د. سعيد النجار.. وداعــا
الدكتور سعيد النجار من أهم المفكرين السياسيين والاقتصاديين فى مصر فى العصر الحديث، صاحب رؤية.. ولديه مشروع لإعادة البناء والتحديث.. وصاحب رسالة.. ومناضل بالمعنى الدقيق.
عمل لسنوات فى البنك الدولى حتى أصبح نائبا لرئيس البنك، ثم نائبا لرئيس منظمة التجارة العالمية، وعاد إلى وطنه بعد هذه الرحلة الطويلة ليقدم خلاصة الخبرة والتجربة الدولية النادرة لأبناء وطنه، أسس جمعية النداء الجديد أول منظمة للمجتمع المدنى فى مصر رسالتها نشر الفكر الليبرالى ومحاولة إيجاد صيغة للتوافق بين تيارات الفكر العالمى الحديث وطبيعة المجتمع المصرى وميراثه الحضارى وتراثه الثقافى..
وأسهمت الندوات الأسبوعية التى أشرف عليها على إظهار عدد كبير من المفكرين والباحثين كانت لهم إسهامات مهمة فى تطوير الحياة الثقافية والسياسية فى مصر.. ومع الوقت تحولت جمعية النداء الجديد إلى مركز من أهم مراكز التفكير وتقديم المبادرات للإصلاح فى جميع مجالات الحياة.
رجل هادئ.. متواضع.. أستاذ بمعنى الكلمة.. يتعامل مع تلاميذه بحب ويتابع نموهم العقلى والعلمى ويقدم لهم المعونة ولا يبخل عليهم بالنصيحة.. كان مثل ديوجين بطل الأسطورة اليونانية القديمة الذى كان يحمل مصباحا يطوف به أثينا فى وضح النهار.. ويقول: إنه يبحث عن الحقيقة.. لأن الحقيقة موجودة، ولكن العثور عليها ليس سهلا يحتاج إلى مجهود وتدقيق وضوء شديد للتأكد أنها الحقيقة فعلا وليست مزيفة.. لذلك كان يجيد الاستماع.. ويرحب بالمعارضة.. ويشجع الرأى الآخر.. ويفتح المجال لتعدد الاجتهادات واختلافات المواقف والرؤى.. وكان مظلة كبيرة تتسع للجميع.. لا يضيق برأى.. ولا يكره الاختلاف.. ولا خصومة له مع أحد من أصحاب المواقف السياسية التى تتعارض مع مواقفه.. لذلك كان محبوبا من كل من يلتقى به وكل من يتعامل معه.
رحل عنا منذ أيام عن عمر يناهز 84 عاما، لكنه كان فى عنفوان الشباب حتى أيامه الأخيرة.. حيويته مكتملة.. وذهنه حاضر.. وذاكرته حديدية.. وقدرته على الحوار والجدل تعتمد على المنطق وليس على الصوت العالى.. ويخاطب العقول ولا يثير المشاعر.
كان يشعر أن عليه مسئولية كبرى.. لذلك كان يشارك فى كل مناسبة.. ليس بكلمات من كلمات المناسبات التى تعودنا عليها من السياسيين الفارغين، ولكن بتقديم فكر واضح ومتميز يدعو من يقرأ أو يسمع إلى أن يفكر وأن يختار لنفسه الطريق.
رفض المناصب التى عرضت عليه، ليس لأنه كان يرى نفسه أكبر منها كما قيل فى وقتها، ولكن لأنه كان يؤمن بأن مكانه مع المثقفين لكى يسهم فى تأسيس المجتمع المدنى، وفى إنشاء أول جماعة من جماعات الضغط بالفكر والمنطق، وكى يتفرغ لتقديم بدائل وحلول للمشاكل بدلا من ازدياد أعداد الذين يتصورون أن النقد معناه إلقاء الطوب فى كل اتجاه، ومخالفة كل قرار، وتشويه سمعة كل شخص ومهاجمة كل مشروع وكل قــرار وكل سياسة دون تقديم اقتراح أو بديل.. ولأنه صاحب نظرة تتجاوز الحدود المحلية.. نظرة عالمية نادرة اكتسبها خلال سنوات طويلة فى المنظمات الدولية كان فيها شاهدا على كل ما جرى ويجرى فى العالم من تطورات وتغيرات وانقلابات.. وكان على علم بكل الأسرار والخفايا للقوى الكبرى والقوى الصغرى.
هذه الرؤية العالمية جعلته الأقدر على تشخيص المشاكل وتقديم الحلول.. وله فى كل مشكلة رأى.. وآراؤه مطبوعة ومنشورة فى سلسلة كتيبات أصدرها من جمعية النداء الجديد، كما أصدر لعدد كبير من الباحثين والمفكرين اجتهاداتهم فى حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
وهو ليبرالى.. يؤمن بالحرية الفردية، وبالديمقراطية فى السياسة وإدارة الدولة، واتساقا مع هذا الفكر فهو يدافع عن الحرية الاقتصادية واقتصاد السوق، ولكن دون أن يندفع كما فعل غيره ويطالب بإلغاء دور الدولة أو يدعو إلى النظرية القديمة عن دور الدولة الحارسة التى ينحصر دورها فى توفير الأمن وإقامة العدالة ولا شأن لها بالاقتصاد.. فهو أعلم من غيره بأن هذه النظرية تنتمى إلى القرن الــ 18 والقرن الــ 19 ولم يعد لها وجود فى أية دولة فى العالم.
اقتصاد السوق الآن فى أشد الدول الرأسمالية مرتبط بدور واضح وقوى للدولة لتوجيه الاقتصاد لصالح البلد ولحماية الطبقات المتوسطة والضعيفة، بحيث لا يستأثر الأغنياء بكل شىء.. ويحرم الفقراء من كل شىء.. واقتصاد السوق محتاج إلى دور الدولة لكى يوجه الاقتصاد بطرق مختلفة عن التأميم والمصادرة والتخطيط المركزى.
عزاؤنا أن سعيد النجار ترك ثروة من الكتابات وضع فيها أفكاره الأساسية وقدمها بلا مقابل لتكون دليلا للعمل إن لم يكن اليوم فسوف نعود إليها غدا ونحتاج إلى الاسترشاد بها.
ويقولون: إن الرجال العظام نوعان.. نوع يترك وراءه كتبا ومؤلفات وليس له تلاميذ.. ونوع يترك تلاميذ يواصلون مشواره ويحملون أفكاره ويعملون على تطويرها وإحيائها والسعى إلى غرسها فى العقول الجديدة للنشء.. وفى مصر نماذج من النوعين.. أما سعيد النجار فهو يجمع بين الاثنين.. ترك مؤلفات وكتبا ومقالات عديدة.. وترك تلاميذ كثيرين هم الآن أساتذة فى الجامعات.. ورؤساء شركات.. ووزراء.. وكتاب.. ومفكرون.. وجميعهم لهم أدوار بارزة فى مواقعهم.
ومن أهم ميزاته أنه كان على وعى بأن فى مصر فئة ظهرت تحمل لواء الليبرالية دون أن تكون على دراية كافية بالليبرالية وتاريخها وتطورها، ولكنها جعلت الشعار وسيلة للارتزاق وتجارة تتكسب بها، وبابا تدخل منه للشهرة والظهور فى المجتمع.. كثيرون يتحدثون عن الليبرالية.. وقليلون يتحدثون عنها عن علم ودراسة وفهم.
وأذكر حين بدأ الدكتور سعيد النجار نشاطه فى جمعية النداء الجديد أن البعض هاجمه وشكك فى نواياه وقال: إنه رأس حربة أو حصان طروادة للبنك والصندوق الدوليين وللإمبريالية الرأسمالية التى تسعى إلى السيطرة على ثروات واقتصاديات وعقول العالم.. ولم يهتز.. ولم يدافع عن نفسه.. ولم يشغل نفسه بالالتفات إلى هذه السخافات.. ومضى فى طريقه يعمل بإخلاص ودأب.. وأثبتت الأيام أنه وطنى أكثر وطنية من كل الذين هاجموه.. وأنه مخلص لبلاده أكثر من الذين تنتفض العروق فى رقابهم وهم يتصايحون دفاعا عن الوطن وأيديهم ممتدة لمن يدفع لهم.. أما هو فكان دائما رافع الرأس.. شامخا.. مدركا لقيمة نفسه.. مؤمنا بأهمية الدور الذى يقوم به.. مدركا أن السهام التى توجه إليه تقويه ولا تضعفه.. وفعلا هذا ما حدث وأثبتت الأيام أنه أقوى من كل من خاضوا معه معارك أشبه بمعارك دون كيشوت الذى كان يحارب طواحين الهواء.. وظل مرفوع الرأس إلى آخر لحظة.. لم يقف على باب.. ولم يجلس إلى جانب التليفون.. ولم يسع إلى من يساعده فى الحصول على منصب.. كان أكبر من كل المناصب.. لأنه عالم ومفكر ومن كان فى منزلته فى العلم والفكر، لابد أن تتضاءل فى عينيه المناصب.
وبعد رحيله..
فقدنا منارة من منارات الفكر كانت ترشد وتوجه وتضىء الطريق..
فقدنا النصيحة المخلصة.. والتفكير الهادئ الرصين القائم على العلم والإخلاص.
فقدنا شجاعة صاحب الدعوة الذى نستطيع أن نحتفظ بصداقتنا معه ونختلف معه فى نفس الوقت دون أن يفسد الاختلاف صفو الود بيننا.
ولكن بقيت بيننا أفكاره نختلف ونتفق عليها.
وبقى لنا تلاميذه وهم الآن أساتذة قادرون على حمل الراية واستكمال المسيرة.
وبقيت لنا الفكرة والمبدأ.. أن أصحاب الفكر قادرون على أن يزرعوا فى العقول أفكارا صالحة للنمو تثمر حتى بعد رحيلهم وتؤتى أكلها بعد حين.
ولن أطالب بإقامة تمثال أو إطلاق اسمه على شارع، لأنه فى الحقيقة أكبر من ذلك.. فكره ومواقفه وعطاؤه تكفى لتخليد ذكراه.. وتزيد.