المتطرفون أسـاءوا إلى الشيعة والسُنّة وحـب (آل البيت) يجمع بين المسلمين
المتطرفون ظـهروا منذ ظـهور الإسلام.. وسوف يستمر ظـهورهم إلى يوم الدين.. لأن التطرف حالة عقلية، وربما يكون أيضا حالة نفسية، ولا يخلو عصر من المتطرفين فى الدين، أو السياسة، أو حتى فى الفن!
والمتطرفون هم الذين أساءوا ويسيئون إلى الإسلام عموما.. الشيعة منهم أساءوا إلى الشيعة، وأهل السنة منهم أساءوا إلى السنة، والمشكلة أنهم محسوبون على هؤلاء وهؤلاء.. والمصيبـة الكبرى أن البعض- من المسلمين وغير المسلمين- يستمع إلى المتطرفين، أو يقرأ كتبهم ويحسب أن هؤلاء هم الشيعة.. أو أن هؤلاء هم السنة.. والكارثة أن يحسب الجاهلون فى الخارج والداخل أن هؤلاء وهؤلاء هم المعبرون عن الإسلام والناطقـون الرسميون باسمه.
حتى بعض كبار الباحثين - مع الأسف - وقعوا فى هذا الشرك المنصوب لنا جميعا. ورددوا أقوالا جاءت من بعض الفرق الشيعية المتطرفة وتناقلها مؤلفو كتب وضعت لأغراض سياسية فى عصور مختلفة، وبعض هذه الأقوال صحيح صدرت عن قلة متطرفة وبعضها كاذب. والخطأ الأكبر أن البعض ينظر إلى الشيعة على أنهم مذهب واحد وفرقة واحدة وهذا غير صحيح، حتى أننا نجد من يردد ما قيل من أن الشيعة جميعا يشككون فى القرآن ويقولون: إنه أضيف إليه وحذف منه، وحتى أستاذ كبير مثل الدكتور عبد المنعم النمر ذكر فى كتابه عن الشيعة أن لهم قرآنا خاصا بهم يسمونه (قرآن فاطمة) وذكر ذلك على أنه قرآن الشيعة جميعا، وكأنهم بذلك يكذبون قول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).. وإلى هذا الحد وقع الخلط وحدثت الإساءة إلى الشيعة وإن كان البعض من المتطرفين يقول بذلك فلماذا ننسبه إلى الجميع؟.
إمامنا الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الراحل يقول: إن المجتمع الإسلامى تكثر فيه الآراء والمذاهب.. والله يأمرهـــم بقولـه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران (103) ويقول: إن المسلمين جميعا مأمورون بحب آل البيت وتكريمهم فى قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) الشورى (23).
وقوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الأحزاب (33)، وقد اشتد حب سيدنا على وذريته عند بعض المسلمين فغالوا فى تكريمهم لدرجة أن بعضهم (وليس كلهم) اعتقد ألوهية سيدنا علىّ وبعضهم (وليس كلهم) أعتقد أنه النبى المرسل، وبعضهم (وليس كلهم) قال إنهما شريكان فى النبوة، وقالوا: إنه الإمام بعد الرسول دون أبى بكر وعمر وعثمان، وأن الإمامة لا تخرج عنه ولا عن أولاده، وإن خرجت فإن ذلك يكون ظلما أو تقية.
يقول الإمام الراحل الشيخ جاد الحق: إن أشهر الفرق الشيعية خمس: هى الزيدية فى اليمن ومذهبهم قريب من مذهب أهل السنة وإن اعتقدوا أفضلية علىّ على أبى بكر وعمر ولكنهم أجازوا إمامة من هو أقل فضلا، والفرقة الثانية هى الإمامية وهم الذين قالوا بأن الأئمة اثنا عشر من آل البيت، ولذلك يسمون الاثنى عشرية، لأن الأئمة عندهم هم: علىّ، والحسن، والحسين، وعلى زين العابدين بن الحسين، ومحمد الباقر، ثم جعفر الصادق، وكان له ستة أولاد أكبرهم إسماعيل ثم موسى، ومات إسماعيل فى حياة أبيه فأوصى بالإمامة إلى ابنه موسى الكاظم. وبعد وفاة الإمام جعفر الصادق انقسم الاتباع، فمنهم من استمر على إمامة إسماعيل وهم: الإسماعيلية، والباقون اعترفوا بإمامة موسى الكاظم وهم: الموسوية، ومن بعده على الرضا، ثم ابنه محمد الجواد، ثم ابنه على الهادى، ثم ابنه الحسن العسكر (نسبة إلى مدينة العسكر(سامرا). والحسن العسكر هو الإمام الحادى عشر، أما بعده فكان ابنه محمد وهو الإمام الثانى عشر، وقد مات وليس له ولد، فوقف تسلسل الأئمة، وكانت وفاته سنة 265 هجرية. ويعتقد الشيعة الإمامية بأن الإمام الثانى عشر لم يمت، ولكنه دخل سردابا فى (سامرا) وسوف يرجع بعد ذلك، فهو المهدى المنتظر. وهذه الطائفة من الشيعة منتشرة فى إيران، والعراق، وسوريا، ولبنان، ومنهم جماعات متفرقة فى أنحاء العالم، وللشيعة كتب ومؤلفات كثيرة، من أهمها كتاب (الوافى) فى ثلاثة مجلدات كبيرة جمعت كثيرا من الأفكار التى وردت فى كتبهم الأخرى. وقد هاجم عقائد الشيعة بعض أهل السنة، وأشهر كتب النقد كتاب (الوشيعة فى نقد عقائد الشيعة). ولرئيس أهل السنة بباكستان محمد عبد الستار التونسى كتاب مشهور عنوانه (بطلان عقائد الشيعة).
ومن أهم أصولهم كما يقول إمامنا الشيخ جاد الحق خمسة مبادئ:
1- تكفير الصحابة ولعنهم وبخاصة أبى بكر وعمر (وليس كل الشيعة يرون ذلك).
2- ادعاء أن القرآن الموجود فى المصاحف ناقص، والباقى مخزون عند آل البيت فيما جمعه الإمام على (وليس كل الشيعة يقولون ذلك).
3- رفض كل رواية تأتى عن غير أئمتهم فهم عندهم معصومون دون سواهم.
4- التقية - وهى إظهار خلاف ما يعتقد الشخص لدفع السوء عنه.
5- عـدم مشروعية الجهــاد الآن، لأن الإمـام غائب، والجهاد مع غيره حرام ولا يطاع، ولا شهيد فى حرب إلا من كان من الشيعة، (وليس كل الشيعة يقولون ذلك) ويبيحون تصوير سيدنا محمد، والإمام على كرم الله وجهه، والإمام الحسين وتباع الصور أمام المشاهد والأضرحة.
***
تعرضت مذاهب الشيعة لكثير من التشويه، والسبب أن البعض تناولها على أنها مجموعة أفكار وآراء غريبة مختلطة بكثير من الخرافات، وخلط بين هذه المذاهب وممارسات الجهلة والبسطاء من الشيعة، مع أن لهم أشباها ونظائر بين أهل السنة، تختلط أفكارهم وممارستهم وعاداتهم الدينية بالكثير من الخرافات والفلكلور.
وأهل السنة فى حيرة من أمرهم من موقف الشيعة من الإمام علىّ كرم الله وجهه، فما زالوا حتى اليوم يعتقدون أنه الأحق بالخلافة، ويعتبرون ذلك أصلا من أصول العقيدة، حتى بعد مرور أربعة عشر قرنا على رحيل الإمام علىّ والحسن والحسين، وبعد انتهاء الخلافة من مجتمعات المسلمين، كما اختلف الدارسون من أهل السنة فى رؤيتهم للشيعة: هل هم فرقة دينية، أو هم حزب سياسى، فإن اعتبارهم فرقة من فرق الدين الإسلامى بغرض البحث فى أفكارهم الدينية الأساسية ومدى اتفاقها أو اختلافها مع ما جاء فى الكتاب والسنة. واعتبارهم حزبا سياسيا يجعلنا نبدأ بدراستهم من لحظة الخلاف على الحكم، هل كان الأحق بالسلطة السياسية بعد الرسول أبو بكر وعمر أو كان الأحق هو الإمام علىّ؟ وهل الاختلاف حول أحقية أى منهما يمكن أن يكون أصلا من أصول الدين الإسلامى يستمر إلى يوم القيامة، أو ينتهى بانتهاء وجود الحكام المختلفين، وتبقى ذكراهم للتاريخ يستمد منها المسلمون الدروس للعظة والعبرة؟.
