقد شارك فى الأجزاء الثلاثة من الكتاب، ثم اختاره الله إلى جواره - وكان وراء إصدار هذا التفسير سماحة الإمام محمد تقى الدين القمى، وكتب فى تقدمة الكتاب: إن اختيار هذا الكتاب بالذات جاء لأن مؤلفه وقف موقف الإنصاف، فلم يعنف فى جدال، ولم يسفه فى مقال، بل أعطى مخالفيه مثلما أعطى موافقيه، من بيان الحجة، ورواية السند، ليمكن للقارئ الحكم، وجعل من كتاب الله موضعا للقدوة الحسنة فى الجدال بالتى هى أحسن.. كما كان وراء إعداد هذا التفسير للنشر الشيخ عبد العزيز عيسى وكان فى ذلك الوقت مدير التفتيش ومدير المعاهد الدينية بالأزهر، ووكيل الأزهر، وأصبح بعد ذلك وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر، وقد اشترك فى تحقيق الكتاب والإشراف على إعداد أجزائه واستغرق ذلك عشرين عاما، وبذل من الجدة والجهد ما لا يستطيعه إلا قلة من الباحثين المدققين، فقــد وقف عند كـل صفحـة، وكل آية، وكل جملة من التفسير، وقام بمراجعة ما سبق طبعه من الكتاب، ويراجع كتب التفسير واللغة والقراءات.
استغرق إخراج هذا الكتاب عشرين عاما، وصدر الكتاب فى عشرة أجزاء.
***
وهكذا نرى أن أئمة المذاهب السُنية من أكبر علماء الأزهر قد أقروا فقه الشيعة الإمامية وأشرفوا على إصدار كتاب من أهم كتبه، كما أقروا تفسير القرآن عند أهل هذا المذهب وأشرفوا على إصدار أهم تفسير للشيعة الإمامية، فهل يعنى ذلك أنه لا خلاف بين السُنّة والشيعة فى التفسير والفقه بين الطائفتين؟
سنجد اختلافات فى التفسير وفى الفقه بين الشيعة والسُنّة وبين الفرق والمذاهب داخل الطائفتين. والسبب كما قال الشيخ شلتوت فى مقدمة تفسيره للقرآن: (إذا كان المسلمون قد تلقوا كتاب الله بهذه العناية، واشتغلوا به على النحو الذى أفادت منه العلوم والفنون، فإنه - مع الأسف الشديد- لما حدثت بدعة الفرق، والتطاحن المذهبى، والتشاحن الطائفى، وأخذ أرباب المذاهب وحاملو رايات الفرق المختلفة يتنافسون فى العصبيات المذهبية والسياسية، امتدت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجهون العقول فى فهمه وجهات تتفق وما يريدون، وبذلك تعددت وجهات النظر فى القرآن، واختلفت مسالك الناس فى فهمه وتفسيره، وظهرت فى أثناء ذلك ظاهرة خطيرة، هى تفسير القرآن بالروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة التى تلقفها الرواة من أهل الكتاب وجعلوها بيانا لمجمل القرآن، وتفصيلا لآياته، ومنهم من عنى بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصة، وبذلك وجدت تحكمات الفقهاء والمتكلمين غلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروجون لمذاهبهم، ويستبيحون فى سبيل تأييدها والدعاية لها أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يأوِّل الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح، وغرضها المسوقة له، لكيلا تصلح دليلا لمذهب فلان، وبهذا أصبح القرآن تابعا بعد أن كان متبوعا، ومحكوما عليه بعد أن كان حاكما.
وكـانت هـذه ثورة، ثورة غير منظمة، عقدت حول القرآن غبارا كثيفا حجب عن العقول ما فيه من نور الإرشاد والهداية، وكان من سوء الحظ أن صادفت هذه الثورة عهد التدوين، فحفظت ودونت، كثيرا من الآراء الباطلة فى كتب أخذت بحكم الأقدمية ومرور الزمن نوعا من القداسة التى يخضع لها الناس، فتلقاها المسلمون فى عصور الضعف الفكرى والانحلال السياسى كقضايا مسلمة وعقائد موروثة لا يسوغ التحلل منها ولا التشكك فيها.
وقيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامى فيما يختص بفهم القرآن، والانتفاع بهدايته، فحمل الناس على تقليد هذه الكتب واتخذوها حكما بينهم، واعتقدوا بكل ما فيها من غير تمييز بين حق وباطل، ونافع وضار، واعتقدوا أنه لا يصح لمسلم أن ينكر شيئا منها وقالوا: هذا شىء درج عليه السابقون المتقدمون ودونوه فى كتبهم، وما كان لنا - ولسنا بأعلم منهم بالدين - أن نحيد عما قالوه قيد شعرة، وبذلك أسلموا عقولهم إلى غيرهم، وجنوا على أنفسهم بحرمانها من التفكير، وجنوا على دينهم باعتقاد أن هذه الأوهام من الدين، وامتلأت أذهانهم بألوان من الأوهام الفاسدة عن التشريع والعقيدة، وصار كثير من المسلمين يعتقد أن الحلال ما أحله فلان فى كتاب كذا، وأن الحرام ما حرّمه فى كتاب كذا، بل وصل الأمر ببعض أهل العلم إلى أن يقول إن هذا الشىء ثابت فى القرآن، لأن فلانا وفلانا حملوا عليه بعض آيات الكتاب الحكيم.
وفى مجلة (رسالة الإسلام) التى كانت تصدرها جماعة التقريب بين المذاهب قال الشيخ شلتوت: لا أنسى أنى درّست المقارنة بين المذاهب بكلية الشريعة، فكنت أعرض آراء المذاهب فى المسألة الواحدة، وأبرز من بينها مذهب الشيعة، وكثيرا ما كنت أرجح مذهبهم خضوعا لقوة الدليل، ولا أنسى أيضا أنى كنت أفتى فى كثير من المسائل بمذهب الشيعة، وأخص منها بالذكر ما تضمنه قانون الأحوال الشخصية ومنه على سبيل المثال المسائل الآتية:
أولا : الطلاق الثلاث بلفظ واحد، فإنه يقع فى المذاهب السُنية ثلاث طلقات، ولكنه فى مذهب الشيعة يقع طلقة واحدة رجعية. وقد أخذ القانون به.
ثانيا : الطلاق المعلق، منه ما يقع ومنه ما لا يقع، تبعا لقصد التطليق أو قصد التهديد، ولكن مذهب الشيعة يرى أن التعليق مطلقا سواء قصد به التهديد أو التطليق لا يقع به الطلاق، وقد رجحت هذا الرأى، وكثيرا ما أفتيت به، وكثيرا ما أذعته وكتبته فى أحاديثى المتعلقة بالطلاق وأجوبة السائلين عن وقوع الطلاق.
ويقول الشيخ شلتوت:إن الباحث المدقق سيجد كثيرا فى مذهب الشيعة ما يقوى دليله، ويلتئم مع أهداف الشريعة من إصلاح الأسرة والمجتمع.
ويقول : لقد قر رأيى بمعونة الله على أن أعمل على تدريس الفقه الإسلامى فى كلية الشريعة بجميع المذاهب الفقهية المعروفة الأصول، والتى من بينها دون شك مذهب الشيعة الإمامية والزيدية.
ويقول: إن الإسلام لا يوجب على أحد من المسلمين إتباع مذهب معين، ولكل مسلم الحق فى أن يأخذ من أى مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا، ومن أخذ من مذهب فإن له أن ينتقل إلى غيره، ولا حرج عليه.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف