بين السنة والشيعة.. هل تنجح الفتنة الطائفية؟
 

الاستعمار هو الاستعمار.
فى كل زمان وفى كل مكان يسعى إلى تطبيق مبدأ (فرق تسد)
وقد حاول الاستعمار البريطـانى أن يطبق هذا المبدأ فى مصر بإثارة الفتنة بين المسلمين والأقباط وفشل.. وما زال يحاول ويفشل، لأن وحدة شعب مصر أقوى من المؤامرة.
وحاول فى العراق إثارة الفتنة بين الشيعة والسُنّة وفشل، وما زال يحاول ويفشل، لأن شعب العراق الحر يرفض الاحتلال، كما يرفض الانشغال بالخلافات الطـائفية ويترك الاحتلال ليوطد قواعده ويستقر آمناً لعشرات السنين، ويتساقط العراقيون ضحايا فى الحرب الأهلية.
والاحتـلال الأجنبـى لم يفهم-ولن يفهم- أن الاختلافات بين المذاهب موجودة منذ مئات السنين.. بين طوائف السُنّة وبين طوائف الشيعة. وهذه الاختلافات تدور داخل اتفاق يجمع المسلمين جميعا على أركان ومبادئ لا يختلف أحد عليها. فالإسلام مظلة تنطوى تحتها الفرق والمذاهب الإسلامية.
وبعض الكتاب - مع الأسف - يستغلون جهل كثير من المسلمين بحقيقة الاختلاف والاتفاق بين السُنّة والشيعة، فيعملون على زيادة الفجوة بين الطائفتين، ويرددون أفكار وكتابات غلاة الشيعة من جانب والمتشددين القدامى والمحدثين على الجانب الآخر لغرس بذور الفتنة.. وعلى امتداد التاريخ هناك كتابات مدسوسة، وكتابات مسمومة، وكتابات نابعة من سوء الفهم أو سوء القصد أو المصالح الشخصية أو الدوافع السياسية.
وكان من حسن حظى أن تعرفت فى السبعينات على واحد من أئمة الشيعة هو الإمام محمد القمى، وهو إيرانى، يجيد اللغة العربية وعاش فى مصر سنوات طويلة، وكان المؤسس لجماعة التقريب بين المذاهب ومقرها فى الزمالك فى القاهرة، وعندما استقر فى إيران كان يزور القاهرة كل سنة لقضاء عدة أسابيع يلتقى فيها بشيخ الأزهر ووزير الأوقاف، ويدلى بأحاديث صحفية عن ضرورة تقريب الفجوة المصطنعة بين السُنّة والشيعة. ولأنى كنت قريبا من وزير الأوقاف فى ذلك الوقت، الدكتور عبد العزيز كامل يرحمه الله، وكان أستاذا كبيرا ومفكرا عظيما، ووطنيا مخلصا شديد الإخلاص لدينه ووطنه، فقد عرفنى على الإمام القمى، وأجريت معه عدة أحاديث صحفية للأهرام، كما حضرت لقاءاته مع شيوخ الأزهر ووزراء الأوقاف المتعاقبين بعد ذلك وكان من بينهم الإمام الشيخ متولى الشعراوى حين كان وزيرا للأوقاف والشيخ عبد العزيز عيسى حين كان أيضا وزيرا للأوقاف.
وكان لجماعة التقريب بين المذاهب نشاط ملحوظ فى مصر وإيران وقد أسس الإمام القمى فرعا لها فى طهران جذب عددا من القيادات الدينية الشيعية هناك.
لكن الإمام القمى انقطع عن زياراته إلى القاهرة بعد قيام ثورة الخومينى، لأنه بدأ يعارض الخومينى ونزعته المتشددة، وسياسته فى تصدير الثورة والعنف إلى البلاد الإسلامية، واشتد الخلاف بين الإمام القمى والثورة الإيرانية إلى حد أن خرج من إيران وأقام فى باريس معارضا للسياسة الإيرانية المتشددة وداعيا إلى الإصلاح ومحاربة الغلو فى التفسير، وأخيرا تخلصت منه الحكومة الإيرانية- قبل حكومة محمد خاتمى الرئيس الحالى- وأطلق عليه الرصاص من مجهولين وهو فى سيارته فى أحد شوارع باريس، فخسرت دعوة التقريب أقوى صوت وأهم جسر من جسور التواصل بين السُنّة والشيعة.
وسوف أعود إلى ذكرياتى مع الإمام القمى فيما بعد، ولكن المهم أن الرجل كان يؤمن بدعوته وبأنه يقوم بمهمة مقدسة تلبية لدعوة إلهية، وأنه يساهم بها فى حركة الإصلاح الإسلامى، وكان يردد دائما الآية الكريمة: (إنما المؤمنون أخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله، لعلكم ترحمون) الحجرات (10). ويقول فى تفسيرها: إن الجملة الأولى تقرر حقيقة هى أن المؤمنين أخـوة، ويجب أن يكونــوا كـــذلك دائمــا ما داموا مؤمنين، وهذا أمر ربهم، فإن لم يفعلوا فإنهم يخالفون بذلك أمر الله ويخرجون على طاعته. وليس لمسلم أن يكون له هدف يخالف هذا الهدف، أو أن يأتى بفكرة أو عمل يخرج بها عن مقتضيات هذه الأخوة لأى سبب من الأسباب.. والجملة الثانية من الآية تأمر بإصلاح ذات البين، أى أن يبعد المسلمون أنفسهم عن كل ما يمكن أن يفسد علاقة الأخوة التى قررها وقدرها الله بينهم، وفى ذلك تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن فساد ذات البين هى الحالقة).. والجملة الثالثة من الآية تأمر بأن يكون الإصلاح بين المسلمين فى ظل تقـوى الله، فتحذر بذلك من اتباع الأهواء، أو تغليب المصالح والمكاسب الدنيوية الزائلة، أو التمسك بالخطأ وادعاء من يسعى بالخلاف بين الأخوة بأنه على الصواب، وأنه لا يريد إلا الإصلاح بينما هو يريد الإيقاع بين المؤمنين، وتفريق صفوفهم، وإثارة النزاعات فيما بينهم.. أما الجملة الرابعة فإن الله يوجه فيها إلى الثمرة التى يفوز بها من اتبع أوامره السابقة، والثمرة هى رحمة ربنا (لعلكم ترحمون) والرحمة هى أعظم جائزة فى الدنيا وفى الآخرة (كلكم هالك إلا من رحمته).
***
أما دار التقريب بين المذاهب الإسلامية فقد تأسست سنة 1951 وكان سكرتيرها العام ثم رئيسها هو الإمام محمد القمى، وقد كتب عنه الشيخ محمد المدنى أستاذ الشريعة الكبير أنه رجل عاش للتقريب، وإنه كان أول من دعا إلى هذه الفكرة وهاجر وجاهد فى سبيلها، واشترك معه، وعاونه، عدد من كبار أئمة السُنّة والشيعة، أما ابن الإمام القمى (عبد الله) فقد ولد ونشأ فى مصر، وكان يقول: (يكفينى أنى بحكم مولدى ونشأتى فى مصر، لم أكن أعلم من هو السنى ومن هو الشيعى، سوى أننى مسلم، أؤمن بالله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وبالقرآن الكريم كتابا ومنهجا، وقد درست فيما بعد المسائل الاختلافية بين الفريقين، وهى فى مجملها خلافات فى الفروع الفقهية التى لابد أن توجد لاختلاف العقول والمناهج حتى بين أبناء المذهب الواحد عند الفريقين، والخلاف بين أهل الفقه رحمة للناس.
***
يقول الإمام القمى: إنه عندما بدأ نشاطه فى الدعوة إلى التقريب بين السُنّة والشيعة وجد هجوما من الذين يريدون إثارة العداء والبغضاء بين المسلمين، ووجهوا إليه أغرب التهم.. قال بعضهم إن دار التقريب من صنع الاستعمار البريطانى (!) وقال بعضهم الآخر إنها من صنع الاتحاد السوفيتى لتكون منفذا لنشر الشيوعية (!) وقال آخرون إنها من صنع المخابرات الأمريكية (!) بل قال البعض: إن هذه الدعوة فى عهد الملك فاروق كانت لنشر مذهب الطائفة الإسماعيلية وهدفها إعادة الحكم الفاطمى إلى مصر (!).. ويقول: كانت (الموضة) السائدة فى ذلك الوقت الإساءة فى تفسير أى عمل باتهامه بأن الاستعمار الإنجليزى وراءه، ويقول ردا على هذه التهمة: إن الإنجليز يعملون على التفرقة بين أبناء الدين الواحد وأبناء الوطن الواحد، ولو أنهم فكروا حقيقة فى العمل على التقريب بين المسلمين فكيف نرفض نحن هذه الدعوة؟
***
وخرجت فكرة التقريب من محيط العلماء إلى محيط أوسع هو المجتمع العام، وتحدثت عنها الإذاعات، والصحف، والمجلات..
يقول الإمام القمى: كان الإقدام على العمل للتقريب مجازفة خطيرة وكانت أمامنا أسئلة كثيرة: هل يقدر المسلمون على أن يعالجوا مشاكلهم بأنفسهم؟.. وهل هناك مبادئ فى صميم الإسلام تضمن للأمة الإسلامية وحدتها؟.. وهل يفهم المسلمون أن التقريب معناه نبذ كل خلاف أو أنهم لا يرون بأسا من وجود خلاف- لا يفسد الوحدة- قائم على دليل، ونابع من ذات الأصول التى يجمع عليها المسلمون والتى لا يحق لمسلم أن يختلف عليها؟.. وهل تتحكم المصلحة ويسيطر التعصب أو ينتصر العقل وتسود الحكمة وسعة الأفق؟.. وأخيرا.. هل يريد المسلمون أن يعيشوا معا أو يقبلون أن يتركوا أمرهم لأعدائهم؟.. وهل يدرك المسلمون أن أعداءهم يعرفون كيف ينتهزون الفرصة، ويستفيدون بموقف المتزمتين والداعين إلى جمود الفكر والفعل؟.
وكانت تجربة التقريب بين السُنّة والشيعة هى التجربة الأولى من نوعها فى هذا المجال، وكانت اختبارا لقدرة المسلمين على معالجة أمورهم، وحصار خلافاتهم بالوعى والرشد، ويكونون بذلك أهلا لحمل رسالة الإسلام.
ويقول: كنت أخشى أن تفشل الفكرة، وينتصر أنصار التفرقة وتوسيع الفجوة، فيلقى ذلك ظلا من التشكيك فى مبادئ الإسلام ذاته، فنظلم الإسلام، ونعطى للمغرضين الفرصة للحكم على الإسلام بتصرفاتنا وأخطائنا، وشتان بين الإسلام وواقع المسلمين.
ويقول: كان الوضع يثير الشجن.. الشيعى والسنى كل منهما يبتعد عن الآخر، ويعيش على أوهام ولدتها الظنون أو الشائعات أو السياسة ومصالح الحكام، أو روجت لها الدعاية المغرضة، وساعد على بقائها الجهل وقلة الرغبة فى الاطلاع على الحقائق عند الفريقين، وكانت الكتب المشحونة بالطعن والتجريح تتداول بين أبناء كل فريق، وتلقى القبول، خصوصا كتاب مثل كتاب الملل والنحل للشهرستانى الذى يتحدث عن طوائف وعقائد لا وجود لها على سطح الأرض، ويبدو كأنه يتكلم عن خلق آخرين فى كواكب أخرى غير هذه الأرض! وإذا ألّف واحد من أبناء الفريقين كتابا، لا يعرض إلا آراء مذهبه، وإذا أشار إلى مذاهب أخرى تكون إشارته طعنا واتهاما، وترديدا لما سمعه أو قرأه أو ورثه عن آبائه يردده دون تحقق أو تمحيص، وبذلك ساهم مؤلفون فى تضخيم الخلافات بين السُنّة والشيعة، حتى أصبحت كل دعوة لوحدة المسلمين تقابل بالشكوك والاتهامات، وكل ما يدعو إلى الفرقة يجد القبول.. ووصل الأمر إلى التشكيك فى أن مصحف الشيعة هو مصحف السُنّة، وشك كثير من أهل السُنّة فى أن يكون مصحف الشيعة هو المصحف الذى فى أيدى سائر المسلمين، ومع ذلك فلم يكلف أحدهم نفسه بالتقليب فى نسخة من ملايين النسخ من المصحف التى يتداولها الشيعة ويتعبدون بها، ولو قرأوها لذهب الشك وانتهت المشكلة، ولكنهم حكموا على شىء موجود بالظنون وتناقل أقوال فى كتاب مغرض مات صاحبه منذ قرون ولم يحقق أحد مدى الصدق والكذب فيه!
***
يقول الإمام القمى: ظلت الفرقة بين المسلمين، لأنها كانت تناسب الحكام على مدى قرون، وكان الحكام يستغلونها لتثبيت سلطانهم، ثم جاءت السياسات الأجنبية، وجاء المستشرقون ليكملوا المهمة بدس السموم التى انخدع بها البسطاء، فكان بعضهم يحكم على البعض الآخر، بما كتبه هذا المستشرق أو ذاك.
