من أمريكا إلى أوربا ..محاولة لإطفاء الحرائق
لو أردنا أن نلخص رحلة الرئيس حسنى مبارك إلى الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا فهى فى كلمات قليلة: محاولة لإطفاء الحرائق المشتعلة فى العراق والأراضى الفلسطينية وتفادى اشتعال الحرائق فى دول عربية أخرى!
الحرائق تشعلها الولايات المتحدة وإسرائيل والعدد الأكبر من ضحاياها من العرب، وحمامات الدم والمجازر تتناقل أخبارها وكالات الأنباء، وتعرض مشاهدها الدامية شاشات التليفزيون فى أنحاء العالم.
لذلك كانت هذه الرحلة- فى هذا التوقيت بالذات- فى منتهى الأهمية.. كان من الضرورى أن تستمع الإدارة الأمريكية إلى تحليل دقيق وموضوعى للظروف والتداعيات والاحتمالات التى تتعرض لها المنطقة العربية، وأن تتفهم الأسباب الحقيقية لمشاعر الرأى العام المعادية لأمريكا، وأن تتبادل الرأى مع الزعيم الذى عايش أحداث المنطقة ولديه خبرة طويلة بكل ما فيها من عوامل ظاهرة وخفية، وأصبح هو الأقدر على تشخيص الحالة وتحديد أسباب الأزمة ووضع التصور للحل الصحيح.
وهذا ما جعل الرئيس الأمريكى جورج بوش يقول: إنه حريص على أن يستمع إلى رؤية الرئس مبارك وآرائه، وحريص على أن تكون المناقشات بينهما بنّاءة، ولصالح العلاقات القوية والحميمة بين البلدين. ولذلك أيضا حرص بوش على التأكيد على أهمية الدور المصرى فى المنطقة، وعلى أهمية الصداقة بين مصر وأمريكا، وكان يختار كلماته بعناية عندما قال: إن مصر شريك استراتيجى للولايات المتحدة، ونحن نقدر الجهود التى يبذلها الرئيس مبارك فى هذا الإطار.
وكانت لهذه الكلمات معان أكبر.. كانت رسالة إلى الذين حاولوا تعكير صفو الزيارة بمقالات عدائية نشرتها الصحف الأمريكية الكبرى، ونحن نعرف كيف تكتب وتنشر مثل هذه المقالات فى هذا التوقيت بالذات، ومن وراءها، ومن المستفيد من إثارة الغبار فى كل مرة يزور فيها الرئيس مبارك الولايات المتحدة.
فى هذه المرة لم يكن لهذه المقالات المسمومة أثر، لسبب بسيط، أن الولايات المتحدة متورطة فى العراق، وأصبحت فى مأزق استراتيجى يصعب عليها الخروج منه وحدها، صحيح أنها دخلت العراق وحدها، وأعماها غرور القوة، لكنها الآن تواجه ثورة غضب شعبى وانفجارات ومقاومة فى كل مكان، ليس فى الفلوجة أو بغداد فقط بل فى أنحاء العراق.. وليس من الشيعة فقط، ولكن من شعب العراق: السُنّة والشيعة. وكانت مفاجأة غير متوقعة قلبت الحسابات الأمريكية، عندما خرجت مسيرات السُنّة والشيعة معا يدا بيد تطالب بإنهاء الاحتلال وإعادة العراق إلى العراقيين. وبذلك تبددت الجهود المضنية التى بذلت من أجل إيجاد الفتنة وإشعال الصراع بين السُنّة والشيعة. وكانت المفاجأة الأكبر عندما أعلن بعض أعضاء مجلس الحكم العراقى رفضهم للاعتداءات الأمريكية على المدنيين فى العراق، وتقديمهم استقالات وطلبات تعليق العضوية أظهرت أن من كانت تحسبهم أمريكا عملاءها هم فى النهاية أبناء العراق ولا يمكن أن يبيعوا وطنهم وشعبهم من أجل منصب أو من أجل حفنة دولارات.