فكرة الشيعة عن (الإمام) تبدو غريبة عند أهل السنة، فالإمام عندهم له منزلة الأنبياء، وهو خليفة الرسول، وهو زمام الدين والإمامة هى نظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، وهى تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقات والحدود والأحكام ولا تصح هذه العبادات إلا به.. الإمام يحل الحلال، ويحرم الحرام، ويقيم حدود الله، والإمــام هـــو واحد زمانه لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد له بديل، وليس له مثيل أو نظير، هو المختص بالفضل كله من الله الوهاب، وهو اختيار الله وليس اختيار البشر، والقرآن يقول: (وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة من أمرهم) فكيف يكون للبشر اختيار الإمام وقد اختاره الله وشرح صدره، وأودع فى قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلا يحيد عن الصواب، وهو معصوم من الخطأ والزلل والعار، يخصه الله بذلك لأنه هو حجة الله على عباده، وشاهد على خلقه، والله أمر بطاعة الأئمة، ونهى عن معصيتهم، وهم بمنزلة رسول الله، إلا أنهم ليسوا أنبياء، ولا يحـل لهم مــن النســـاء ما يحل للأنبياء، وما عدا ذلك فهم فى منزلة رسول الله.
هذا التعريف للإمامة تجده فى (الكافى) منسوبا إلى الإمام الرضا، ونقله الدكتور أحمد صبحى فى كتابه (الشامل) عن نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية، وهو تعريف يثير الحيرة عند أهل السنة. وأنصح بالرجوع إلى كتاب الدكتور صبحى وقد أعده تحت إشراف أستاذنا الدكتور على سامى النشار فهو الحجة فى دراسة الشيعة ومذاهبهم.
والباحثون الشيعة يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذى وضع أساس التشيع، ويروون أحاديث للتدليل على ذلك، مثل الحديث الذى يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى علىّ وقال: والذى نفسى بيده إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة. ومثل الحديث الذى ينسبونه إلى ابن عباس يقول فيه: لما نزلت الآية: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات. . . ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلىّ: هو أنت وشيعتك.. يوم القيامة تبعثون راضين مرضيين.. ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه قول الله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) جمع بنى هاشم قائلا: أيكم يؤازرنى ليكون أخى ووصيتى وخليفتى فيكم بعدى؟ فلما لم يجبه سوى الإمام علىّ قال لهم الرسول: هذا أخى، ووارثى، ووزيرى، ووصيتى، وخليفتى فيكم بعدى، فاسمعوا له وأطيعوا.. ويستخلصون من ذلك أن التشيع بدأ من الرسول عليه الصلاة السلام.
وقضية من الأحق بأن يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رحيله ينطبق عليها وصف طه حسين الذى أسماها (الفتنة الكبرى) لأن الأنصار رأوا أنهم الأحق بالخلافة على أساس أنهم أول من آوى الرسول صلى الله عليه وسلم وهم الذين نصروه، ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم فى قومه فى مكة فلم يؤمن به سوى عدد قليل منهم، لم يدافعوا عنه، وعندما هاجر إلى المدينة وجد عند الأنصار الحماية والكرامة، وقال عنهم: (لو اتخذت العرب شعبا، واتخذ الأنصار شعبا، لاتخذت شعب الأنصار) وقال الأنصار: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش بيننا، ومات بيننا، ودفن فى أرضنا، وترك الدنيا وعاصمة الأنصار هى عاصمة الإسلام.. وهكذا قال زعيم الأنصار سعد بن عبادة.
والمهاجرون من أبناء قريش رأوا أنهم الأحق بالخلافة، فهم أول من عبد الله فى الأرض، وفى أرضهم أول بيت وضع للناس، وهم السابقون إلى الإسلام.. وهذا ما قاله أبو بكر الصديق.
أما بنو هاشم فرأوا أن خلافة الرسول لابد أن تبقى لهم وهم أهله وأقرب الناس إليه، والأولى بها علىّ الفقيه، العالم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا بدأ الخلاف حول الحكم لكنه ظهر فى صورة عقائدية. وطه حسين يقول: إن نظام الحكم أيام النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن مفروضا من السماء، لأن الإسلام دين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ثم يترك للناس شئون دنياهم. أمــا الشيعة فهم لا يفرقون بين السياسة والدين، وهم يرون أن وجود الإمام وطاعته واجبة فى كل زمان لكيلا يحرم الناس من التشريع الربانى، وعناية الله تقتضى ألا يترك العالم خاليا من رئيس يدبر وإمام يجمع الناس ويعرفهم مصالحهم الدينية والدنيوية ويرددون حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الله سبحانه وتعالى: (لم أترك الأرض إلا وفيها عالم يعرف طاعتى وهداى، ولم أكن أترك إبليس يضل الناس وليس فى الأرض حجة يدعو إلىّ ويهدى إلى سبيلى).
وقضية الإمامة فى منتهى الأهمية فى عقيدة الشيعة ولذلك يجب تفهم طبيعة ومكانة أئمة الشيعة وما يتمتعون به من قداسة عند اتباعهم، لكى نفهم أن هؤلاء الأئمة لهم القيادة الدينية والسياسية، ولهم العصمة فى شئون العقيدة وشئون الحكم ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب الدكتور أحمد صبحى.
***
والتطرف أو (الغلو) قديم، وكانت البداية بسبب شدة الحب للرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته، والحب يولد الأسطورة التى تحيط المحبوب بهالة من القداسة. وهذا ما نراه عند غلاة الشيعة. وقد تنبه الشهرستانى إلى هذا فقال: (الغالية هم الذين غلوا (أى بالغوا) فى حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخلق وحكموا فيهم بأحكام الألوهية) وقد نشأت تشبيهاتهم من مذاهب غير إسلامية شبهت الخلق بالخالق، وأفكارهم مثل: التناسخ، وعودة الإمام، وتشبيه الإنسان بالإله، والقول ببدء الخلق بإمام معين، فهذه أفكار كانت تتردد فى عقائد ومذاهب وديانات غير إسلامية.
وأستاذنا الدكتور على سامى النشار يفرق بين نوعين من الغلو عند الشيعة.. الغلو فى الحب، والغلو فى العقيدة، وفى أحيان كان الغلو فى الحب هو الذى أدى إلى الغلو فى العقيدة. فالغلو فى حب آل البيت لا يضير المجتمع الإسلامى أو العقيدة الإسلامية فى شىء، ولكن أن ينسب البعض النبوة أو الألوهيــة لواحــد مـن آل البيت، أو أن ينسب إليه العلم بما كان، وما هو كائن، وما سيكون، فإن ذلك هو المزلق الخطر.. ونحن نرى أن علماء أهل السنة والجماعة لم يستنكروا بعض فرق الشيعة، بل إننا نرى الإمام أبا حنيفة عالم الإسلام الكبير يؤيد الإمام زيد بن على فى خروجه على بنى أمية، ويمده بالمال والعون، ولم يكن أبو حنيفة شيعيا.. كذلك نرى الإمام الشافعى - وهو أبعد الناس عن التشيع - يردد:
لو كان رافضا حب آل محمد .. .. فليعلم الثقلان إنى رافض
شدة الحب لا ضير فيها، ولكن إذا أدى الغلو فى الحب إلى المساس بالعقيدة فهنا يكون المحظور.. وهذا ما وقع فيه غلاة الشيعة.
وفى كتاب (فاطمة الزهراء) الذى وضعه المرحوم توفيق أبو علم رسالة من العالم الشيعى الراحل محمد صــادق الصدر يتحدث فيها عن موقف الشيعة من حــب آل البيت فيقول: إنهم ذوو القربى للرسول صلى الله عليه وسلم - الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم من الدنس، وجعلهم أئمة حكماء يهتدى بهم، ويستضاء بأنوارهم إذا أدلهمّ الأمر وطغى الضلال بين الناس، وليس من الغريب أن يكونوا بهذه المنزلة الرفيعة التى رفعهم الله إليها، وهم جزء لا يتجزأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمهم من علمه، وأدبهم من أدبه، وأطلعهم على وحى الله وشريعته وأسراره، ويكفينا للدلالة على عظمتهم، عليهم السلام، أن حياتهم الشريفة، التى ابتدأت بأمير المؤمنين على، وختمت بالمهدى، كانت جميعها امتدادا واستمرارا لحياة جدهم الأعظم صلى الله عليه وسلم، وحياتهم المثلى كانت كلها وقفا على الشريعة والأمة والمصلحة العامة، فما أبقوا آية فى كتاب الله إلا أوضحوها، ولا حكما من أحكام الله إلا بينوه على وجهه الأكمل. وكان النبى الكريم صلى الله عليه وسلم يعرّف أمته منزلة أخيه (علىّ) فيقول: (أنا مدينة العلم وعلىّ بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه) ويقول:(أعلم أمتى من بعدى علىّ بن أبى طالب) ويقول: (يا علىّ أنت تبين لأمتى ما اختلفوا فيه من بعدى ) ويقول: (قسمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطى علىّ تسعة أجزاء والناس جزءا واحدا، وعلىّ أعلم بالجزء الواحد منهم).
ويقول محمد صادق الصدر أيضا: إن (عليّا) عليه السلام، مع قصر مدة خلافته، ومع المشكلات التى واجهته فى عهده، ترك من بعده (نهج البلاغة) الذى هو أعظم دستور للأمة الإسلامية، يرشدها للطريق المستقيم فى خطبه البليغة، وآرائه الصائبة، وكلماته القصار الحكيمة. وقد أبقى من أحكامه فى القضاء ما كان مصدرا يرجع إليه المجتهدون عند إصدار أحكامهم منذ صدر الإسلام إلى عصرنا الحاضر.
والإمام الحفيد (على زين العابدين) وهو فى أشد محنته، وفى أيام بنى أمية الظالمة لأبيه وجده، لا يضن على الأمة بالنصح، فيرشدها إلى الخير، وإلى كل عمل صالح، فى (صحيفته السجادية) الشهيرة، يوجه فى (زبور آل محمد ) إرشاداته للناس عن طريق المناجاة والدعاء إلى الله، وفى أدعيته البليغة من المعانى ما يحير العقول والألباب.
ويقول محمد إمام الصدر: جدير بالمسلم المؤمن ألا يخلو داره - بعد القرآن الكريم - من نهج البلاغة، ومن الصحيفة السجادية. وهما - بعد القرآن - توأما، وهما دون كلام الخالق والنبى صلى الله عليه وسلم، وفوق كلام المخلوقين.
ويقول عن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: لما ساعدته ظروفه، فتح بابه للناس، فكانت داره فى عصره الزاهر أعظم مدرسة للأمة، خرّجت الأعلام فى الفقه والتفسير والحديث وسائر العلوم الإسلامية، وقد كثر الرواة عنه من مختلف المذاهب الإسلامية، فكان أربعة آلاف رجل يقولون: حدثنى جعفر بن محمد. وقد جمع فى رواياته التى اتخذت عنه بدون واسطة أربعمائة كتاب تعرف عند الإمامية (بأصول الأربعمائة).
ويقول : ولكن الفتن الهوجاء فى تلك العصور لعبت دورها فى تلك الأخبار، ولولا لطف البارى عز اسمه بالأمة الإسلامية، لا نمحت تلك الآثار النبوية، ولكن الله تعالى هيأ أعلاما من حملة علوم أهل البيت نذروا أنفسهم لخدمة أئمتهم، فوقفوا أقلامهم وأفكارهم وأوقاتهم لجمع أحاديث (العثرة الطاهرة) بكتب كانت - ولا تزال - المصدر الفياض لكل مجتهد يرجع إليها عند استنباط الأحكام الشرعية. وهذه الكتب هى الكتب الأربعة: (الكافى) و(من لا يحضره الفقيه) و(التهذيب) و(الاستبصار) وهى خلاصة ما أمكن تحصيله من (أصول الأربعمائة) وهى للمحمدين الثلاثة الأوائل: محمد بن يعقوب الكلينى صاحب الكافى، المتوفى فى شهر شعبان سنة 329 هـ، وهــى السنة التى تــوفى فيهـــــــا أبو الحسن على بن محمد السمرى آخر السفراء الأربعة، وقد اشتمل (الكافى) على 16199 حديثا.
ومحمد بن على بن الحسين بن موسى القمى المتوفى سنة 381 هجرية، أدرك نيفا وعشرين سنة من غيبة الإمام المهدى الصغرى، وهو صاحب (من لا يحضره الفقيه) وقد اشتمل على 3913 حديثا مسندا، و 1050 حديثا مرسلا.. ومحمد بن الحسن بن على الطوسى شيخ الطائفة فى عصره هو صاحب كتابى (التهذيب) و(الاستبصار) المتوفى سنة 360 وقد اشتمل كتابه على 5011 حديثا.. وقام بعدهم محمد بن الحسن الحر العاملى صاحب (وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة) ومحمد الباقر المجلى صاحب (بحار الأنوار) ومحمد بن مرتضى المشهور بمحسن الفيضى صاحب (الواقى).
وهكذا نرى فيما ذكره العلامة الشيعى محمد صادق الصدر أمرين من أصول الشيعة: أولهما: درجة القداسة التى يخلعونها على الإمام علىّ ونسله، وثانيهما: أنهم يعتمدون فقط على الأحاديث النبوية عن الإمام علىّ والسيدة فاطمة الزهراء ونسلهما، ويرفضون مصادر الحديث الأخرى.
ويقـــول محمد صادق الصدر عن الاختلاف بين الشيعة: إن اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية، وشأنها فى ذلك شأن المذاهب الأربعة، فإن بعض المذاهب قد يرى فى المسألة الفهية رأيا، ويرى المذهب الآخر رأيا يخالف رأيه، وهذا طريق المجتهدين الذين يصلون إلى الحكم بحسب المستند الذى يكون مدركا لهم حين الاستنباط.. والواقع أن الحالة اليوم اختلفت كل الاختلاف عن السابق، فقد حدث كثير من التقارب والتفاهم، وصدرت عشرات المؤلفات التى تحمل هذه الروح الإسلامية الطيبة.
***
وحب آل بيت النبوة عند أهل السنة لا يقل عنه عند الشيعة، فالإمام الشافعى يقول:
يا أهل بيت رسول الله حبكم
ونور من الله فى القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القــــدر أنكم
من لم يصلِ عليكم لا صلاة له
والكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى له كتاب عظيم من جزأين عن الإمام علىّ وصفه فيه بأنه الشهيد الأسطورة، المثالى، الذى استقر فى ضمير الزمن، وهو أمير المؤمنين الذى اجتمع له من عناصر القدوة وشرفها ومن مقومات القيادة ونبالتها وشرفها ما لم يجتمع قط لحاكم. وهكذا كان فريدا، عالما، وحاكما، فسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيا.
وطه حسين له كتاب شهير: (على وبنوه) فى سلسلة الفتنة الكبرى تناول فيه بالمنهج العلمى تحليل الظروف القاسية التى جاء فيها الإمام علىّ بعد مقتل عثمان، وتطورات الأحداث التى انتهت إلى مقتل الإمام الشهيد.
أما العقاد فإن كتابه (عبقرية الإمام علىّ) أعظم ما كتب أهل السنة عن الإمام، وقد رأى فى سيرة ابن أبى طالب ملتقى بالعاطفة المشبوبة والإحساس المتطلع إلى الرحمة والإكبار، لأنه الشهيد أبو الشهداء، يجرى تاريخه وتاريخ أبنائه فى سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والهزيمة، ويتراءى للمتتبع من بعيد واحدا بعد واحد شيوخا جللهم وقار الشيب ثم جللهم السيف الذى لا يرحم، أو فتيانا عوجلوا وهم فى نضرة العمر يحال بينهم وبين متاع الحياة، بل يحال بينهم وبين الزاد والماء، وهم على حياض المنية جياع ظماء، وأوشك لمصرعهم أن يصبغ ظواهر الكون بصبغتهم وصبغة دمائهم، حتى قال شاعر فيلسوف كأبى العلاء: لا يظن به التشيع بل ظنت بإسلامه الظنون:
وعلى الأفق من دماء الشهيد
بن على ونجله شاهدان
فما فى أواخر الليل فجــرا
ن ، وفى أولياته شفقان
ويقول العقاد : إن فى سيرة ابن أبى طالب ملتقى بالخيال، حيث تحلق الشاعرية الإنسانية فى الأجواء، فهو الشجاع الذى نزعت به الشاعرية الإنسانية منزع الحقيقة ومنزع التخيل، واشترك فى تعظيمه شهود العيان وعشاق الأعاجيب.. وهو من أصحاب المذاهب الحكيمة بين حكماء العصور، وللذوق الأدبى، أو الذوق الفنى-ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة، لأنه رضوان الله عليه كان أديبا بليغا له نهج فى الأدب والبلاغة يقتدى به المقتدون.