هكذا وقع المسلمون فى فخاخ المستشرقين من ناحية، والمؤرخين الدساسين ومروجى الأوهام من ناحية أخرى، وانخدع كثيرون بما فى بعض الكتب القديمة من أكاذيب وسيطرت عليهم هيبة القديم والمألوف، فحرموا أنفسهم من واجب التفكير فيما ردده هؤلاء وهؤلاء.. وفقدوا الحق فى أن يكون لهم تفكير مستقل يقرأ ويرى ويحكم بما يلمسه فى الواقع وليس بما قاله الآخرون.
يقول الإمام القمى: ليس لمسلم أن يبتكر اسما لله لم يرد عن الله، أو أن يبتدع عبادة لم يشرعها الله، أما البحث والتفكير، فقد فتح الله أمام المسلم أبوابهما ودعاه إلى التفكير والنظر، وعدم الحكم على الأمور بالظن أو بالسماع.. ودعانا ربنا إلى نبذ التعصب الطائفى، وعلينا أن نتذكر أن الذين حكموا باسم الخلافة الإسلامية قرونا طويلة كانوا يرون أن آل على رضى الله عنه هم المعارضون لهم، فكانوا يسيئون إلى شيعة على، ويستخدمون الأقلام والألسنة ضدهم، حتى أوجدوا حول الشيعة كثيرا من الخلط والتشويش.. وكان من الممكن لأى مصلح أن يمنع شر التفرق، ولكن القوة التى كانت بيد الخلفاء، والقوة التى كانت لبعض الحكام الأجانب بعد ذلك.. حالت دون التقريب..
***
يقول الإمام القمى: نعم كانت هناك أحداث صورت على غير حقيقتها فزادت من الفرقة.. وعلى سبيل المثال حدث أن ذهب شاب لأداء فريضة الحج، وكان قد قطع مراحل من سفره سيرا على قدميه، وعندما وصل إلى البيت الحرام غلبه القىء فتلقاه فى ملابس الإحرام حرصا على طهارة البيت، ولكن حظه السيئ جعل أحد الطائفين يخيل إليهم أنه يحمل ما يحمل يريد به تلويث البيت فصاح فى الناس، فهاجوا وتجمعوا عليه، وشهدوا عليه بما كان بريئا منه، وقتلوه وهو فى رحاب الحرم الشريف، ومن دخله كان آمنا، لكن ذلك كان بسبب سوء ظن طائفة بطائفة، وإثارة العصبيات هى التى تقطع الصلات بين أبناء الدين الواحد.. ومع أن هذه حادثة فردية، وعلى غير أساس.. فإنها أثرت فى كثير من المفكرين تأثيرا كانت له عاقبة محمودة، فقد أراد الله للمسلمين أن يلمسوا بأنفسهم موضع الداء.. داء التفرق المذهبى، فكانت هذه الواقعة- بعد أن تكشفت الحقيقة- حافزا للتفكير والعمل، وكثيرا ما يأتى الشر بالخير، فقد تساءل العقلاء: كيف تعيش أمة متفرقة تعادى بعضها بعضا فى عالم الأقوياء؟.. وكيف يمكن أن نقدم للعالم مبادئ الإسلام، بينما الإسلام فى حرب بين أبنائه وأنصاره داخل بلادهم؟.. وكيف نقنع العالم بأن الإسلام دين التسامح إذا كان التسامح مفقودا بين المسلمين أنفسهم؟.
يقول الإمام القمى: من هنا جاءت فكرة التقريب.. فقمنا بدراسة المشاكل الطائفية، والكتب المعتمدة عند الشيعة والسُنّة لنحدد الطوائف التى تتفق فى الأصول الإسلامية، ودرسنا أيضا الخلافات الفقهية فى الفروع.. وتوصلنا إلى أن الهدف هو توحيد صفوف المسلمين على الأصول والمبادئ الجوهرية فى الإسلام على أن يبقى الشيعى شيعيا، والسنى سنيا وأن يسود الاحترام بينهما، وأن تتكون جماعة التقريب ممثلة للمذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السُنّة، وممثلى مذهب الشيعة الإمامية، ومذهب الشيعة الزيدية، وأن يمثل كل مذهب من المذاهب الستة علماء من ذوى الرأى والمكانة فيه، وأن تكون هذه الجماعة مستقلة بعيدة عن السياسة، ويكون عملها محصورا فى البحث العلمى ومحاربة الأفكار الخرافية التى لا تعيش إلا فى ظل الجهل، والغموض، وقررنا أن تعمل الجماعة أيضا على مقاومة الطوائف والنحل التى تخالف مبادئ الإسلام والتى يحسبها الشيعى سُنّة، ويحسبها السُنى شيعة، بينما هى فى حقيقتها مخالفة للإسلام.
***
ويقول الإمام القمى: هكذا تكونت جماعة التقريب، وقمت بالاتصال بالمراكز الدينية فى كل بلد إسلامى بهدوء وبعيدا عن الدعاية، ولكن المتعصبين والمتزمتين وذوى النزعات والأغراض رأوا فى نشاط هذه الجماعة بدعة لا يصح السكوت عليها، فبدأوا الهجوم على الفكرة وعلى الجماعة، وكان الهجوم ذاته دليلا على ضرورة فكرة التقريب كى يتخلص المجتمع الإسلامى من العناصر ذات التفكير الجامد الذى يصرف الأذهان عما ينفع الناس، وأذكر أن أحد هؤلاء المتعصبين ملأ كتابا بالطعن على الشيعة والهجوم على جماعة التقريب واعتبر عملها فعلة نكراء، وفى نفس الوقت أعيد طبع كتاب من الطرف الآخر من الكتب المؤلفة فى عهد الصفوية ملئ بالهجوم على أهل السُنّة.. ولم يقف الأمر عند هذين الكتابين.. بل جاء من مثلهما الكثير.. ورأى البعض أن ما نقوم به (محاولة مستحيلة)، ورأى آخرون أن هذه الدعوة وراؤها هدف سياسى.. ولم يؤثر ذلك فى عزيمة أهل العزائم، فاستمروا فى الدعوة وأصدروا مجلة رسالة الإسلام، وكان كل عدد منها يزيل الستار عن جزء من المحجوب، وتبين من أبحاث الفقهاء والعلماء الثقاة من السُنّة والشيعة أن المشاكل الطائفية بينهما، إنما كانت نتيجة تحركهم فى ظلام الجهل، حيث لم يكن بعضهم يرى الآخر إلا أشباحا مخيفة.. وظهر أن المسلمين لا يختلفون فى الكتاب، ولا فى الصلاة، ولا فى الصوم، ولا فى الحج، ولا يختلفون قيد أنملة فى أصول العقائد وأصول الدين والتوحيد والنبوة، وليس يضيرهم أن يكون لبعضهم مذهب يقول عن الشيعة بأن عليا رضى الله عنه وأولاده أحق بالولاية من غيرهم.. وكان من نجاح جماعة التقريب أن تعرّف أهل السُنّة على أبحاث واجتهادات الشيعة فى الفقه، وتعرّف الشيعة على فقه السُنّة، واكتشفوا إجماع الشيعة والسُنّة على حب أهل البيت وإكرامهم، وأن ما صدر عن بعض الظالمين لا يمثل رأى أهل السُنّة فى أهل البيت، وعرف أهل السُنّة أن الشيعة يعتبرون الغلاة نجسا ويحكمون عليهم وعلى أهل الحلول بالخروج على أصول الإسلام.
وإذن فشتان بين الشيعة على حقيقتها، والشيعة التى تصورها البعض متأثرين بالدعايات والأكاذيب.
***
بعد ذلك قامت وزارة الأوقاف بطبع بعض كتب الفقه فى المذهب الشيعى، وجاء قرار الأزهر- فى عهد الشيخ شلتوت- بتدريس مذهبى الشيعة الإمامية والزيدية فى الأزهر، فقضى على آمال المتربصين والساعين إلى إشعال الخلافات بين المسلمين.
وفى أول اجتماع لجماعة التقريب التقى علماء من السُنّة والشيعة على مائدة واحدة، وحددوا هدفا واحدا لدعوتهم: علاج داء التفرق، وختموا لقاءهم بترديد الآية الكريمة (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها..) (آل عمران:103)..
***
كان شعار جماعة التقريب فى ذلك الوقت الآية الكريمة (إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم، فاعبدون) الأنبياء- (92).
وبعد ثورة الخومينى توقف الإمام القمى عن متابعة نشاطه فى دار التقريب حرصا على عدم الإساءة إلى دعوته وعدم استغلالها لأغراض سياسية فى ظل الصراعات والتطورات التى شهدتها المنطقة والتى استغل فيها الإسلام بغير حق.. وعاش فى فرنسا.. ولم يمنعه ذلك من الالتقاء هناك مع أهل الرأى فى العالم الإسلامى.
وكان الإمام القمى- يرحمه الله - حريصا على أن تكون لدعوة التقريب بين السُنّة والشيعة استقلالها وعدم انتمائها إلى أية دولة أو سياسة معينة بحيث تختلف باختلاف الحكام، ولذلك رأى أن مصــر- بلد الأزهر الشريف- هى التى يمكن أن توفر المناخ الحر لتحقيق هذه الرسالة دون تأثير سياسى عليها.. والأزهر هــو قلعة الإســلام المعتدل الـذى يحمـى العقيـدة مـن الانحـراف والتعصـب.
وفى باريس كان الإمام القمى يلتقى بالمسلمين من السُنّة والشيعة ويتحدث إليهم عن ضرورة إصلاح أحوال المسلمين بعدما صاروا إليه من تفرق أدى بهم إلى الحضيض، ويدعو إلى الفهم الصحيح للإسلام لأن المفاهيم الدخيلة التى صنعها أعداء الإسلام وروجوا لها هى التى أدت إلى تفكيك وحدة المسلمين وتخلفهم وانشغالهم بالنزاعات فيما بينهم عن الصراع الحقيقى مع أعدائهم.
وفى سنة 1990 قرر الإمام القمى العودة إلى مصر والاستقرار النهائى فيها واستئناف نشاطه فى دار التقريب مع شيوخ الأزهر، وأرسل ابنه عبد الله للإعداد لعودته وإقامته، وبينما ابنه فى القاهرة وقعت حادثة اغتيال الإمام فى باريس يوم 28 أغسطس 1990.
***
وكان من أعمدة دار التقريب بين السُنّة والشيعة الإمام الراحل الشيخ محمود شلتوت الفقيه الأكبر شيخ الأزهر الأسبق، وقد كتب بنفسه قصة هذه الدعوة فقال: إنه عاصر خلالها أخوة أحبهم وأحبوه فى الله، وكانت بينه وبينهم مناظرات بحثا عن الحقيقة، لأنه كان يؤمن بأن دعوة التقريب هى دعوة التوحيد والوحدة، وأن أسلوبها هو الأسلوب الذى أمر به الله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتى هى أحسن، إن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين) النحل- 125.. ويقول: إن الذى يتقى الله هو الذى لا تأخذه عصبية، ولا تسيطر عليه مذهبية.. وفكرة الحرية المذهبية فكرة صحيحة مستقيمة وهى نهج الإسلام، وكان عليها الأئمة الاعلام فى تاريخ الفقه وكانوا يترفعون عن العصبية الضيقة، فلا يزعم أحدهم أنه أتى بالحق وأن على سائر الناس أن يتبعوه، ولكن كان العالم منهم يقول: هذا مذهبى وما وصل إليه جهدى وعلمى، ولست أبيح لأحد تقليدى أو اتبـاعى دون أن ينظر ويعلم من أين قلت ما قلت، فإن استقام الدليل فى نظره وصح الحديث فهو مذهبى.
يتحدث الشيخ شلتوت عن الإمام القمى فيقول: إن أخى الإمام المصلح محمد تقى القمى، ذلك العالم المجاهد، لا يتحدث عن نفسه، ولا عما لاقاه فى سبيل دعوته، وهو أول من دعا إلى هذه الدعوة، وهاجر من أجلها إلى بلد الأزهر الشريف، فعاش معها وإلى جوارها، وظل يتعهدها بما أتاه الله من عبقرية وإخلاص وعلم غزير، وشخصية قوية، وصبر، وثبات، حتى رآها شجرة يستظل بظلها أئمة وعلماء ومفكرون فى هذا البلد وفى غيره.
وعن الدعوة يقول الشيخ شلتوت: لقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج سليم، وأسهمت منذ اليوم الأول فى هذه الجماعة وفى نشاط الدار وكان من ذلك فصول فى تفسير القرآن الكريم ظلت تنشرها مجلة (رسالة الإسلام) أربعة عشر عاما حتى اكتملت كتابا أعتقد أنه تضمن أعز أفكارى، وأخلد آثارى، وأعظم ما أرجو به ثواب ربى، وقد تهيأ لى بهذه النشاط العلمى- فى دار التقريب- أن أعرف كثيرا من الحقائق التى كانت تحول بين المسلمين واجتماع كلمتهم، وائتلاف قلوبهم على أخوة الإسلام، وأن أتعرف على كثير من ذوى الفكر والعلم فى العالم الإسلامى.
وعندما أصبح الشيخ شلتوت شيخا للأزهر أصدر فتوى شهيرة بجواز التعبد على المذاهب الإسلامية الثابتة الأصول، المعروفة المصادر، ومنها مذهب الشيعة الإمامية (الإثنا عشرية). وكان لهذه الفتوى صدى كبير فى مختلف البلاد الإسلامية، وظلت تتوارد عليه الأسئلة والمجادلات، وظل الشيخ شلتوت سنة بعد سنة يشرح الأساس العلمى والفقهى لفتواه، ويرد على شبهات المعترضين، فى مقالات وأحاديث إذاعية وبيانات يصدرها ويدعو فيها إلى وحدة المسلمين والتماسك والالتفاف حول أصول الإسلام، ونسيان الضغائن والأحقاد التى ظهرت فى الماضى ولم تعد أسبابها قائمة.. وأخيرا انتصر الشيخ شلتوت على أعداء وحدة الصفوف الإسلامية فقال: (الحمد لله أن أصبحت دعوة التقريب بين السُنّة والشيعة تجرى بين المسلمين مجرى القضايا المسلمة بعد أن كان المرجفون فى عهود الضعف الفكرى والخلاف الطائفى والنزاع السياسى، يثيرون فى موضوعها الشكوك والأوهام بالباطل).
***
بعد ذلك قرر الأزهر الأخذ بمبدأ التقريب بين المذاهب المختلفة، وقرر دراسة فقه المذاهب الإسلامية من السُنّة والشيعة دراسة تعتمد على الدليل والبرهان، وتخلو من التعصب لمذهب أو لواحد من الفقهاء على غيره، كما قرر الأزهر أن يضم مجمع البحوث الإسلامية أعضاء ممثلين لمختلف المذاهب الإسلامية بما فيها مذاهب الشيعة المعتدلة.. ويعلق الشيخ شلتوت على ذلك بقوله: (وبهذا تكون الفكرة التى آمنا بها، وعملنا جاهدين فى سبيلها، قــد تركزت وأصبحت رســـالة دار التقريب محل التقدير والتنفيذ.
***
ويتحدث الشيخ شلتوت عن الاجتماعات فى دار التقريب حيث يجلس المصرى مع الإيرانى أو اللبنانى أو العراقى أو الباكستانى أو غير هؤلاء من مختلف الشعوب الإسلامية، وحيث يجلس السنى الحنفى والمالكى والشافعى والحنبلى بجانب الشيعى الإمامى والزيدى حول مائدة واحدة تدوى فيها أصوات العلم، ويسودها الأدب، وفيها تصوف، وفقه، تجمع بينهم روح الأخوة.
كما يتحدث الشيخ شلتوت عن بعض المدافعين عن فكرة التقريب بين المذاهب فيقول: (أود لو أستطيع أن أبرز صورة الرجل السمح الذكى القلب، العف اللسان، رجل العلم والخلق المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، أو صورة الرجل المؤمن القوى الضليع فى مختلف علوم الإسلام، المحيط بمذاهب الفقه أصولا وفروعا، الذى كان يمثل الطود الشامخ فى ثباته، والذى أفاد منه التقريب فى فترة ترسيخ مبادئه أكبر الفائدة، المغفور له أستاذنا الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم رضى الله عنه وأرضاه، أو صورة الرجل الذى حنكته التجارب، ومحافل العلم والرأى، المغفور له الأستاذ محمد على علوبه (باشا) جزاه الله عن جهاده وسعيه خير الجزاء.. وكذلك رجال (من الشيعة) وهبوا أنفسهم هذه الدعوة الإسلامية، وآمنوا بالتقريب سبيلا إلى دعم قوة المسلمين وفى مقدمتهم الإمام الأكبر الحاج أقا حسين البرجودى أحسن الله فى الجنة مثواه، والمغفور لهما الإمامان الشيخ محمد الحسينى آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوى رضى الله عنهما.