ثم كانت مفاجأة مذهلة أن تتعرض القوات الأمريكية للقتال فى الشوارع، وتدخل فى معارك حقيقية، يسقط فيها قتلى من القوات الأمريكية، ويسقط المئات من المدنيين العراقيين نتيجة انفلات أعصاب قوات الاحتلال وإطلاقها العشوائى للنيران. ولم تكن القوات الأمريكية تعد نفسها أبدا لمثل هذا الموقف.. كانت قد أعدت نفسها لاحتلال دائم وهادئ تلاقى فيه القوات الأمريكية الترحيب حينما ذهبت، ويصدق العراقيون أنها قوات تحرير وأن هدفها تحقيق الديمقراطية والرخاء للشعب العراقى، فى الوقت الذى لم يشهد الشعب العراقى من الاحتلال سوى تدمير البنية الأساسية والحرمان من لقمة العيش وضياع ثروة البترول التى تكفى لتحقيق الرخاء لكل الشعب العراقى.
***
الجو العام فى الولايات المتحدة يغلب عليه الشعور بخيبة الأمل، بعد أن أعطى بوش للشعب الأمريكى وعودا بإنهاء حرب العراق، وظهر فى مشهد تليفزيونى لا يمكن نسيانه عندما هبط من طائرة على ظهر حاملة طائرات لكى يعلن انتصار أمريكا فى حرب العراق، وانتهاء الحرب. ثم ها هو ذا يعلن أثناء زيارة الرئيس مبارك أن القوات الأمريكية واجهت أسبوعا بالغ الصعوبة، وبعد أن كان قد قرر سحب جزء من القوات وعودتهم إلى الوطن، وجد نفسه مضطرا للموافقة على إبقاء هؤلاء للاستمرار فى العراق ليعيشوا شهور الصيف الشديدة الحرارة هناك بعيدا عن الأهل والوطن، وهذا له آثاره على الروح المعنوية للجنود وله أيضا آثاره على الرأى العام الأمريكى، بل إن الرئيس بوش وجد نفسه مضطرا للموافقة على إرسال مزيد من القوات إلى العراق، دليلا على أن القوات الحالية التى يزيد عددها على مائة وعشرين ألفا لا تكفى لمواجهة حالة الغضب الشعبى.
وربما تستطيع القوات الأمريكية إخماد هذه الثورة الشعبية، ولكن من يضمن لها ألا تعود وتندلع مرة أخرى، وهذا هو الأرجح، لأن شعبا مثل شعب العراق لن يقبل استمرار الاحتلال الأجنبى لبلاده.
المهم أن الإدارة الأمريكية تعيش هذه الأيام فى أزمة.. بل إنها فى الحقيقة فى مأزق استراتيجى بالمعنى الدقيق.
ولذلك فإن لهجة الخطاب الأمريكى هذه الأيام يظهر فيها بعض التواضع، وبعض الرغبة فى الاستماع والتفهم، ولدى الإدارة الأمريكية رغبة فى أن تمد مصر يدها وتشارك فى إنقاذ الموقف. وكان الموقف المصرى واضحا.. المشاركة ينبغى ألا تتصادم مع حقوق الشعب العراقى.. أن يعود حكم العراق للعراقيين.. وأن تخرج القوات الأمريكية من المدن والشوارع والمبانى.. وأن تتولى الشرطة العراقية مسئولية الأمن.. وأن يكون هناك موعد لجلاء قوات الاحتلال عن العراق.. وفى هذه الحالة فإن مصر مستعدة لتدريب قوات الأمن العراقية.. ولكن لا يمكن أن تشارك مصر- أو أية دولة عربية- فى حماية قوات الاحتلال الأمريكى من رفض الشعب العراقى.. والحل الأمثل هو إعطاء الأمم المتحدة الدور الأكبر فى إدارة شئون العراق والإعداد السياسى والاجتماعى لإعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية، وتسليم العراق للعراقيين.. الأمم المتحدة وليست أمريكا.. وتواجد قوات تابعة للأمم المتحدة وليست قوات الاحتلال الأمريكى.. وخطة واضحة لتسليم السلطة وإنهاء الاحتلال.
موقف واضح.. لأن الدور الحقيقى لمصر أن تكون إلى جانب شعب العراق الشقيق فى محنته إلى أن تعود إليه السيادة والحرية. ولا يمكن أن تكون إلى جانب الاحتلال.