هكذا نجد أن كل المسلمين يجمعون على حب النبى وآل بيته. والإمام على له من الحب نصيب كبير، لأن شخصيته وسيرته وعظمة مواقفه وشجاعته جعلت هالات النور تحيط به فى عيون المسلمين جميعا. وإن كان هناك من يكرهونه بقوة ومن يحبونه بقوة حتى بلغ حب بعضهم له أن رفعوه إلى مرتبة الآلهة المعبودين، وبلغ من كراهية بعضهم أن حكموا عليه بالمروق من الدين.. الروافض الغلاة يعبدونه وينهاهم عن عبادته فلا يطيعونه، ويستتيبهم فيصرون على الكفر، ويأمر بإحراقهم فيقولون وهم يساقون إلى الحفيرة الموقدة: إنه الله وإنه هو الذى يعذب بالنار!
وهناك الخوارج الغلاة يعلنون كفره ويطلبون منه التوبة إلى الله عن عصيانه، ويسبونه على المنابر كما سبه خصومه الأمويون الذين خالفوهم فى العقيدة ووافقوهم على السباب.. وعلى الجانب الآخر أصبح اسم علىّ علما يلتف به كل مغصوب، وينادى به كل طالب إنصاف، وقامت باسمه الدول بعد موته لأنه لم تقم له دولة فى حياته.. وفى ذلك كله كان الإمام علىّ أبلغ من وصف حاله فى حياته وبعد رحيله حين قال: (ليحبنى أقوام حتى يدخلوا النار فى حبى، ويبغضنى أقوام حتى يدخلوا النار فى بغضى) وحين قال: (يهلك فىّ رجلان: محب مفرط بما ليس فىّ، ومبغض يحمله شنآنى على أن يبهتنى).
***
وفى مرحلة من المراحل كان الخلاف بين السنة والشيعة قد وصل إلى درجة القطيعة، بل وإلى درجة العداء، وكان ذلك بسبب السياسة ومصالح أهل الحكم أولا، وبسبب جهل كل فريق بحقيقة موقف الفريق الآخر والجهل بجوهر الإسلام القائم على وحدة المسلمين وتحريم الفرقة بين صفوفهم مهما اختلفت اجتهاداتهم ومذاهبهم فى الفروع، وبسبب التطرف والغلو فى الجانبين.
ونحن فى مصر لا نعرف هذا الخلاف الغريب بين المذاهب الإسلامية - كما قال عبد الرحمن الشرقاوى - نحن لا نعرف غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه أئمة الدين، وما استنبطوه من أحكام. وإن الصلاة الواحدة لتقام عدة مرات فى بعض بلادنا الإسلامية لأن إتباع كل مذهب لا يصلون إلا خلف إمام من أهل المذهب! وإن أتباع بعض المذاهب السنية لا يتزاوجون فى بعض تلك البلاد الإسلامية.. أما نحن فى مصر، فنحن أهل سنة، ومريدون، ومحبون لآل البيت فى الوقت نفسه، ولا نجد فى هذا تناقضا. ونحن نصلى وراء الإمام الصالح شيعيا كان أو سنيا، مالكيا كان أو حنفيا أو شافعيا أو حنبليا أم ظاهريا.. نحن ننتمى إلى الإسلام ونحترم كل أئمته على السواء.. لا نفرق بين أحد منهم.. ولا نعرف هذا الخلاف بين المذاهب.
والقانون المصرى أخذ فى الأحوال الشخصية من فقه الشيعة الزيدية، كما أخذ من فقه الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، ومن فقه كل الأئمة: مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وابن حنبل، وابن حزم الظاهرى، وابن تيمية (الحنبلى).
***
والحقيقة أن نشأة الشيعة كانت فى بدايتها لأسباب سياسية تتعلق بالحكم ومن الأحق به، لكن الخلافات السياسية فى المجتمع الإسلامى قديما وحديثا سرعان ما تكتسب صبغة دينية، وسرعان ما ينشأ فرع من فروع الفقه يساندها ويؤيدها ويدعمها بالحجج والأسانيد الشرعية، ونحن نلاحظ اختلاط الفقه بالسياسة فى مذاهب الشيعة والسنة أيضا، كما نلاحظ أن المؤيدين والمعارضين للحكام أو لأنظمة الحكم لا يكتفون بالمعارضة السياسية ولكن يستندون إلى القرآن والسنة والتفسير وأقوال السلف الصالح.