***
ثم يشير الشيخ شلتوت إلى جانب آخر من الحرب والمعارضة لدعوة التقريب بين السُنّة والشيعة، ويقول إن ذلك شأن كل دعوة إصلاحية حين يتصدى لها الذين لم يألفوها، ولهذا لقيت دعوة التقريب نصيبا كبيرا من المعارضة لها والهجوم عليها بقدر أهميتها وعظم هدفها، فكان الجو السائد عند بدء الدعوة مليئا بالطعون والتهم، مشحونا بالافتراءات وسوء الظن من كل فريق بالآخر، وهوجمت الدعوة لا من فريق واحد بل من المتعصبين أو المتزمتين من كلا الفريقين: السنى الذى يرى أن التقريب يريد أن يجعل أهل السُنّة شيعة، والشيعى الذى يرى أننا نريد أن نجعل منهم سنيين، هؤلاء وغيرهم أساءوا فهم رسالة التقريب فقالوا: إنها تريد إلغاء المذاهب، أو إدماج بعضها فى بعض.. وحارب فكرة التقريب ضيقو الأفق، كما حاربها صنف آخر من ذوى الأغراض الخاصة السيئة، ولا تخلو أية أمة من هذا الصنف من الناس.. حاربها الذين يجدون فى التفرقة ضمانا لبقائهم وعيشهم، وحاربها ذوو النفوس المريضة وأصحاب الأهواء والنزعات الخاصة، هؤلاء وأولئك ممن يؤجرون أقلامهم لسياسات تدعو إلى التفرقة بأساليب مباشرة أو غير مباشرة وتحارب كل حركة إصلاحية، وتقف ضد كل عمل يجمع شمل المسلمين ويوحد كلمتهم.
ويقول الشيخ شلتوت: إن دار التقريب ظلت تصدر بانتظام مجلة باسم (رسالة الإسلام) تنشر أبحاثا لأئمة السُنّة والشيعة حول أوجه الاتفاق فى الأصول والخلاف فى الفروع.
وأخيرا يقول الشيخ شلتوت: أصبحت فكرة التقريب نقطة تحول فى تاريخ الفكر الإصلاحى الإسلامى القديم والحديث، ويحق للمسلمين أن يفخروا بأنهم كانوا أسبق من غيرهم تفكيرا وعملا فى تقريب مذاهبهم وجمع كلمتهم، وقد نجحوا فى ذلك بفضل إخلاص القائمين على أمر هذه الدعوة، وسلامة تفكير المسلمين (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) يوسف-108 و(كنتم خير أمة أخرجت للناس. تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله).. آل عمران-110.
نستخلص من ذلك أن السُنّة والشيعة يجمعهما الإسلام، وما يجمعه الله لا يفرقه إنسان.. والخلافات بين المذاهب ترجع إلى طبيعة التفكير الإنسانى وليس مرجعها الدين الإسلامى ذاته.. ولذلك فهى خلافات فى التفسير وليست خلافات حول النص المقدس فى القرآن، أو حول أركان الإسلام، أو حول الإيمان بالله وبالرسول..
ولكن المشكلة أن هناك متشددين من أهل السُنّة، وهناك غلاة بين الشيعة، هم السبب فى اشتداد الخلاف، وتبادل الاتهامات بالحق وبالباطل، وقد عمل كل جانب من المتشددين والمتزمتين على تشويه الجانب الآخر وإلصاق التهم به واختلاق الأكاذيب والأساطير حوله.
هناك اختلافات.. نعم.
ولكن هل فى الجانبين من ينكر من هو معلوم من الدين بالضرورة؟.. لا.
إذن فهل يرضى الله أن يكون المسلمون متفرقين؟
هذا هو السؤال.
وجيش الاحتلال الأمريكى فى العراق يتمنى أن تكون الإجابة (نعم) لكى يستقر له المقام فى العراق لسنوات وسنوات وتمضى إسرائيل فى مخططها، وينتقل الجيش الأمريكى إلى المحطة التالية بعد العراق وهو آمن.
وجيوش الغزو جاهزة ومستعدة.. ورئيس الحرب جاهز ومصمم ومزهو بقوة الجيوش والسلاح.. والثغرة فى صفوت المسلمين تسهل له المهمة.
ورحم الله الإمام العظيم الشيخ شلتوت والأئمة العظـام الذين أفسدوا المؤامرة فى وقتهم.. أما نحن فإن واجبنا الآن أن نفسد المؤامرة فى هذا الوقت.
والموضوع يحتاج إلى بحث وتفكير لأنه يتعلق بالمستقبل.. مستقبل الأوطـان الإسلامية، ومستقبل الإسلام ذاته!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف