فيتنام أخرى فى العراق!
أمريكا التى تعلم العرب الديمقراطية وتطـالبهم بإطـلاق حرية الرأى وحرية الصحافة فرضت حظرا على نشر صور جثث جنودها القتلى فى العراق، أو صور الصناديق التى تحمل هذه الجثث سرا لتسلمها إلى أهالى الجنود فى الخفاء، أو نشر الأرقام الحقيقية لأعداد القتلى فى المعارك الدائرة الآن بين القوات الأمريكية والمقاومة العراقية. ولم يغير ذلك هجوم المرشح الديمقراطـى جون كيرى الذى اتهم الرئيس بوش بإخفاء العواقب الخطيرة المترتبة على الحرب.
لكن صورة التقطتها خلسة موظفة أمريكية فى مطـار الكويت الذى يستقبل صناديق الجثث لشحنها إلى أمريكا، وتسربت الصورة إلى الصحافة الأمريكية، واضطرت الحكومة إلى السماح بنشرها.
فكان لنشرها دوى اهتز له المجتمع الأمريكى الذى لم يكن يعرف الحجم الحقيقى للخسائر من (الأولاد)، لأن الأمريكيين صدقوا الرئيس بوش حين قال لهم: إن (الأولاد) ذاهبون إلى نزهة فى العراق، وصدقوه حين قال لهم إنه حقق النصر المبين فى العراق وأطلقوا عليه اسم (رئيس الحرب).. وظل الأمريكيون فى غيبوبة بسبب التعتيم الإعلامى والقيود المفروضة على النشر، والرقابة التى تحظر الأخبار السيئة وتسمح فقط بنشر أخبار التدمير وقتل العراقيين، تماما كما يحدث فى دول العالم الثالث!
ولكن سياسة الكذب والخداع لابد أن يكون لها آخر.
وهكذا انكشف المستور، وبدأت الصحف الأمريكية تعقد المقارنة بين الورطة فى العراق والورطة فى فيتنام، بل إن محللا سياسيا كبيرا مثل بول كروجمان كتب يقول إن هناك أوجه تطابق بين ما يحدث فى العراق وما حدث فى فيتنام وإن ما يحدث فى العراق يبدو أسوأ من بعض النواحى. لأن الضغط الذى يضعه العراق على العسكرية الأمريكية أكبر. فقد كان الجنود الأمريكيون فى فيتنام يذهبون لفترات قصيرة ويعودون بعدها إلى حياتهم المدنية ويذهب غيرهم وهكذا، أما فى العراق فالقوات الأمريكية تتكون من متطوعين لفترات طويلة ومن الاحتياطى، وجميعهم لم يكونوا يتوقعون أن يذهبوا للقتال فى بلاد بعيدة عبر البحار لا يعرفون عنها أو عن أهلها شيئا، وفوق ذلك فإنهم ليسوا مستعدين لقتال الشوارع وحرب العصابات.
والحملات على الإدارة الأمريكية تعقد المقارنات بين السياسة المالية لكل من الرئيس الأسبق ليندون جونسون أيام حرب فيتنام والرئيس بوش فى حرب العراق، وتصل المقارنة إلى أن مأزق أمريكا فى فيتنام يبدو كأنه العصر الذهبى بالنسبة لما وصل إليه مأزق العراق وما يفعله الرئيس بوش الآن، فقد كان جونسون واضحا فى مواجهة تكاليف الحرب، فقرر فى سنة 68 زيادة الضرائب وخفض الإنفاق، وبذلك عالج العجز فى الميزانية. أما بوش فإنه يبدو غير مبال بزيادة العجز فى الميزانية، وقد استغل التوهج المبدئى للنصر الظاهرى فى العراق فقام بخفض الضرائب على الأغنياء ولم يعلن إلا بعد اعتماد الكونجرس للميزانية عن الاعتمادات الإضافية للحرب لمواجهة أعبائها المتزايدة، التى بلغت 87 مليار دولار، ولم يذكر شيئا عن مبلغ آخر بلغ 75 مليار دولار نتيجة اشتعال الحرب من جديد فى أنحاء العراق.. يقول بول كروجمان: إن هذا الخداع فى إعلان التكلفة الحقيقية لهذه الحرب ليس سوى جزء من عملية خداع أكبر، وإذا كانت فيتنام قد أدت إلى زعزعة ثقة الأمة فى مصداقية حكامها، وكان ذلك أسوأ من خسارة الحرب.. فإن ذلك يتكرر الآن وقد بدأ الأمريكيون يشعرون بحجم الكارثة: أسلحة الدمار الشامل غير موجودة، والصلة بالقاعدة غير مؤكدة، ودور أمريكا كمحررة للشعب العراقى ادعاء لا يصدقه الشعب العراقى، وليس لدى الإدارة خطة تحدد كيف ومتى يمكنها الخروج بسلام من مستنقع العراق وإنقاذ أرواح الجنود، وكان الدافع الحقيقى للغزو إظهار قوة أمريكا لكى تتربع على عرش العالم وتديره منفردة.. لكن ذلك لم يحدث، وبلغت الأمور درجة من السوء إلى حد أن بعض المسئولين فى البيت الأبيض يقولون: إننا لا نستطيع مغادرة العراق لأن ذلك سيكون مظهرا يكشف الضعف الأمريكى. وهذا هو منطق نيكسون فى فيتنام.. المكابرة.. والخداع.. وإسكات المعارضين للحرب باتهامهم بعدم الوطنية وبالعمل على إضعاف الروح المعنوية للجنود فى الميدان.. وتشجيع (العدو)..
هذا بالضبط ما لجأ إليه الرئيس بوش منذ أيام حين أعلن: أن الذى يقول إن هناك تشابها بين العراق وفيتنام إنما يشجع العدو ويضعف العسكريين الأمريكيين وهم يقاتلون!
وحتى صحيفة هيرالد تريبيون التى كانت مؤيدة للحرب كتبت افتتاحيتها يوم 12 أبريل بعنوان (فيتنام والعراق) وقالت فيها: إن أنصار الحرب بدأوا يتساءلون الآن: ماذا كان الهدف منها؟! فى فيتنام اعتمدت أمريكا على حلفاء ليس لهم تأثير ولا يمكن الاعتماد عليهم بينما كان الفيتناميون الشماليون مستعدون للقتال إلى الأبد، وتبين أن الولايات المتحدة وقعت فى فخ يصعب الخروج منه، وهذا ما يحدث الآن فى العراق، والأمريكيون مستعدون لتأييد بوش كرئيس للحرب إذا كانوا يؤمنون بالمهمة وهذا غير قائم الآن، وحالة الفوضى فى العراق تزداد بسبب التخبط فى السياسات والمواقف والقرارات منذ بداية الحرب.. وزاد الطين بلة تسريح الجيش العراقى، والاعتماد على قوات أمن عراقية تم تدريبها على عجل وهى غير مؤهلة لمواجهة الحالة الحالية، وفوق ذلك مشكوك فى ولائها لسلطات الاحتلال، وقرار بوش بالحرب بدون الأمم المتحدة وبدون مساندة دولية حقيقية، واكتفائه بمن يسميهم الحلفاء وهؤلاء الحلفاء لا يشاركون إلا مشاركة رمزية بأعداد صغيرة وغير جاهزة للقتال.. بل إن قوات الحلفاء هذه تحتاج إلى الحماية، فيما عدا القوات البريطانية فقط.
وتتساءل هيرالد تريبتون: إن الانطباع كان لدى الشعب الأمريكى بأن غزو العراق سيتم بدون تضحيات.. والنصر سيكون بدون خسائر.. ثم تبين أن ذلك ضمن سلسلة الأكاذيب مثل الادعاء بأن هدف الحرب تدمير أسلحة الدمار الشامل، ولما تبين الكذب تحولت الإدارة إلى القول بأن الهدف هو الإطاحة بديكتاتور مستبد، وبعد الإطاحة بالديكتاتور تحولت إلى القول بأن الهدف هو محاربة الإرهاب الدولى فى العراق. ولما تبين عدم صحة هذه الادعاءات كلها أصبحت تقول إن هدف الحرب إقامة الديمقراطية فى العراق وفى العالم العربى.. بينما لا يرى الشعب الأمريكى أن أمريكا تعتمد على قادة عراقيين يتمتعون بتأييد شعبى لإقامة هذه الديمقراطية، وحتى العملاء الذين فرضتهم فشلوا لأن موجة العداء للاحتلال الأمريكى امتدت إلى العملاء.. وبعد أن هدمت أمريكا كل شىء فى العراق لم يعد أمامها بد من أن تتفاوض معهم.. حتى مجلس الحكم فقد مصداقيته.
تقول الصحيفة: من الصعب تقبل موت الشباب الأمريكى فى العراق بينما تجمع دول العالم على رفض هذه الحرب وترفض مد يدها لإنقاذ أمريكا من ورطتها. ولم تبق سوى أيام معدودة على موعد تسليم السلطة الشكلية للعراقيين.. وحتى هذا الإجراء الرمزى الذى سيأتى بحكومة بدون سلطات ولا تمثل السيادة مع استمرار الاحتلال، فإن الولايات المتحدة لم تبدأ فى إعداد الترتيبات له.. ولم تبدأ فى اتخاذ إجراءات جادة لاشتراك الأمم المتحدة..
وتبدو الورطة الآن وقد بلغت ذروتها.. فأمريكا لا تستطيع الاستمرار فى التضحية بأبنائها بدون نهاية.. ولا تريد الخروج الآن حتى لا يبدو الخروج اعترافا بالهزيمة.. ولا تستطيع أن تقنع أحدا بمشاركتها فى هذه الورطة وتحمل أعبائها لكى تحتمى قوات الاحتلال فى معسكرات آمنة. ويموت غيرهم دفاعا عنهم (!).
ولذلك يبدو العراق فيتنام جديدة، والبعض يرى أنه أسوأ. *