وهذا ما يفسر تمسك الشيعة حتى اليوم بموضوع أحقية الإمام على ونسله بالحكم، رغم مرور مئات السنين، وانتهاء الخلاف التاريخى بين علىّ ومعاوية ونسلهما، ورغم اختلاف نظم الحكم فى العصر الحديث، فلم يعد الحكم سلطة دينية، وإن كان ملتزما بعدم الخروج على الشريعة، فالانتخابات مثلا، والأحزاب السياسية، والصحافة والقيادات السياسية التى تصعد إلى مقدمة النظام دون سند من الميراث، والمجالس النيابية، والسماح بوجود معارضة.. إلخ كل ذلك لم يكن قائما فى صدر الإسلام، ولكن التطور السياسى والاجتماعى أفرز هذه النظم، وأعطى لعامة الناس الحق فى المشاركة فى الحكم فى إطار الديمقراطية.. رغم كل هذه النظم التى أصبحت نظما عالمية تطبق فى الدول المتقدمة، وتفرضها طبيعة الحضارة الحديثة، حتى أن دولة مثل إيران تطبق الفكر السياسى والدينى الشيعى لم تستطع أن تتجاهل النظم والمبادئ والأفكار السياسية الحديثة، فهى تأخذ بالانتخابات، وفيها صحافة، ومجلس تشريعى و.. و..
بذلك فإن محبة سيدنا علىّ ونسله لا يجوز أن تكون سببا فى الخلاف بين المسلمين، بعد أن زالت أسباب هذا الخلاف، ولم يعد أغلبية المسلمين يفكرون فى أحقية أحد فى حكمهم بالأمر الإلهى، فالحكم اليوم يتقرر بالانتخابات وبإرادة الشعوب، ومبدأ تداول السلطة يتعارض مع مبدأ الحق الإلهى فى الحكم الذى ينتمى إلى العصور الوسطى، حين كانت الكنيسة تؤيده وتسبغ على الملك قدسية إلهية وتصوره على أنه ظل الله فى الأرض، وأنه لا ينطق عن الهوى.. اليوم ليس هناك قبول لفكرة وجود إنسان هو ظل الله على الأرض.. ولا لفكرة توريث السلطة إلى الأبد بالأمر الإلهى، وهذا لا يتعارض أبدا مع ما للإمام علىّ من مكانة ومحبة لا يدانيه فيها أحد، ولا يختلف عليها أحد من المسلمين اليوم وإلى يوم الدين.
ثم إن الإمام علىّ هو الذى حسم الخلاف بنفسه، حين أعلن أمام الجميع قبوله مبايعة الخليفة الأول أبى بكر الصديق، ثم من بعده بايع الخليفة الثانى عمر ابن الخطاب، وبايع الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضى الله عنهم جميعا، وكان بذلك حريصا على جمع كلمة المسلمين، والحفاظ على وحدتهم، إلى أن صار الأمر إليه، وقبل أن يكون أمير المؤمنين تحت ضغط وإصرار المطالبين بسرعة القصاص من قتلة عثمان، وإن كان الذين طالبوه بقبول الإمارة هم الذين تخلوا عنه أو انشقوا عليه، أو عارضوه، فهذا أمر انتهى زمنه، والحكم على الجميع لله وحده، ويمكن دراسة هذه الأحداث على أنها أحداث تاريخية يمكن أن نستخلص منها الدروس والعبر، ولكن لن نستطيع استعادة الماضى مهما كان مبلغ الألم الذى نشعر به كلما تذكرنا ما وقع للإمام علىّ وللإمامين الحسن والحسين ونسلهما.. فالحكم بالصواب والخطأ ينصب على الماضى وليس على الحاضر والمستقبل، ومحاكمة المخطئين والمجرمين محاكمة تاريخية وليست محاكمة واقعية لأنهم لم يعودوا موجودين أو مؤثرين فى حياتنا.. ونحن الآن أحرار نستطيع أن نحتفظ بالحب بلا حدود لآل البيت، وندير حياتنا فى نفس الوقت بما يتفق مع العصر وما يحقق مصالحنا.
وباختصار: لا معنى لأن نجعل الماضى يحكم الحاضر ويتحكم فى المستقبل.
وقد يكون هناك من له رأى آخر.. وهذا حقه.
وللحق فإن الذين يثيرون هذه الخلافات بين المذاهب الإسلامية يضرون الأمة والإسلام جميعا.. فالمسلمون فى حاجة إلى أن يجتمعوا على كلمة سواء، ويكفى ما هم فيه من محنة تشتد عليهم من أعدائهم، كلما تفرقوا..*