هذه جريمة.. فمن المجرم؟
لا يمكن أن توجد جريمة بدون وجود مجرم.
وما فعلته قوات الاحتلال الأمريكية بالشعب العراقى هو جريمة حرب كاملة الأركان.. فمن المجرم؟
وزيــر الدفاع - دونالد رامسفيلد- كـان على علم بالجـرائم التى ترتكبهـا قواته، وكانت أمامه تقارير وصور وأفلام فيديو بالصوت والصورة، واعترف هو بذلك أمام لجنة الكونجرس، واعترف بأن لديه أدلة على ما هو أكثر بشاعة من كل ما أعلن فماذا فعل..؟ تستر على الجرائم.. أليست هذه جريمة.. جريمة التضليل وإخفاء الحقيقة والتستر على المجرمين؟ بل أليست هذه قرينة على أنه كان متواطئا، أو هو الآمر بارتكاب هذه الجرائم.. ولا بد من تحقيق لمعرفة دوره الحقيقى ومسئوليته على وجه التحديد؟.
وإذا كان هو الذى قال أمام لجنة الكونجرس: إنه مسئول مسئولية كاملة عما جرى فكيف يمكن تجاهل ما يعنيه ذلك الاعتراف وما يترتب عليه؟
وحتى بدون اعتراف، فإن المبدأ القانونى أن المتبوع مسئول عن أعمال تابعه.. بمعنى أن قائد السجن مسئول عما يرتكبه من هم تحت قيادته.. والقائد العام لقوات الغزو مسئول عن كل ما فعله ويفعله جنوده من قتل وتدمير وانتهاك للأعراض وتعذيب للمسجونين وغيرهم.. ورئيس الأركان مسئول عن أعمال كل من هم تحت قيادته.. ووزير الدفاع مسئول مسئولية كاملة ومباشرة.. سياسيا وجنائيا.. والرئيس مسئول مسئولية سياسية لا يستطيع التنصل منها، لأنه هو المسئول الأول عن وضع سياسة بلاده الخاصة بأسلوب معاملة جيوشها مع (الأعداء) و(الأسرى).. والمفروض أن تكون هذه المعاملة ملتزمة باتفاقيات جنيف، وبالقانون الدولى، وبحقوق الإنسان، وبالقيم الحضارية والأخلاقية للدولة.. والرئيس هو المسئول الأعلى عن وضع نظام فعّال ودقيق للرقابة على القوات لكى يتأكد من أنها تعمل وتتعامل وفق تقاليد العسكرية الأمريكية وبما يليق بشرف العسكرية الأمريكية.. وإذا تغافل أو تهاون فى ذلك فإنه يكون قد أهمل إهمالاً جسيماً فى أداء مسئولياته الدستورية. ويجب ألا ننسى أنه الرئيس الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذى أصدر الأمر بالغزو.
ولا يمكن الاعتذار بعدم العلم، لأن القاعدة القانونية هى (العلم المفترض) أى أن المفترض أن يعلم الرئيس بما يدور فى بلاده وما ترتكبه قواته فى ميدان القتال.. وينطبق ذلك على وزير الدفاع أيضا، خصوصا أن جيشا مثل الجيش الأمريكى من المتوقع أن يكون على أعلى درجات التنظيم والانضباط والالتزام بالتقاليد العسكرية.. ولا يمكن أن يتصرف أفراد هذا الجيش من تلقاء أنفسهم، لأنهم - فى النهاية - ليسوا عصابات أو شراذم، ولكنهم قوات نظامية مفروض أن تخضع لأقصى درجات الانضباط، ولا يمكن تصور قيــام جنــدى فى دولة متحضرة بعمل شائن إلى هذا الحد بدون أوامر مباشرة وصريحة ومحددة، ولا يمكن أن يتجاوز حدود الأوامر الصادرة إليه قيد أنملة.. ولا يمكن تصور أن يقوم جندى لدولة متحضرة بأن يضع هو سياسة عقابية للمسجونين والأسـرى تختلف عن سياسة بلده.. ولا يمكن تصور أن يصدر عن جندى عمل همجى وإجرامى إن كانت حضارة بلده تأبى ذلك وتحترم القانون وحقوق الإنسان.