والصحافة الأمريكية تعكس جو الأزمة التى تواجه الإدارة الأمريكية، ففى صحيفة هيرالد تريبيون على سبيل المثال كان المقال الافتتاحى بعنوان (ليس لنا أصدقاء فى العراق) قالت فيه: إن الأمريكيين وهم يشاهدون التصعيد المخيف للقتال ضـدهم فى العراق يسألون أنفسهم: أين هم أصدقاؤنا العراقيون؟ والرئيس بوش ما زال يؤكد للشعب الأمريكى أن الميليشيات التى تهاجم قوات الاحتلال ليست سوى شراذم صغيرة إرهابية معادية للحرية، لكن هذه الشراذم يزداد عددها، وتقاتل فى الشوارع بالأسلحة، وليس بين القادة العراقيين الذين اختارتهم الإدارة الأمريكية من هو مستعد للتصدى لهم، رغم أن القوات الأمريكية تحمى أعضاء مجلس الحكم، فكيف يكون موقفهم إذا رحلت القوات الأمريكية؟.. وما العمل والقوات الأمريكية تقاتل المتمردين السُنّة فى جزء من البلاد، ويثور الشيعة فى جزء آخر، بينما كان المتوقع أن تكون المقاومة من السُنّة وحدهم؟.
يتزايد الشعور فى الولايات المتحدة بأن الإدارة الأمريكية تخطئ فى العراق كثيرا.. أخطأت عندما أغلقت صحيفة الحوزة لأنها تنشر آراء معارضة لوجود الاحتلال.. وأخطأت عندما قررت إلقاء القبض على نائب الزعيم الشيعى مقتدى الصدر، وأخطأت عندما وجهت الدبابات والطائرات لقصف الفلوجة.. وأخطأت عندما أمرت بضرب المساجد بالمدفعية الثقيلة.. وأخطأت عندما وجهت الإهانات لزعماء الشيعة الذين يتمتعون بدرجة من الاحترام لا تدركها الولايات المتحدة، وأخطأت عندما حاصرت المدن بالدبابات فظهرت كقوة معادية وليست صديقة، وأخطأت عندما استسلمت للرغبة فى الانتقام لمقتل أربعة من حراس الأمن الأمريكيين والتمثيل بجثثهم باستخدام القوة المفرطة فقتلت عشرات من أبرياء لا ذنب لهم، بينما أدان العراقيون هذا التصرف الهمجى، ولم يكن مقبولا أن تلجأ الولايات المتحدة إلى أسلوب العقاب الجماعى.
أرادت الولايات المتحدة دق إسفين الفرقة بين الشيعة والسُنّة لكن انتهىبها الأمر إلى توحيد السُنّة والشيعة ضدها..
***
أين أعضاء مجلس الحكم؟.. وأين أحمد شلبى الذى وعد الأمريكيين بأن يقف الشعب العراقى كله صفا واحدا خلف قيادته، وأن يقف هو والشعب العراقى صفا واحدا تحت إمرة أمريكا؟ أين أحمد شلبى الذى عاش فى أمريكا، وحصل على أموال طائلة، كما حصل على الجنسية الأمريكية، وأوهم الأمريكيين بأنه الزعيم القادر على إدارة العراق وتقديمه على صينية من ذهب إلى أمريكا؟. وهاهو ذا الآن (فص ملح وذاب).. اختفى.. ولم يره أو يسمع صوته أحد.. وظهر أنه لا نفوذ له لا على السُنّة ولا على الشيعة.. كذلك فإن الإدارة الأمريكية كانت تعد آية الله السيستانى ليكون (رجل أمريكا) فى الحكومة الجديدة.. هاهو ذا يصدر فتوى بأن مقاومة الاحتلال واجب شرعى (!)
تقول هيرالد تريبيون: إن الرجال الذين كانت تعتمد عليهم أمريكا يجلسون الآن فى المقاعد الخلفية ويكتفون بالفرجة على جيوش الاحتلال وهى تواجه الخطر، ويبدو أن زعماء الشيعة ليس لديهم استعداد للتعاون مع الاحتلال الأمريكى.
وانتهت هيرالد تريبيون من تحليل الموقف فى العراق إلى أنها سبق أن عارضت غزو العراق بدون مساندة دولية عريضة، ولكن بما أن الإدارة الأمريكية قد فعلت ما كانت مصممة عليه دون أن تستمع إلى نصائح الحكماء، فإن عليها مسئولية مواجهة الموقف الصعب الذى وجدت نفسها فيه الآن، وعليها أن تدرك أن إعادة بناء الدولة فى العراق سوف يكون مستحيلا بدون مشاركة الأمم المتحدة والعودة إلى الشرعية الدولية، ووضع استراتيجية أمريكية واضحة للخروج من العراق..
وإذا لم تفعل أمريكا ذلك فسوف تدفع الثمن الذى دفعته من قبل فى فيتنام والصومال ولبنان..
ويكفى أن قائد القوات الأمريكية فى العراق ريكاردو سانشيز اعترف بأن القوات الأمريكية فقدت السيطرة على مدينتى النجف والكوت.
فى نفس الوقت حدد الزعيم الشيعى آية الله العظمى على السيستانى موقفه بإعلانه رفضه للطريقة التى تستخدمها القوات الأمريكية فى مواجهتها للمقاومة الشيعية، بينما أعلن القائد العسكرى الأمريكى مارك كيميت تصميمه على سحق المقاومة الشيعية.
التصرفات الأمريكية فى العراق تتسم بالعصبية والعشوائية والاستخدام المفرط للقوة، وهذا ما جعلهم يقصفون بالصواريخ من طائرات كوبرا الهجومية مسجد عبد العزيز السامرائى فى الفلوجة، وأعلنت القوات الأمريكية أنها قتلت أربعين مسلحا كانوا فى هذا المسجد، ثم أعلن القائد المسئول عن العملية العقيد برينان بايرن أنهم عندما اقتحموا المسجد لم يجدوا فيه أحدا.
حالة من انفلات الأعصاب وسوء التقدير وسوء التصرف.
ثم إن البيانات الرسمية الأمريكية تعكس حالة القلق التى جعلت المسئولين فى وزارة الدفاع الأمريكية يعتقدون أن القوات الأمريكية تخوض أصعب أنواع المعارك- وهى الشوارع- التى لم تخضها منذ بداية الحرب.
وجاءت عمليات اختطاف الرهائن لتزيد الأمور تعقيدا.. رهائن من 12 بلدا طالب المختطفون بسحب قوات هذه الدول.. وخروج الأجانب من البلاد.. مقابل الإفراج عنهم..
وأخيرا اضطرت أمريكا إلى الاستغاثة بإيران لتخفيف التوتر فى العراق وتسوية الأزمة مع الشيعة.
***
وتزيد المعركة الانتخابية حالة التوتر لدى الإدارة الأمريكية.
اتهامات موجهة للرئيس بوش بعدم التحرك بعد أن قدمت إليه مذكرة عنوانها (بن لادن يخطط لضرب الولايات المتحدة) قدمت إليه يوم 6 أغسطس 2001 ولكنه أخذ إجازة لمدة شهر كامل قضاها فى مزرعته يصطاد السمك ولم يهتم بالتحذيرات.
والمرشح الديمقراطى للرئاسة جون كيرى يشدد الهجوم على الرئيس بوش وإدارته، ويتهمه بارتكاب أخطاء فى الحرب على العراق، وبأنه ليست لديه خطة محددة لتحقيق الاستقرار فى العراق. وبأنه يتمسك بعناد بنفس السياسة القديمة التى زادت الأخطار على الجنود الأمريكيين وأدت إلى ارتفاع أعداد القتلى والجرحى فى القوات الأمريكية.
ويتهم كيرى سياسات الرئيس بوش بأنها ستؤدى إلى (سرطان مالى) بعد أن بلغ عجز الميزانية خمسمائة مليار دولار هذا العام، واتهم كيرى سياسة بوش بأنها (سياسة خداع).
باختصار إن الإدارة الأمريكية تواجه الضغوط من كل ناحية. وربما تكون فى أصعب أوقاتها الآن. وفى أشد الاحتياج لمن يساعدها على الخروج من المأزق الذى أوقعت نفسها فيه.
***
وفى نفس الوقت فإن ظروف الانتخابات تجعل الرئيس الأمريكى محتاجا إلى مساندة اللوبى اليهودى. وقد استغل شارون الفرصة فجــاء إلى واشنطن يحمل خطة الانسحاب من جانب واحد من غزة وأجزاء من الضفة، والاحتفاظ بأربع مستعمرات كبيرة فى الضفة، وتعديل طفيف فى مسار الجدار الفاصل مع الاستيلاء على أجزاء من الضفة خلف السور، وحصر حق عودة اللاجئين فى عودتهم إلى الأراضى الفلسطينية وليس إلى موطنهم الأصلى، كما ينص قرار الأمم المتحدة رقم 194، ويحمل شارون هذا المشروع على أنه تنازل من جانب إسرائيل يتحمل من أجله انتقادات واعتراضات شديدة من أحزاب الائتلاف المشارك فى الحكومة ومن داخل حزب الليكود أيضا، ولذلك فهو يطالب الإدارة الأمريكية بمنحه سبعة مليارات دولار نقدا، والتعهد بعدم مطالبة إسرائيل مستقبلا بالانسحاب إلى خطوط ما قبل 5 يونيو 1967، والموافقة كتابة على احتفاظ إسرائيل بالمستعمرات فى الضفة بصفة دائمة فى الحل النهائى، وتعهد أمريكا بعدم مطالبة إسرائيل بحق الفلسطينيين المهجرين فى العودة إلى أرضهم التى طردوا منها.
غريب طبعا أن تكون المباحثات حول حل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى بين حكومة إسرائيل والحكومة الأمريكية وليس بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الفلسطينية كما تقضى خريطة الطريق.
من هنا كان مبارك حريصا على أن يوضح أن الانسحاب من غزة لابد أن يكون فى إطار مفاوضات مع الفلسطينيين وترتيبات معهم، وفى إطار حل شامل وفقا لخريطة الطريق، ومع ضمانات إسرائيلية وأمريكية بأن الانسحاب من غزة ليس نهاية لعملية السلام ولخريطة الطريق، وهذه الضمانات والإجراءات ضرورية حتى لا تتحول الأمور فى قطاع غزة إلى فوضى تكون مصدرا جديدا لعدم الاستقرار، ولذلك قال الرئيس مبارك بصراحة: ما يدرينا أنه ليس انسحابا من غزة فقط إذا لم يرتبط الانسحاب بخريطة الطريق؟ وإذا لم يكن كذلك فسيكون من الصعب للغاية أن يقبله الرأى العام فى المنطقة.. وإذا تم فى إطار خريطة الطريق وبالتفاهم مع الفلسطينيين فإن مصر مستعدة لتقديم العون للفلسطينيين لإدارة قطاع غزة، ويظل الأمر رهنا بالتفاوض الإسرائيلى مع الفلسطينيين وليس باتخاذ هذه الخطوة بشكل أحادى.
الرئيس بوش جدد تعهده بتنفيذ خريطة الطريق وإقامة الدولة الفلسطينية.
ولكن مثل هذا التعهد لا يكفى لإقناع العالم العربى.
العالم العربى يريد أن يرى بعينيه شيئا يحدث على الأرض.
***
والحقيقة أن غزة كانت منذ وقت قريب جدا تحت إدارة السلطة الفلسطينية؟ وقد اقتحم شارون غزة، وقتل قادة الفصائل ومئات من الشباب الرافض للاحتلال، ودمر المساكن والمزارع والبنية التحتية، وأغلق المدن وحاصرهـا بالدبابات، ثم ها هو ذا يعرض الانسحاب منها على أنه مشروع سلام.. وغزة أكثر المناطق فى العالم ازدحاما بالسكان، وفيها 7 آلاف مستوطن إسرائيلى يقسمون غزة إلى ثلاثة قطاعات، يعمل على حمايتهم عشرون ألف جندى إسرائيلى. غزة تمثل عبئا على الإسرائيليين يريدون التخلص منه، وشارون يدعى أنه تنازل صعب يستحق أن يحصل مقابله على حرية التصرف فى الضفة الغربية، وذلك بتفكيك بعض المستوطنات الصغيرة الهامشية التى لا قيمة لها فى الضفة، والإبقاء على المستوطنات الكبرى، واعتبار الجدار الفاصل الحدود النهائية لإسرائيل.
وشارون يدعى أنه ليس هناك شريك فلسطينى للسلام، ومعنى ذلك أنه ليس هناك سلام، وهو يريد أن يحول قطاع غزة إلى صورة من العراق.. فوضى تسمح بالتصرف لمن يملك القوة.. وعام الانتخابات الأمريكية هو فرصة شارون لابتزاز الرئيس الأمريكى لكى يقدم أكثر مما قدم.. وقد قدم الرئيس بوش لإسرائيل ما لم يقدمه أى رئيس فى تاريخ أمريكا ويعتبر أكثر الرؤساء انحيازا لإسرائيل..
من هنا كان من الضرورى أن يستمع الرئيس بوش إلى الرئيس مبارك، ومن رئيس الوزراء البريطانى تونى بلير الذى سيزور واشنطن قريبا، ومن وزير الخارجية الفلسطينى نبيل شعث الذى سيزور واشنطن هو الآخر.
هل توافق الإدارة الأمريكية على خطة شارون باغتصاب أراضى الضفة، وإنهاء النزاع بالقوة من طرف واحد، وحرمان الفلسطينيين المهجرين من حق العودة، وتأجيل إقامة الدولة الفلسطينية إلى أجل غير مسمى؟
مرة أخرى: إنه عام الانتخابات!
***
ولأنه عام الانتخابات، فقد استطاع شارون أن يضغط على الرئيس بوش وينتزع منه الموافقة على كل ما يتمناه.. لا عودة إلى حدود 1967.. لا عودة للمهجرين إلى أرضهم وعودتهم إلى الأراضى الفلسطينية إن أرادوا.. لا تفكيك للمستوطنات الكبرى ولا تنازل عن الأراضى التى اغتصبتها إسرائيل من الضفة.. ولا ذكر لموضوع القدس.
هذا ما أعلنه الرئيس بوش فى مؤتمره الصحفى مع شارون، وهو ما اعتبره المراقبون (وعد بلفور جديداً) وقال عنه البعض (أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق) ورأى البعض أن موقف الرئيس الأمريكى يعنى فرض الحل الإسرائيلى بدون مفاوضات وبدون تشاور مع أصحاب الأرض، حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفى عنان أعلن أن الموقف الأمريكى يتعارض مع القانون الدولى ومع قرارات الأمم المتحدة 242 و338 و194.. وقال البعض: إن الموقف الأمريكى غير قانونى، وغير أخلاقى ويمثل تحولا حاسما للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وسيؤدى إلى استمرار الصراع وليس إلى حل الصراع.
وهذا ما جعل الرئيس مبارك يكرر مواقفه مرة أخرى فى حواره فى جامعة رايس.. ربما تعود الإدارة الأمريكية إلى صوابها وتغلب المصلحة القومية لأمريكا على المصالح الانتخابية.
***
الغريب أن الصقور فى الولايات المتحدة يتزايدون وتعلو أصواتهم، بينما تجد الحمائم فى إسرائيل فرصة للتعبير عن رغبتها العاقلة فى السلام.
وفى مقال أخير كتبه شموئيل جوردون فى يديعوت أحرونوت بعنوان (يجب الانسحاب فورا) يقول: إن القوات الأمريكية كان عليها بمجرد إسقاط الحاكم العراقى استبدال جيوشها بقوات سلام دولية وقوات حلف الأطلنطى لكى تتولى مهمة إعادة بناء العراق اقتصاديا وسياسيا، وكان على أمريكا أن تسارع بالانسحاب حتى لا يصيبها ما أصابنا خلال سنوات احتلالنا لبنان. لكن بوش رفض تمكين الدول التى رفضت حربه على العراق من قطف الثمار الاقتصادية لإعادة إعمار العراق، وقررت أمريكا مواصلة العمل وحدها. والثقة الزائدة لدى الأمريكيين بـأن القوة العسكرية ليست لها حدود هى التى أوقعتهم فى المأزق الذى سبق أن وقعوا فيه فى لبنان. وربما يكون على العراق أن يتحمل آلام المخاض لميلاد دولة جديدة كما حدث فى الاتحاد السوفيتى الذى عاش ست سنوات من الفوضى بعد انهياره، إلى أن تمكنت روسيا ودول الاتحاد السوفيتى السابق من استعادة النظام والاستقرار.. ومن مصلحة أمريكا وإسرائيل أن تنسحب أمريكا من العراق بإرادتها.. كذلك من مصلحة إسرائيل أن تنسحب من غزة فورا..!
حتى فى إسرائيل ينصحون أمريكا بالانسحاب من العراق بإرادتها قبل أن تنسحب مرغمة كما فعلت فى فيتنام والصومال ولبنان.
وفى إسرائيل أصوات عاقلة تدرك أن أمن إسرائيل لن يتحقق إلا بالسلام العادل.
وهذا أيضا ما تقوله مصر: أمن إسرائيل. وأمن المنطقة لن يتحققا إلا بإقامة سلام عادل.
***
والإرهاب دائما بند مهم فى كل مباحثات مع أمريكا. ومصر- كما هو معروف- من أوائل الدول التى عانت من الإرهاب، وحذّرت الدول الكبرى من إيواء الإرهابيين ومنحهم الحماية على أمل أن يكونوا ذراعها لتهديد الدول الأخرى. ومصر دعت إلى عقد مؤتمر دولى، وإلى تعاون واسع لمواجهة الإرهاب، ولكن الولايات المتحدة لم تدرك قيمة هذه النداءات إلا بعد 11 سبتمبر.. والآن فإن مصر تتعاون مع أمريكا، ومع كل دول العالم، لمحاربة الإرهاب.
المهم ألا يستمر الخلط بين الإرهاب والمقاومة المشروعة للاحتلال الأجنبى. وأن يكون مفهوما أن السبب الحقيقى لنمو الإرهاب هو الإحساس بالظلم وانعدام العدالة وازدواج المعايير والاستهانة بحقوق الشعوب. والقضاء على الإرهاب يبدأ بالعدل واحترام الشعوب. كما قال مبارك فى أكثر من مناسبة أثناء زيارته.
***
أما قضية الإصلاح فهى بالنسبة لمصر تحصيل حاصل.
الإصلاح فى مصر بدأ منذ عشرين عاما. ومفهوم الإصلاح فى مصر شامل يضم فى إطار واحد حزمة متكاملة من الإصلاحات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتشريعية، وقد سارت مصر فى كل هذه الاتجاهات خطوات كثيرة استمع الرئيس بوش إلى نماذج منها، ولعله أدرك الفكرة التى تلح عليها مصر، وهى أن الإصلاح لابد أن يكون من داخل البلد وليس مفروضا من الخارج، ويتم وفقا لظروف كل مجتمع، وذلك لضمان تهيئة الرأى العام لتقبله ولضمان استمراره وتعمقه فى المجتمع.. أما الإصلاحات المفروضة من الخارج وفق نموذج جاهز وتطبيقها بسرعة فسوف تظل على السطح وستكون قابلة للفشل على المدى القصير.
***
وفى فرنسا وألمانيا سيشرح الرئيس مبارك لكل من الرئيس الفرنسى جاك شيراك والمستشار الألمانى شرودر نتائج مباحثاته فى الولايات المتحدة والدور الأوروبى لإحلال السلام والاستقرار فى الشرق الأوسط، ومبادرات الإصلاح الأوروبية، والمباحثات فى البلدين مفتوحة بدون جدول أعمال.
***
لقد نجح الرئيس مبارك فى شرح الحقائق فى المنطقة، وطرح الحلول للأزمات القائمة التى تضمن الأمن والاستقرار وتحقق مصالح جميع الأطراف.
ونجح الرئيس مبارك كذلك فى توصيل رسالة من العالم العربى إلى الإدارة الأمريكية وإلى أوربا، ملخصها أن الشعوب العربية ليست غائبة، والرأى العام العربى أصبح قوة يجب أن يحسب لها حساب ولا يمكن تجاهلها.. وحقوق العرب لا يستطيع أحد التفريط فيها.. وصوت العرب سيظل ينادى بالعدالة.. والعالم العربى كله لن يستسلم للقوة.. لأنه يؤمن بأن الحق فوق القوة.
وأعتقد أن الأمور تحتاج إلى موقف عربى بعد هذه الزيارة يؤكد للعالم أن العرب قادرون على أن يعلنوا رأيهم ويجتمعوا على كلمة واحدة.