مصداقية الرئيس الأمريكى موضع نظر!
لا أتفق مع ما يقوله البعض من أن الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش ألغى حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة، وحقهم فى استعادة أرضهم حتى حدود 1967، وحق اللاجئين فى العودة إلى ديارهم، وأعطـى لإسرائيل الحق فى الاستيلاء على أراض فلسطينية جديدة فى الضفة الغربية.. الخ.
أختلف مع هذا المفهوم لتصريحات الرئيس الأمريكى فى مؤتمره الصحفى مع رئيس الوزراء الإسرائيلى ارئيل شارون، وللخطـابات المتبادلة بينهما حول هذه الوعود الأمريكية.. واختلافـى فى رؤية هــذا الموقف الجـديد- الذى بدا مفاجئا إلى حد وصفه بأنه قفزة فى الفراغ قدمت دليلا جديدا على رعونة السياسات الأمريكية والتسرع الذى يمليه شعور زائد بالقوة والغطرسة إلى جانب قلة الخبرة السياسية والاستهانة بالوعود والعهود الأمريكية السابقة والموقعة من رؤساء الولايات المتحدة.
اختلافى مع هذه النظرة المتعجلة يرجع إلى تحديد لدورالولايات المتحدة فى الصراع العربى الإسرائيلى.. ودورها فى العالم.
الرئيس الأمريكى- أولا- لا يملك منح أرض فلسطينية لإسرائيل، لأنها ليست أرضا أمريكية، وليست ضمن أملاكه،ولكنه - بالتأكيد - يستطيع أن يمنح إسرائيل أرضا فى تكساس، فى بلده، وفى أرض يملكها، ويملك القرار فى التصرف فيها.
ويترتب على ذلك أن ما قاله الرئيس الأمريكى وما تعهد به ليس له قوة إلزام على أحــد، لأن هـذا تعهد - أو اتفاق- صادر من غير مختص، أو من غير ذى صفة، أو ممن لا يملك على حد التعبير القانونى.ولا يحتاج ذلك إلى شرح، لأن الأوطان ملك لأصحابها، وليست أوطان العرب ملكا للرئيس الأمريكى.. فلسطين ليست كراوفورد.. وشعب فلسطين ليس ملكا للرئيس الأمريكى كملكيته لقطعان الماشية والخيول فى مزرعته.
والرئيس الأمريكى- ثانيا- ليس سلطة فوق الشرعية الدولية، والقانون الدولى، بحيث يملك حق إلغاء القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولعله تعلم الدرس فى العراق عندما استهان بالشرعية الدولية وبالقانون الدولى فدفع الثمن غاليا من كرامة ومكانة الولايات المتحدة، ومن دماء الأبرياء من الشباب الأمريكى الذى لا مصلحة له فى تدمير العراق وقتل شعبها.
والرئيس الأمريكى - ثالثا- لا يحكم بلاده حكما منفردا، بحيث يتخذ القرارات المهمة وحده دون العودة إلى مؤسسات الدولة، والمفروض أن الولايات المتحدة دولة وليست قبيلة من قبائل أفريقيا يحكمها شيخ القبيلة منفردا ويحدد مصيرها دون العودة إلى أحد!.
والرئيس الأمريكى- رابعا - لا يستطيع، ولا يملك، أن يتنصل بسهولة من التعهدات والاتفاقات التى اعتمدتها الدولة الأمريكية، وأغلب الظن أن التعهدات الأمريكية لها احترام ولا تتغير بتغير الإدارات، وإلا فكيف يمكن أن يثق العالم بعد ذلك فى أية تعهدات أمريكية؟. وكيف يمكن أن تقوم الولايات المتحدة بدورها العالمى فى قيادة النظام العالمى إذا كانت نواياها وقراراتها موضع شك من شعوب الدول الأخرى؟.
كيف يمكن للرئيس الأمريكى أن يلغى القرار 242 والقرار 338، والقرار 194، وأوسلو، واتفاق شرم الشيخ، واتفاق القاهرة، واتفاق واشنطن، وخطة ميتشل، وتفاهمات تينت، وخريطة الطريق؟. هل هذه كلها مواقف دولة أو كانت مجرد حيل ومناورات لكسب الوقت وضياع الحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطينى؟.
***
المسألة- كما أراها- ليست قرارا يمكن النظر إليه باحترام، وليست حكما إلهيا لا مفر ولا مهرب منه. المسألة – كما أراها- أننا أمام رئيس يغير مواقفه كل حين، ويجعل سياسات أمريكا متضاربة، وهذا التخبط أمر يخصه وحده، ويخص مؤسسات أمريكا الشرعية، ولا يخص العرب والفلسطينيين!.
المسألة - كما أراها- أن الرئيس الأمريكى فى هذه الشهور الستة مستعد لبيع كل شىء، وعمل أى شىء من أجل الفوز فى انتخابات الرئاسة فى نوفمبر القادم، والحصول على فترة رئاسة ثانية-للثأر من هزيمة والده الرئيس الأمريكى المحترم جورج بوش الذى انتصر فى حرب تحرير العراق وانهزم فى معركة الرئاسة الثانية، وخرج من البيت الأبيض حزينا لأنه دخل تاريخ أمريكا ضمن الرؤساء القلائل الذين لم يستمروا لفترة رئاسة ثانية.
ومع كل ذلك، فما قيمة ما قاله الرئيس الأمريكى وما تعهد به؟.
لقد عبرّ عن موقفه، وربما يستطيع أن يعطى لهذا الموقف دعما من بعض المؤسسات، لكنه يبقى موقفا أحادى الجانب.. موقفا يخص أمريكا وحدها.. أما العرب فإن لديهم فرصة متساوية ليتخذوا الموقف الذى يرونه.. لهم الحق فى أن يرفضوا هذا الموقف الأمريكى.. ولهم الحق فى أن يعلنوا موقفا مختلفا. ويتمسكوا بالشرعية الدولية وبالقانون الدولى، وبالقرارات والاتفاقات، وبالحقوق الوطنية التى لا يملك أحد التنازل عنها.
فليكن للرئيس الأمريكى الموقف الذى يختاره لنفسه.
وليكن للفلسطينيين وللعرب الموقف الذى يرتضونه لأنفسهم.
والتاريخ يعلم من يستوعب دروسه أن الاحتلال لأرض الغير لا يمكن أن يدوم، وأن الاغتصاب لا يمكن أن تترتب عليه حقوق .. لقد احتل البريطانيون أمريكا فهل هم يحتلونها الآن؟. واحتل الفرنسيون مصر ثم سوريا ولبنان والجزائر وغيرها فهل بقوا فيها إلى اليوم؟. واحتل البريطانيون مصر والعراق وغيرهما فأين هم الآن؟.
ولقد اعتبرت فرنسا الجزائر جزءا من أرضها، بنص الدستور الفرنسى، إلى حد أن الانتخابات للبرلمان الفرنسى كانت تجرى فى فرنسا والجزائر معا على أنهما بلد واحد.. وها هى ذى الجزائر حرة مستقلة.
معنى ذلك أن الاحتلال مهما طال بقاؤه زائل لا محالة.. وحقوق الشعوب مهما طال اغتصابها لابد عائدة إلى أصحابها لا محالة.
لذلك- أرجوكم- لا تتعجلوا فى الحكم.. ولا تسرفوا على أنفسكم بالقول بأن الرئيس دبليو بوش أصدر علينا حكما نهائيا غير قابل للنقض أو الإبرام.. لأن حكمه هذا قابل للنقض.. وقابل للإبرام.. ونحن نختلف معه.. وسنظل مختلفين معه..ونحن على حق.. وهو وشارون على الباطل.. ولا يمكن أن يسود الباطل طويلا أو يدوم إلى الأبد.
سنظل مختلفين.. والملف مفتوح.. وسيظل مفتوحا..والحكم لم يصدر بعد.. والقضية ستبقى منظورة أمام المجتمع الدولى والضمير العالمى.. وسيأتى يوم ينتصر فيه الحق ويزهق الباطل وتعود الحقوق إلى أصحابها.. وربما يعود العقل وتعود الحكمة إلى السياسة الأمريكية بعد شهور قليلة.
***
ومن حق الشعوب العربية أن تتساءل - فى دهشة- كيف يغير الرئيس الأمريكى موقفه 180 درجة خلال 48 ساعة فقط ؟. وإذا كان يغير مواقفه السياسية بهذه السرعة والسهولة. فكيف يمكن أن نصدقه أو نثق فى كلمته بعد ذلك؟.
كيف يمكن أن يجد الرئيس الأمريكى فى نفسه القدرة على المناورة إلى حد أن يقف يوم 12 أبريل الحالى فى مؤتمر صحفى ويعلن أمام العالم - على الهواء مباشرة - أن إسرائيل إذا اتخـذت القرار بالانسحاب من غزة، فإن ذلك يجب ألا يكون بديلا عن خريطة الطريق، وأن يكون جزءا منها، حتى يمكن مواصلــة التقـــدم نحو الحل وإقامة دولتين، ومعنى ذلك أنه متمسك بخريطة الطريق، وأن الانسحاب يجب أن يكون فى إطارها، وأن يكون التقدم بعد ذلك نحو الحل النهائى بالمفاوضات كما تقضى خريطة الطريق.. وفى يوم 14 أبريل الحالى – بعد 48 ساعة فقط – يقف نفس الرئيس الأمريكى أمام العالم فى مؤتمر صحفى- على الهواء مباشرة – ويعلن أن على الفلسطينيين – أولا- التخلى عن حق العودة إلى ديارهم- بالمخالفة للقرار 194- وأن عليهم- ثانيا- التخلى عن حدود 1949 (وهى حدود 1967 واختلاف التاريخ لمجرد التلاعب بالألفاظ والمناورة).. وعليهم- ثالثا- التنازل عن أجزاء من أرضهم فى الضفة الغربية أقامت عليها إسرائيل مستعمرات كبيرة.. وكأن من حق إسرائيل أن تحصل على ما تشاء من أرض الفلسطينيين لكى تقيم مستعمرات لمزيد من اليهود الغرباء القادمين من أنحاء العالم بينما يحرم أصحاب الأرض من هذا الحق، ويحكم عليهم بأن يعيشوا مكدسين فى خنادق لا يجدون فيها مساحة للحركة.. منطق مقلوب وعدالة غائبة، وشريعة الغاب هى المنطق الذى يحكم تصرفات أمريكا وإسرائيل معا!.
التصريح الأول فى مؤتمر 12 أبريل أن الرئيس الأمريكى عند كلمته التى سبق أن أعلنها فى شرم الشيخ أمام العالم وبصوت كان يبدو صادقا حين قال: أنا جورج دبليو بوش أتعهد شخصيا بالعمل على إقامة دولة فلسطينية مع نهاية عام 2005 ، وقدّم للفلسطينيين والعرب خريطة الطريق التى أعدتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، وروسيا. وأعلن الرئيس دبليو بوش بنفسه-وشريط التسجيل موجود بالصوت والصورة - أمام العالم أن موضوعات العودة، والحدود، والمستعمرات، سيكون التوصل إلى حل لها فى المرحلة الأخيرة من مراحل خريطة الطريق بالمفاوضات وبرضاء الأطراف.
أما موقف الرئيس الأمريكى فى مؤتمر 14 أبريل فهو كما وصفه بعض الكتّاب الأمريكيين موقف غير أخلاقى، وغير شرعى، وغير قانونى، ولذلك لم يجد تأييدا من أية دولة فى العالم.. رفضته الدول الأوربية.. ورفضه الأمين العام للأمم المتحدة.. ورفضه العرب.. وطبعا رفضه الفلسطينيون.
وربما يرى البعض أن الرئيس بوش أراد بهذه التصريحات إشعال الغضب الفلسطينى أكثر وأكثر، لكى تستمر الانتفاضة ويندفع الفلسطينيون إلى تفجير أنفسهم تعبيرا عن الضيق بهذه الحياة التى غابت فيها العدالة وضاعت الحقوق، وفى هذا الجو يمكن لشارون أن يستمر فى سياسة القتل والتدمير والقضاء على مقومات الحياة الأساسية للشعب الفلسطينى، وعلى أمل قيام الدولة أو الحصول على أى شىء.. تمهيدا لفرض مشروعه الاستعمارى الخطير.. ويكون الرئيس بوش قد دخل التاريخ باعتباره الرئيس الأمريكى الذى أعطى لإسرائيل ما لم يسبق أن أعطاه أى رئيس سابق، ولعل وعسى يحصل فى الانتخابات بذلك على تأييد ومباركة شارون واللوبى اليهودى والجناح اليمينى المتشدد الذى يقود أمريكا فى هــذه المرحلة.. يقودها ضد مبادئهـــا، وضـــد مصالحها (!).
***
فى تعليقات الصحافة الأمريكية على هذا الموقف أن الرئيس بوش اعتنق أخيرا الأيديولوجيا المتطرفة لشارون، وقضى بذلك على ما تبقى من مصداقية أمريكا، ولم يعد فى الجراب سوى مناورة أخرى بإعلان دولة فلسطينية - بعد سنوات طويلة- مهلهلة وبلا سلطات على مثال دولة التمييز العنصرى التى كانت فى جنوب أفريقيا.
شارون يغالط عن عمد وسبق الإصرار حين يدّعى أن عمليات الاغتيال التى ينفذها شخصيا هى جزء من الحرب العالمية التى تشنها أمريكا على الإرهاب، كما أن الرئيس الأمريكى لم يتفهم حتى الآن أن الاحتلال واغتصاب أراضى الغير وتشريد الشعب الفلسطينى هو الإرهاب.. إرهاب الدولة.. وهو الذى يولد التطرف والعنف فى الشرق الأوسط وفى العالم.
الشىء الذى لا يصدقه عقل أن الرئيس دبليو بوش يدعو العالم إلى تقديم الشكر إلى شارون.. دليلا على حالة الانفصال عن الواقع التى جعلته يصف شارون قبل ذلك بأنه رجل سلام (!).
***
فى حسابات الرئيس بوش أن شارون هو الوحيد القادر على إنقاذه من الأزمة التى تحيط به من كل جانب.. حملات النقد الشديدة عليه فى الداخل بسبب الإهمال فى تفادى هجمات 11 سبتمبر وتجاهل تحذيرات المخابرات.. والكذب فى أسباب غزو العراق.. واستنزاف الاقتصاد الأمريكى حتى وصل العجز فى الميزانية هذا العــام 500 مليار دولار.. وقصص هروبه وهروب نائبه ديك تشينى وعدد آخر من أقرب معاونيه من الخدمة فى فيتنام.. والفساد فى شركات البترول الكبرى الـذى طــال تشينى وكوندوليزا رايس ورامسفيلد.. وربما.. وربما(!).. ويضاف إلى كل ذلك عزلته الشديدة فى الخارج بسبب سياساته المتغطرسة التى أهان فيها دول أوربا، والأمم المتحدة، وسائر دول العالم، وتعامل مع الجميع على أنهم أتباع ليس لهم سوى السمع والطاعة!
لن يدرك الرئيس الأمريكى إلى أى حد أدى موقفه الأخير إلى إضعاف مكانة أمريكا فى المنطقة، ومدى الكراهية التى تسود العالم والتى وصلت إلى درجة لم يسبق لها مثيل، ولن يدرك أن هذا الموقف لن يساعد على الخروج من مأزق العراق، ولن يدارى فشله فى أفغانستان وفى الحرب على الإرهاب، ولكنه أعطى مبررا جديدا لأعداء أمريكا ليزيدوا حربهم عليها، وخسر أصدقاءه فى المنطقة وجعلهم يشعرون بأن أمريكا خذلتهم. وعلى الجانب الآخر سوف يدرك شارون أن سياسته ستؤدى إلى إضعاف القادة الفلسطينيين المنتخبين وانتشار العنف والفوضى وسينعكس ذلك على إسرائيل وأمنها، وعلى الأمن والاستقرار فى المنطقة كلها.. فالغرور ليست له عواقب سوى الكوارث.. وتدمير الثقة هو الوقود لإشعال الصراع.. وإسرائيل اليوم تعيش فى أسوأ أحوالها.. عدم الشعور بالأمن.. واستنفار أمنى يكلفها خسائر بمليارات الدولارات.. ويتساقط عشرات الإسرائيليين كان يمكن أن يعيشوا فى أمان لو تحقق العدل للطرفين.. ويقال: إن الرئيس بوش سيقدم مليارات الدولارات لشارون لتعزيز اقتصاد إسرائيل المضطرب ولتوطين آلاف المستوطنين اليهود لضمان موافقة الليكود على خطة الانسحاب الأحادى بضمانات أمريكا.
وخطة شارون ليست فى حقيقتها خطوة للحل النهائى كما يدّعى المسئولون الأمريكيون، ولكنها مجرد عملية لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية إلى مواقع آمنة بحيث تواصل العمل بحرية فى الأراضى الفلسطينية تحت ستار الحق الذى منحته لها أمريكا لمحاربة الإرهاب. وبالتالى فإن شارون لا يستحق الشكر من أحد.. بل يستحق أن يدخل التاريخ بوصفه أحد المستعمرين الطغاة الذين قادوا بلادهم إلى الهلاك بسبب أطماعهم وغرورهم.
وهذا كله سيؤدى- بالقطـع - إلى تزايد الغضب الفلسطينى والشعور بالظلم والقهر والإحباط، وسيؤدى ذلك إلى المزيد من الاضطرابات.
ونخشى ألا تتعلم أمريكا وإسرائيل إلا بعد فوات الأوان أن القوة والمال لا يكفيان وحدهما فى صناعة السلام وبناء الديمقراطية بدون العدل.