والتقارير الرسمية السرية التى تسربت إلى الصحافة الأمريكية كشفت عن أن عمليات التعذيب كما قال عنها الرئيس الأمريكى: إنها تثير الاشمئزاز وتجلب العار، وكما قالت عنها السيدة قرينته: إنها مقززة ولا يمكن مشاهدة صورها، وذكرت التقارير، كما شهدت المجندة التى ظهرت فى بعض الصور بأن هذا التعذيب كان يتم بناء على أوامر تقول (اجعلوهم يرون الجحيم) وأن السجون كانت تعمل بلائحة تعذيب تشمل: الضرب، ونزع ملابس السجناء وإبقاءهم عرايا، وإجبار الرجال على ارتداء الملابس الداخلية للنساء، وانتهاك أعراض الرجال والنساء، واغتصاب النساء علانية، والاعتداء الجنسى على الرجال، وإجبارهم على اللواط، وعلى ممارسة العادة السرية أمام زملائهم، وعلى التكدس فوق بعضهم وهم عرايا، وتوصيل أسلاك الكهرباء بأجزاء حساسة فى أجسامهم، وإجبار السجين الكبير على اغتصاب طفل أمام المسجونين، وربط أعناق الرجال بسلاسل الكلاب وسحبهم وهم يزحفون على الأرض، واستخدام الكلاب الحربية المتوحشة المدربة على نهش لحم (العدو)، ووضع العصى فى الشرج، وكل ذلك يتم تصويره بالكاميرات وبالفيديو لرفع الصور مع التقارير إلى القيادات العليا.
هذا بعض ما نشرته الصحف. وبعض ما كشف عنه محارب شريف هو الجنرال أنطونيو تاجوبا لم يحتمل ضميره وشرفه العسكرى أن يسكت عن هذه الجرائم، فقال بعض الحقيقة أمام لجنة الكونجرس.
والآن..
ما قيمة أن نردد بأن ذلك انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف وللقانون الدولى، وللضمير الإنسانى؟
وما قيمة أن نكرر أن هذه ممارسات لا أخلاقية، ولا إنسانية، فالحرب الأمريكية فى العراق منذ بدايتها غير قانونية، وغير أخلاقية؟
وما قيمة أن يصيح العراقيون بأن سجون بوش لا تختلف عن سجون صدام.؟
وما قيمة أن نخرج فى مظاهرات ومسيرات؟.. وهل الكلمات هى الثمن المناسب لأرواح وكرامة وشرف شعب؟.
لا قيمة لكل قول إذا لم يعلن القادة العرب بصوت واحد.. عالٍ.. مدوٍ.. يسأل الأمريكيين: لماذا أرسلتم جيوشكم للإطاحة بالدكتاتور الذى كان يعذّب العراقيين ما دمتم أنتم أيضاً تعذبون العراقيين؟ أين ما أعلنه الرئيس الأمريكى من أن مهمة قواته فى العراق مهمة إنسانية نبيلة لتخليص العراقيين من قسوة حكم الدكتاتور وسجونه وإعادة الحرية والديمقراطية، وإعادة ثروة العراق للعراقيين وليس لعصابات المغامرين والنصّابين؟!
لا بد من عمل سياسى واسع النطاق فى جميع أنحاء العالم، للضغط على الولايات المتحدة، لأنها الدولة الوحيدة التى ترفض دخول المنظمات الدولية فى سجونها فى العراق وجوانتانامو وأفغانستان وفى سائر القواعد العسكرية الأمريكية فى العالم.
والولايات المتحدة هى الدولة التى ترفض التوقيع على اتفاقية إنشاء محكمة جرائم الحرب الدولية.. وهى الدولة الوحيدة التى تستثنى جنودها من المثول أمام هذه المحكمة أو المحاسبة على جرائم الحرب التى ارتكبوها ويرتكبونها. وهم بذلك يحملون تصريحا بارتكاب جرائم الحرب.
وآخر دليل على أن التعذيب وانتهاك كرامة الإنسان سياسة دولة وليست تصرفات فردية أن الحكومة الأمريكية عينت الجنرال ميللر قائد معسكر التعذيب فى جوانتانامو قائدا لسجن أبو غريب! مما يعنى أن التعذيب سوف يستمر ويزداد بشاعة.!
لقد حوكم أكبر القادة العسكريين والسياسيين على جرائم الحرب التى ارتكبوها فى يوغسلافيا، وكمبوديا، وأفريقيا، فلماذا لا يحاكم الأمريكيون؟
ولا أقل من أن تذهب الدول العربية إلى الأمم المتحدة لاستصدار قرار بإدانة هذه الجرائم، وبتشكيل محكمة لمحاكمة مجرمى الحرب فى العراق كما حدث فى يوغسلافيا وكمبوديا.
ولا أقل من أن تعلن الدول العربية عدم قبول التحقيقات والمحاكمات التى تجريها وزارة الدفاع الأمريكية، لأنها هى المتهم.. وليس معقولاً أن يحاكم المتهم نفسه..
ثم إن العالم فقد المصداقية فى كل ما يصدر من الإدارة الأمريكية الحالية بعد سلسلة الأكاذيب المتتالية..
والعرب ما زالت فيهم حياة.. وما زالت لديهم أوراق.. وما زالوا قادرين على أن يقولوا (لا) للقوة الطاغية. *
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف