قاضٍ دخــل التـاريخ
فى هدوء رحل واحد من أعظم قضاة مصر، رغم أنه أثار فى حياته الزلازل التى هزت ما كان مستقرا فى الحياة السياسية والاقتصادية.. وترددت توابع هذه الزلازل فى دول كبرى أخذت عنه وتأثرت بالإبداع التقدمى فى فكره القانونى.
الدكتور عوض المر..
الرجل الهادئ، ذو الصوت الخفيض، الخجول، المتواضع، والحريص على البعد عن الأضواء، الذى لم يترك ثروة أو قصورا أو أرصدة فى الداخل أو الخارج.. لكنه ترك ثروة أخلاقية وقانونية جعلته يدخل التاريخ.
عندما أصدر الحكم بعدم دستورية القانون الذى تمت على أساسه انتخابات مجلس الشعب أشفق عليه كثيرون، لكن الرئيس مبارك سرعان ما أصدر قراره بتنفيذ الحكم وإجراء استفتاء لحل مجلس الشعب وإعداد قانون جديد، سألته عن شعوره وقد فعل ما لم يفعله أحد قبله، فقال ببساطة: لم أفعل شيئا سوى الحكم وفقا للدستور.. الشجاعة تنسب لمن احترم الحكم ولم يتردد فى تنفيذه وأثبت أن مصر فعلا دولة القانون وأن الدستور فوق الجميع.
ثم أصدر بعد ذلك حكما ثانيا بعدم دستورية القانون الجديد الذى أجريت على أساسه انتخابات مجلس الشعب، وللمرة الثانية قرر الرئيس مبارك إجراء استفتاء لحل مجلس الشعب وإعداد قانون جديد، وسألته عن شعوره فقال: أنا لست سوى قاض..
وسئل يومها : هل أصبحت تحكم مصر؟ فأجاب: هذا ما قالوه للمحكمة العليا الأمريكية، والإجابة: القضاء لا يحكم البلاد، المحكمة الدستورية رقيب على أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية فى مجال التشريع.. لا أكثر.. ولا أقل!
والدكتور عوض المر دخل التاريخ بشجاعة الأحكام التى أصدرها، وأصالة الفكر الدستورى التقدمى الذى أبدعه، وجعل النص الدستورى فيه حياة وحيوية وقابلا للتطور مع التطور الاجتماعى والاقتصادى.
هو الذى حكم بعدم دستورية قانون تسوية الحراسات الصادر سنة 1973 والذى جعل الحد الأقصى للتعويض عن الممتلكات التى صادرتها الحراسة 30 ألف جنيه، وقال: إن فى ذلك مصادرة للممتلكات التى تزيد على 30 ألف جنيه مما يتعارض مع الدستور، ويجب صرف التعويض كاملا مهما بلغت قيمته.
وحكم بعدم دستورية قانون الضرائب وترتب على ذلك رد سبعة مليارات جنيه للمواطنين، وكان رد رئيس الوزراء، الدكتور كمال الجنزورى وقتها- وقف الاعتمادات الخاصة باستكمال مبنى المحكمة الدستورية الجديد، وكان هذا المبنى من أحلام الدكتور عوض المر، ولما علم الرئيس مبارك - بعد خروج الدكتور الجنزورى، أمر باستكمال المبنى وقام بافتتاحه فى احتفال مهيب.
وهو الذى حكم بعدم دستورية القانون الذى أعطى لرئيس الجمهورية سلطة تعديل جدول ضريبة الاستهلاك، وحكم بإسقاط القرارات الجمهورية التى صدرت بناء على هذا القانون.
وحكم بعدم دستورية القانون الذى كان يعطى لمصلحة الجمارك الحق فى عدم رد البضائع المصادرة حتى بعد التصالح مع المخالفين.
وحكم بإلغاء القانون الذى كان يعطى لوزير الداخلية سلطة تحديد إقامة الشخص فى جهة معينة إذا كان سبق اتهامه أكثر من مرة، وكذلك سلطة منعه من الإقامة فى جهة معينة، أو إعادته إلى موطنه الأصلى، أو منعه من التردد على أماكن معينة، أو حرمانه من ممارسة مهنة أو حرفة معينة.
وهو الذى حكم بإلغاء النص فى قانون الأحزاب الصادر سنة 1977 الذى كان يشترط ألا يكون من مؤسسى الحزب، أو من قياداته، من دعا أو يدعو بأية طريقة لمبادئ أو اتجاهات أو أعمال تتعارض مع معاهدة السلام مع إسرائيل.
وهو الذى حكم بإلغاء النص فى القانون الذى كان يحاصر الصحفيين بإلزامهم بتقديم الدليل على صحة اتهام المسئول خلال خمسة أيام فقط من إعلانه وألا يسقط حقه فى إقامة الدليل على صحة الاتهام!
وهو الذى حكم بعدم دستورية قانون الإدارة المحلية الذى أجريت انتخابات المجالس الشعبية المحلية على أساسه، وترتب على ذلك حل المجالس الشعبية المحلية، وإعداد قانون جديد، وإجراء انتخابات جديدة، وكان لذلك دوى كبير فى عام 1996.
وهو الذى حكم بعدم دستورية فقرة فى قانون العقوبات كانت تفرض العقوبة على رئيس التحرير أو المحرر المسئول. وأرسى مبدأ حرية التعبير إلى حد حرية نقد المعاهدات ومناقشتها ونقدها حتى إذا كان إقرارها قد تم باستفتاء شعبى عام، لأن إباحة النقد حرية عامة دستورية، لكل مواطن أن يمارسها فى حدودها المشروعة، بل إن مساهمة المواطن فى الحياة السياسية واجب وطنى بنص الدستور، وكل رأى يحتمل القبول أو الرفض، وعلى ذلك فإن لكل مواطن حق الموافقة أو عدم الموافقة على ما يجرى عليه الاستفتاء. ولا يجوز أن تكون ممارسة المواطن لإحدى الحريات المقررة بالدستور سببا لحرمانه من حق من حقوقه الدستورية أو حرية أخرى من الحريات التى قررها الدستور.
وهو الذى أرسى مبدأ حرية التعبير عن الرأى الذى يمثل رقابة شعبية على أعمال وتصرفات السلطة الحاكمة، وحرية الرأى هى الأصل الذى تتفرع عنه حرية النقد، وحرية الصحافة والطباعة والنشر، وحرية البحث العلمى، وحرية الإبداع الأدبى والفنى، وحرية الاجتماع، والحق فى مخاطبة السلطات العامة، وحرية الرأى هى الأساس لمباشرة الحقوق السياسية وتكوين الأحزاب وحق الانضمام إليها، وحق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأى فى الاستفتاءات..وقيام الأحزاب السياسية هو تعبير عن اختلاف الرأى تحتمه طبيعة الديمقراطية، ولو لم ينص الدستور صراحة على حرية تكوين الأحزاب.
وهو الذى أرسى مبدأ الحماية الدستورية للحق فى إبداء الرأى بحرية فى كل ما يتصل بالشئون العامة وانتقاد أعمال القائمين عليها. وقرر مبدأ أنه لا يجوز أن يكون هناك قانون يعوق حرية التعبير وحرية النقد لمظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو المنصب.
وهو الذى أرسى مبدأ ضمان الفرص المتكافئة للحوار، وقال: إن الطريق إلى السلامة القومية يكمن فى ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح لمواجهة المشاكل واقتراح الحلول لها، وليس لأحد، أو لسلطة، فرض الصمت على أحد حتى لو كان بقانون، وقال: إن حوار القوة إهدار للأمل ولسلطان العقل ولحرية الإبداع، والقوة تولد الرهبة التى تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه وتكشف عن الرغبة فى القمع.
وهو الذى قرر أن انتقاد القائمين بالعمل العام - وإن كان نقدا مريرا- يتمتع بالحماية الدستورية بما لا يجاوز الغرض المقصود من كفالة هذه الحرية.
وهو الذى حسم الادعاء بأن كل نقد ليس نقدا بناء وقرر أنه ليس من حق السلطة أن تعتبر الآراء المعارضة لها نقدا هداما، وليس للسلطة الحق فى إصدار حكم بأن هذا رأى بناء وهذا رأى هدام، والنقد الهدام هو الذى يتضمن الحض على أعمال غير مشروعة تنطوى على مخاطر واضحة لمصالح حيوية.
وهو الذى قرر مبدأ الحق فى الحصول على المعلومات وعدم حجب المعلومات وذلك تأكيدا لمبدأ الرقابة الشعبية. وقرر مبدأ حق كل مواطن فى انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير، ولا يجوز إصدار قانون يعوق حرية التعبير عن الآراء ولو كانت السلطة تعارضها. وقرر أن الشطط فى بعض الآراء لا يستوجب إعاقة تداولها.
والسجل حافل بالأحكام والمبادئ التى تمثل فخرا للقضاء المصرى.
واليوم نقول له: شكرا.. وسلام عليك مع المخلصين من أصحاب المبادئ والضمائر.. وهم مع الأنبياء وأصحاب الرسالات.. وجزاؤهم ليس فى الدنيا.. ولكنهم سيلقون الجزاء الأوفى ممن خلق الإنسان ومنحه الضمير والكرامة وأمره بأن يقيم العدل فى الأرض. فطوبى لمن أقام العدل على الأرض.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف