نحن وأمريكا.. صداقة ومساحة للخلاف
زيارة الرئيس مبارك إلى الولايات المتحدة هذه المرة، ولقاؤه مع الرئيس بوش فى غاية الأهمية، فالمنطقة العربية تعيش فترة غليان، وسياسة الولايات المتحدة تبدو للعرب متناقضة بشكل يثير الدهشة، ويحتاج فهم حقيقة العلاقة بين أمريكا والعالم العربى إلى حوار جاد وصريح.
من الحقائق المستقرة منذ سنوات أن بين مصر والولايات المتحدة علاقة صـداقة قوية، مستمرة، خصوصـا على المستوى الشعبى، حيث يشـعر المصريون أن الشعب الأمريكى شـعب صديق.. لا يحمل عداء للعرب.. ولا للإسلام.. وعندما يلتقى مصرى وأمريكى سرعان ما يجدا جسورا للتفاهم والتقارب.. باختصار مشاعر الشعب المصرى تجاه الشعب الأمريكى على أحسن ما يكون.
المعضلة الحقيقية فى مشاعر المصريين والعرب تجاه الحكومة الأمريكية الحالية، وتجاه بعض المفكرين ومراكز الأبحاث الذين يعبرون صراحة عن العداء للعرب والمسلمين، ويحرضــون الإدارة الأمريكيــة عليهم، وما يشاهدونه صباح مساء على شاشات التليفزيون من مشاهد القتل والتدمير يخلق حالة من التوتر يصعب علاجها. بينما العلاقة بين الحكومة المصرية والحكومة الأمريكية تعكس الصداقة التى تسمح بوجود مساحة للخلاف.. فالعلاقات الاقتصادية والتجارية قائمة بشكل جيد رغم ما تلاقيه من صعوبات بسبب أن الولايات المتحدة تضع العراقيل من حين لآخر أمام الصادرات المصرية أو تعوق سرعة برامج التنمية والاستثمار وتحسين مستوى المعيشة.. لكن ذلك لم يمنع من أن تتلقى مصر معونات ومساعدات فى قطاع المبانى التعليمية والمستشفيات مثلا.. وآلاف من المصريين تعلموا ويتعلمون فى الجامعات الأمريكية.. ومجلس رجال الأعمال المصرى الأمريكى ما زال قائما وإن كان ينشط أحيانا ويتعثر أحيانا أخرى..
كذلك فإن الحوار الاستراتيجى بين مصر والولايات المتحدة سار لفترة على الطريق الصحيح، وعقدت لقاءات وحوارات عميقة حول القضايا الجوهرية التى تهم البلدين وتتعلق بمصالح كل منهما سواء بالنسبة للعلاقات السياسية ورؤية مصر وأمريكا للقضايا الساخنة وخاصة قضية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وموقف الولايات المتحدة من إسرائيل والفلسطينيين.. وكذلك موقف الولايات المتحدة من المنطقة ككل وتصورها لحدود الدور الأمريكى فيها، وحقوق شعوب المنطقة فى تقرير مصير بلادهم وممارسة الحرية فى اختيار النظام الذى يناسبهم، وتحقيق التنمية والديمقراطية والإصلاح الاقتصادى والسياسى فى ضوء ظروف كل بلد وتكوينه السكانى والثقافى ودرجة التطور التى وصل إليها.. فهذه كلها أمور فيها مساحة للاتفاق ومساحة للاختلاف..
سار الحوار الاستراتيجى لفترة، وعقدت لقاءات على مستوى وزيرى الخارجية، ثم على مستوى الخبراء ووكلاء الوزارات، ثم توقف هذا الحوار، ربما بسبب أن الولايات المتحدة أدارت حوارا آخر فى المنطقة بوسائل مختلفة لأول مرة باستخدام القوة العسكرية فى العراق، وفرض الضغوط الاقتصادية والسياسية على عدد من الدول العربية. لكن- مع ذلك- فقد تقرر أن يستأنف مرة أخرى، ومن المقرر أن يمثل الطرف المصرى وزير الخارجية أحمد ماهر، وربما تكون جولة الحوار القادمة مفيدة لتوضيح كثير من الأمور الغامضة بالنسبة للإدارة الأمريكية التى تبدو غير مدركة للحقائق عن العالم العربى كاملة كما هى على أرض الواقع، وتبدو بتصرفاتها كأنها ترى الأمور فى العالم العربى كما تريد أن تراها لا كما هى فى الواقع، وهذه الرؤية الذاتية هى التى تسبب الخلافات فى المواقف وتقييم الأوضاع ورؤية المستقبل.
والحوار يبدأ من اعتراف بحقيقة مسلّم بها، وهى أن الولايات المتحدة هى القوة الوحيدة التى تقود النظام العالمى، وأن لها مصالح فى المنطقة العربية لا يريد أحد أن يحرمها منها، وفى نفس الوقت فإن فى هذه المنطقة شعوبا لها تاريخ وثقافة وتطلعات ومصالح وحقوق لا ينبغى تجاهلها أو الاعتداء عليها. وتحقيق التوازن بين الأهداف والمصالح الأمريكية وبين الأهداف والمصالح العربية ممكن، بل هو الشىء الضرورى والضمان الوحيد لحماية مصالح الطرفين، وأى خلل فى العلاقة يهدد استمرارها ونموها بقدر ما يهدد مصالح الجانبين.
والحوار مع الولايات المتحدة له محاور أساسية:
المحور الأول: هو العلاقات بين البلدين.. العلاقات السياسية والثقافية والتجارية ومدى ما تقدمه أمريكا لمصر لمساعدتها على تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، ونوع وأثر المساعدات الأمريكية فى تحقيق التقدم العلمى والتكنولوجى الذى تتطلع مصر إلى إنجازه وترى أن هذه هى المفاتيح الحقيقية للتغيير والإصلاح الشامل.. فالإصلاح السياسى لا يتحقق ولا يجدى إلا إذا كان مرتكزا على نتائج الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى والثقافى وتحسين مستويات الحياة.
وفى هذا المحور فإن شعور المصريين أن الولايات المتحدة لم تسهم بقدر كاف فى مساعدة مصر على استثمار ثرواتها وإمكاناتها الاقتصادية، والمصريون يتساءلون كم مصنع وكم مشروع لاستصلاح الأراضى ساهمت به أمريكا لزيادة مواردنا وتحسين أحوالنا على المدى الطويل؟. ما هى التكنولوجيا التى ساعدتنا بها أمريكا؟. وكم من الأموال الأمريكية يتم استثمارها فى مشروعات إنتاجية فى مصر يمكن أن تساعد على تخفيف الأزمة الاقتصادية وتخلق فرص عمل جديدة، ويشعر معها المصريون بأن أمريكا تمد لهم يدها لتساعدهم مساعدة حقيقية وملموسة على التقدم؟
**
المحور الثانى هو الوضع الحالى فى العراق، ولا يمكن تجاهل ما يقوله الأمريكيون أنفسهم من أن السياسة الأمريكية الحالية يمكن أن تؤدى إلى إشعال المقاومة، وقد يصل الأمر إلى حد اشتعال حرب أهلية، ولن يجدى إصرار الإدارة الأمريكية على تجاهل الحقيقة واعتبارها إرهابا، لأن استخدام القوات الأمريكية للسلاح فى مواجهة العراقيين لن تكون له نتيجة غير تزايد الرفض للاحتلال. ولم يحدث فى التاريخ أن استسلم شعب للقمع من الوجود الأجنبى.
والقوة العسكرية ليست الوسيلة الصحيحة لإدارة الأزمة فى العراق فى هذه ليست المرحلة، ولعل مــا كتبــه (اتش. دى. اس جرينــواى) فى هيرالد تريبيون يوم 23 مارس الماضى يعبّر عن السياسة الحكيمة التى يمكن أن تتبعها الولايات المتحدة حتى فى حربها على الإرهاب، ففى مقاله بعنوان (الحل الصحيح: مزيج من القوة الصلبة والقوة اللينة) قال فيه: إن الجدل الواسع حول سياسة الولايات المتحدة فى حربها على الإرهاب يتلخص فى محور واحد: هل تعتمد الولايات المتحدة على قوتها العسكرية فقط؟. وهل تعمل بمفردها دون مبالاة بالحلفاء المستعدين لمساعدتها؟. وإلى أى مدى يمكن أن تعتمد الولايات المتحدة على القوة اللينة، أى العمل السياسى والدبلوماسى والمصالح المشتركة، وجاذبية القيم والمبادئ المشتركة؟. كما يتوقف الأمر على مدى استعداد أمريكا للاستماع إلى رأى الآخرين.. ولماذا تختار الإدارة الأمريكية استخدام القوة العسكرية فقط إذا كان فى استطاعتها أن تستخدم القوة السياسية اللينة؟.
ليست هناك إجابة واحدة فى أمريكا.. بل إن الخلاف فى المواقف والتصريحات يصل إلى حد التناقض، وقد ظهر ذلك- على سبيل المثال- فى كتابين جديدين: كتاب ريتشارد بيرل وديفيد فروم (نهاية الشر: كيفية الفوز بالحرب على الإرهاب) وكتاب جوزيف ناى (القوة اللينة: وسيلة النجاح فى سياسات العالم) والمؤلفون من الشخصيات الأمريكية المعروفة فى مركز التفكير والبحث الاستراتيجى، ولهم جميعا سابق خبرة فى مواقع حساسة فى الحكومة تسمح لهم بمعرفة الكثير من حقائق وأسرار السياسة الأمريكية. ريتشارد بيرل -مثلا- هو المرشد الروحى لتيار اليمين الجديد أو المحافظين الجدد كما يسمونهم، وديفيد فروم هو صاحب نظرية (محور الشر) ومخترع تعبير (القوة اللينة) ويقصد به الوسائل السياسية والدبلوماسية ومخاطبة المصالح وكل الوسائل الأخرى غير العسكرية. وملخص نظريتهما أولاً: أن العالم الآن ملىء بالشياطين والشرور، ويتحتم على الولايات المتحدة قتل (الأشرار) فى كل مكان!، ونظريتهما تؤكد- ثانيا- على أن توحد أوروبا ليس فى مصلحة أمريكا، وبالتالى فإن على أمريكا أن تشجع وتساعد بريطانيا على أن تبقى بعيدة إلى حد ما ومستقلة عن أوروبا، أما بالنسبة لعالم الأشرار فلا تكفى الإطاحة بحكام أفغانستان والعراق، بل يجب أن تمتد المواجهة بجرأة إلى إيران وكوريا الشمالية وسوريا وليبيا والسعودية، وإلا فإن الولايات المتحدة سوف تصيبها أضرار كبيرة(!)
و تؤكد هذه النظرية أيضا على أن السيادة الوطنية الأمريكية واجب وحق، فإذا كانت الولايات المتحدة تحتاج إلى الإغارة على سوريا للبحث عن أسلحة، أو لقصف معامل نووية فى كوريا الشمالية، فلتفعل ذلك دون تردد، هذا رغم أنهما يختمان ذلك بقولهما: مع أننا لا نعرف مكان هذه المنشآت (!)
ريتشارد بيرل وديفيد فروم يعتبران أنفسهما ممثلين للتفكير (الواقعى) وفى رأيهما أن مشكلات العالم ناتجة عن وجود قادة ضعفاء ليست لديهم قوة الإرادة. وأن ما يراه العالم (أحادية) من جانب أمريكا فى القرار والعمل يجب أن تراه أمريكا (قيادة) للعالم، وهذا يحتاج إلى تطهير الوكالات الحكومية الأمريكية، والمخابرات، ومكتب التحقيقات الفيدرالى، ووزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، من العناصر التى تحاول إضعاف العزيمة الأمريكية على العمل وحدها وبقوة!
يقول جوزيف ناى: إن هذا الاتجاه يجد أنصارا فى دوائر الفكر والقرار فى أمريكا الآن، وهو اتجاه يرى أن تحويل أنظمة الحكم غير الديمقراطية فى الشرق الأوسط إلى نظم ديمقراطية معناه خضوع هذه الأنظمة للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، أما بالنسبة للفلسطينيين فليس أمامهم إلا أن يبتلعوا خيبة الأمل، ويقبلوا الاحتلال الإسرائيلى، أو يرحلوا.. (!) ويقول جوزيف ناى أيضاً إن بيرل وفروم يروجان لفكرة أن الرئيس بوش يتعرض للنقد لأنه لم يدرك أن فكرة الدولة الفلسطينية قد تكون فكرة لطيفة، ولكنها ليست فكرة مناسبة (!).
هذا التيار ليس مقصورا على ريتشارد بيرل وديفيد فروم، ولكنه تيار سائد.. قوى.. ومؤثر فى التفكير وفى القرار.
هناك تيار آخر- يبدو أقل تأثيرا - يمثله جوزيف ناى ومجموعة من الباحثين فى الاستراتيجية.. هؤلاء يؤيدون استخدام القوة، ولكن يقولون: إن (القوة اللينة) يمكن أن تساعد فى الحصول على ما تريده أمريكا عن طريق الجذب والإغراء بدلاً من طريق الإكراه، على أساس أن جاذبية الثقافة والقيم الأمريكية، والمثل السياسية، والدبلوماسية يمكن أن تجعل السياسات الأمريكية مقبولة ولها شرعية ومصداقية لدى الآخرين، وقد يكون ذلك أفضل من أن تبدو أمريكا أمام العالم وهى تمارس القسوة والإكراه وتخسر بذلك الآثار الطيبة التى حققتها بالدبلوماسية والجذب.
نظرية أصحاب (القوة اللينة) تقول: إن المعاداة لأمريكا تنتشر كلما ازداد استخدامها للقوة العسكرية، وهذا العداء يمتد إلى الحكام الذين يؤيدون أمريكا وسياساتها، وهذا ما يفسر لماذا لم تستطع الولايات المتحدة كسب مساندة تركيا والمكسيك وشيلى فى غزو العراق، بالرغم من أن هذه الدول من أقرب حلفائها؟. وهذا أيضا ما يفسر سقوط الحزب الحاكم فى أسبانيا المؤيد لأمريكا فى حربها فى العراق، وفوز المعارضين للحرب ووصولهم إلى الحكم، ووعد رئيس الوزراء الأسبانى الجديد بسحب القوات الأسبانية من العراق.
هذا الاتجاه الرافض للاعتماد على القوة العسكرية لتحقيق الأهداف الأمريكية يدعو الإدارة الأمريكية إلى العمل على تعزيز الديمقراطية فى دول العالم بالجزرة وليس بالعصا، بالإغراء وليس بالتخويف.. بالثواب وليس بالعقاب وذلك لتفادى تزايد العداء لأمريكا فى العالم، ومعالجة الثمن الباهظ الذى تدفعه أمريكا لأخطائها فى حرب العراق.
***
يتصل بهذا المحور من علاقات أمريكا بالعالم العربى موقفها من القضية الفلسطينية. شارون ينفذ سياسة القتل ويعلن ذلك دون مواراة، بينما الإدارة الأمريكية تقف موقف الصمت، وتعلن أن شارون (رجل سلام!) والحكومة الإسرائيلية مستمرة فى بناء سور للفصل العنصرى بين العرب واليهود، والإدارة الأمريكية تقدم المساعدة المالية لبناء السور وتعلن التزامها بأن تكون إسرائيل دولة يهودية فى الوقت الذى يرفض فيه العالم مبدأ الدولة الدينية العنصرية. والإدارة الأمريكية ترفض حق الفلسطينيين فى رفض الاحتلال الإسرائيلى ومقاومته. والإدارة الأمريكية أعلنت خريطة الطريق وقبلها العرب والفلسطينيون ورفضتها الحكومة الإسرائيلية ولم تمارس أمريكا دورا حقيقيا لتنفيذها.. والجيش الإسرائيلى يقتحم المسجد الأقصى ويستخدم قنابل الغاز والرشاشات ضد المصلين ولا تصدر من الإدارة الأمريكية كلمة تعبر عن الإدانة.. وشارون يعلن أنه هو الآمر بقتل الشيخ القعيد أحمد ياسين ولا يصدر من المسئولين فى الإدارة الأمريكية سوى الإدانة للقتيل وليس للقاتل (!) وتستخدم الفيتو لمنع صدور قرار من مجلس الأمن يدين سياسة القتل (!).
هنا نحتاج إلى وقفة مع الصديق.. نحتاج إلى حوار استراتيجى.. نحتاج إلى تفاهم قد يؤدى إلى تفهم الإدارة الأمريكية لأهمية اتخاذ موقف متوازن يعكس روح العدالة ومبادئ الحرية الأمريكية، ويحترم حق الشعب الفلسطينى فى الحياة..
وحتى دينيس روس الذى كان وكيلا لوزارة الخارجية الأمريكية ومبعوثا للشرق الأوسط، وهو الآن مدير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى لم يستطع أن يساير سياسة الانحياز الأمريكى وازدواج المعــايير، وكتب مقـــالا فى هيرالد تريبيون يوم 25 مارس الماضى يدعو فيه إلى أن تمارس الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل كما تمارس الضغط على الفلسطينيين، ويقول إن اغتيال الشيخ أحمد ياسين يذكرنا بأن هناك حربا دائرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، دون أن تكون هناك محاولة أمريكية حقيقية لإنهائها على مدى السنوات الثلاث الماضية، ونتيجة لذلك فإن الصراع يشتد، ويزداد عدد الضحايا على الجانبين. وإن كان اغتيال الشيخ أحمد ياسين يرضى غريزة الانتقام لدى الإسرائيليين.فإنه لابد سيشعل غريزة الانتقام لدى الفلسطينيين أيضا، وهذا ما بدأ يظهر، فقد أحبطت القوات الإسرائيلية هجوما صاروخيا على إسرائيل من جنوب لبنان فى اليوم التالى لقتل أحمد ياسين، واستخدمت إسرائيل الطائرات.. ولكن على المدى الطويل فإن الحقيقة أن أغلبية الفلسطينيين يريدون التعايش السلمى، ويريدون إنهاء هذا الصراع، ويقول دينيس روس: إن جميع الفلسطينيين الذين تحدثت معهم أثناء زيارتى الأخيرة إلى الشرق الأوسط أكدوا إمكان التنسيق مع الإسرائيليين للانسحاب من غزة، ولكن الإسرائيليين يرددون أن ياسر عرفات يعوق تحرك رئيس وزرائه، وأن عرفات يفضل الفوضى على الاستقرار، ويصل دينيس روس إلى أن هذه هى الظروف المناسبة لكى تتدخل الولايات المتحدة وتقوم بدورها كوسيط، ولكن المشكلة فى رأيه أن الإدارة الأمريكية أيضا تعلن عدم ثقتها فى السلطة الفلسطينية، وتجرى مشاوراتها مع طرف واحد هو الطرف الإسرائيلى، ولا تتحدث إلا مع شارون وحده وتتجاهل الطرف الفلسطينى. وهذا الموقف- كما يقول- هو الذى يشجع السلبية من الجانب الفلسطينى ومن جميع الأطراف الأخرى بدلاً من تشجيعهم على المشاركة فى عملية حقيقية للتسوية، وفى نفس الوقت فإن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تفعلان شيئا سوى إبداء القلق من أن يكون الانسحاب الإسرائيلى فرصة لسيطرة حماس على غزة، بينما المفروض أن يكون ذلك دافعا للعمل مع السلطة الفلسطينية لتقويتها وليس العكس.. ويصل دينيس روس من رؤيته للواقع عن قرب إلى أن الإدارة الأمريكية إذا بدأت مباحثات جادة مع الفلسطينيين والمصريين والأردنيين فإنها سوف تضمن الوصول إلى نتائج إيجابية: ضمان سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة.. فقط لابد أن تساعد الإدارة الأمريكية السلطة الفلسطينية بعد ذلك على كبح جماح التطرف وتمكينها من تقديم الخدمات الضرورية للفلسطينيين.. وهكذا تستطيع أمريكا أن تؤدى أداء أفضل إذا وجهت رسالة عملية تثبت أن الفلسطينيين يكسبون إذا شاركوا فى التسوية، وفى هذه الحالة سوف يثبت لأمريكا أن عرفات سيقف مع التسوية.. ولكن سوف تفشل أية مبادرة لا يشترك فيها الفلسطينيون ولا تعطى لهم الفرصة، والإمكانات لتولى المسئولية فى مناخ يجعل صناعة السلام ممكنة.. وإذا لم تأخذ الولايات المتحدة القيادة الآن فلن تكون النتيجة سوى تزايد خطوط المواجهة.
هذا هو التيار فى الفكر الأمريكى المعبر عن خبرة بطبيعة الصراع، ولكنه ليس مؤثرا فى القرار مع الأسف.
وقد يستمع الرئيس بوش إلى نصيحة وزير الخارجية الأسبانى القادم موراتينوس وله خبرة طويلة بالمنطقة من خلال عمله كمبعوث للاتحاد الأوروبى فى الشرق الأوسط لمدة ثمانى سنوات، وقد أعلن أنه لن تتم هزيمة تنظيم القاعدة حتى يتم التوصل إلى حل سلمى للصراع الإسرائيلى الفلسطينى.
وفى نفس الوقت فإن هناك موضوعات شديدة الأهمية مثل حدود دور مصر فى غزة والعراق، وقد أعلنت مصر الحدود التى يمكن أن تساهم بها فى حماية الحدود بين مصر وغزة، وتدريب قوات الأمن الفلسطينية والعراقية، والمساهمة فى إعادة إعمار العراق، وموقفها الثابت هو إنهاء الاحتلال فى العراق والأراضى الفلسطينية وإعطاء دور أكبر للأمم المتحدة فى العراق والبدء بجدية فى تنفيذ خريطة الطريق بالتزاماتها على الطرفين.
***
ثم نصل إلى المحور الثالث وهو المبادرة الأمريكية لنشر الديمقراطية فى العالم العربى، وهذه المبادرة أثارت فى العالم العربى موجة من القلق والرفض لم يسبق لها مثيل، لأنها جاءت فى وقت تزامن مع العدوان الأمريكى فى العراق، والعدوان الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية، والضغوط الأمريكية على سوريا، والسودان، وليبيا، ولم يكن معقولا أن تسعى الولايات المتحدة إلى تحديث وتطوير المجتمعات العربية فى هذا الوقت بالذات، ولذلك استقبلها العرب بالشك، وتصوروا أن وراءها نوايا خفية وربما تكون مقدمة أو حجة لعدوان أمريكى جديد!
وبالنسبة لمصر كانت الدهشة أكبر، لأن مصر سارت فى الإصلاح الاقتصادى والسياسى والاجتماعى بخطوات واسعة ملموسة منذ سنوات، وحققت الكثير فى مجال الحريات، وحقوق الإنسان، وتطوير التعليم، وإنصاف المرأة، وقامت بتغيير كثير من القوانين والنظم القديمة، وسبقت الجميع فى محاربة الإرهاب والفكر المتشدد، وكانت هى أول من دعا إلى مؤتمر دولى لحشد العالم لمحاربة الإرهاب، وهى أول من دعا إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل.. و.. و.. فلا يعقل أن تكون فى حاجة إلى من يقدم لنا برنامجا للإصلاح السياسى، ومع ذلك فإن مصر- بطبيعتها- لا ترفض ما يعرض عليها لمجرد الرفض، فهى تستمع، وتدرس المبادرات الكثيرة المطروحة، ولا تكتفى بتلقى المبادرات، ولكنها تقدم أيضا مبادرة للإصلاح نابعة من الشعور بأن الإصلاح عملية مستمرة لا تتوقف.
والولايات المتحدة تستند فى دعواها على تقرير التنمية البشرية العربية الذى صدر منذ شهور وأعده ثلاثون مفكرا من المنطقة العربية، وحدد ثلاثة عوائق رئيسية تعوق التنمية البشرية فى العالم العربى هى: قصور فى الحرية، وفى حقوق المرأة، وفى المعرفة، وقبل صدور هذا التقرير بوقت طويل كانت مصر قد شهدت مؤتمر الحزب الوطنى الذى تبنى شعار حقوق المواطن أولا، وخصص مشروعا متكاملا لتطوير التشريعات المتعلقة بالحريات، وكان المجلس القومى للمرأة قد عقد عدة مؤتمرات وندوات حددت برنامجا لإزالة العقبات أمام ممارسة المرأة لحقوقها السياسية والاجتماعية على قدم المساواة، وصدرت فعلا قوانين واتخذت إجراءات تجعل أوضاع المرأة فى مصر أفضل من وضعها فى بعض المجتمعات الأوروبية فى نواح كثيرة، وكانت مصر قد عقدت مؤتمرا لوضع تصور لمجتمع المعرفة وبدأت تنفيذ توصياته.
لذلك كانت الدهشة شديدة فى مصر من أن تكون ضمن الدول التى تقصدها أمريكا بمبادرتها، وكانت الدهشة الأكبر أن الولايات المتحدة ذاتها تشهد فى هذه المرحلة تراجعا فى الحريات بدعوى حماية المجتمع الأمريكى من الإرهاب، بينما تستنكر بعض الإجراءات الاستثنائية فى الدول العربية لنفس الغرض (!)
***
وقد عبّر عن الحقيقة المفكر الاستراتيجى الأمريكى المعروف زبيجينيو بريجنسكى فى مقال أخير بعنوان (كيف نسهم فى عدم نشر الديمقراطية؟!) نشر فى هيرالد تريبيون فى 9 مارس الماضى قال فيه: إن الفكرة الجيدة يمكن أن يفسدها الأداء غير المتقن، وقد يحدث ما هو أسوأ، وتأتى هذه الفكرة بنتائج عكسية، خاصة إذا كانت الشعوب ترتاب فى أن وراء هذه الفكرة دوافع خفية، وهذا ما يحدث مع مبادرة الشرق الأوسط الكبير التى أعلنها الرئيس جورج بوش، والتى تحدد الخطوات التى ستتخذها الولايات المتحدة مع شركائها فى مجموعة الدول الصناعية الثمانى للارتقاء بالحرية السياسية، وتحقيق المساواة، وحق التعليم للمرأة، وقدر أكبر من الانفتاح فى الشرق الأوسط، وتشمل عناصر الاقتراح إنشاء مناطق تجارة حرة، ونظام تمويل جديد للمشروعات الصغيرة، والمساعدة فى الإشراف على الانتخابات.
وقد أعلن الرئيس الأمريكى عن هذا المشروع أمام معهد (أمريكان انتربرايس) وهو مؤسسة أبحاث خاصة تؤيد -إلى أقصى الحدود- الحرب فى العراق، ولا تحمل أى تعاطف تجاه العالم العربى، والفكرة فهمت على أن أمريكا- بتأييد أوروبا وإسرائيل- ستلقن العالم العربى كيف يصبح عالما أكثر تحديثا وديمقراطية!.. وهذه المنطقة العربية لا تزال فيها ذكريات الهيمنة الفرنسية والبريطانية حية، ورغم ما يبدو من أن هذا البرنامج تطوعى واختيارى، فإن المخاوف شديدة من أن يكون عنصر الإجبار والفرض متواريا وليس مستبعدا.
ويقول بريجنسكى بعد ذلك:إن الديمقراطية التى تريد أمريكا فرضها بدون تدرج يمكن أن تؤدى إلى عواقب غير مقصودة، فقد يختار الفلسطينيون بإرادتهم الحرة قيادة لهم من منظمة حماس، وقد يختار بلد آخر أسامة بن لادن زعيما له، فهل ستكون هذه النتيجة مما يرضى واشنطن؟.
ويقول بريجنسكى أيضا: إن ما يزيد الشكوك ما قاله ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكى فى منتدى دافوس من أن نشر الديمقراطية أولا هو الشرط المسبق للسلام فى الشرق الأوسط، والتوصل إلى حل سلمى للصراع العربى الإسرائيلى، وكان معنى ذلك أن أمريكا قررت تأجيل حل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى وعملية السلام كلها إلى أن تصل عملية الإصلاح السياسى إلى نهايتها وفقا لتصور أمريكا لها!
يقول بريجنسكى، وهو الخبير بأحوال الشرق الأوسط: مادام الفلسطينيون يعيشون تحت السيطرة الإسرائيلية ويتعرضون لإذلال يومى، فلن تغريهم الديمقراطية.. وذلك مـــا ينطبق أيضـا على العــراقيين تحـت وطـــأة الاحتلال الأمريكى.
ويصل بريجنسكى إلى أن الإدارة الأمريكية لكى تحقق أهدافها فعليها اتباع الخطوات التالية:
أولا: وضع برنامج لنشر الديمقراطية بالمشاركة مع الدول العربية، وليس برنامجا مقدما إليهم، على أن يكون متفقا مع القيم الدينية، والثقافية العربية.
وثانيا: الاعتراف بأنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية بدون الكرامة السياسية وحق تقرير المصير، ونجاح برنامج الديمقراطية مرهون بمنح السيادة للعراقيين والفلسطينيين، وإلا فسوف تبدو الديمقراطية مجرد واجهة تخفى وراءها الهيمنة، لذلك ينبغى على الولايات المتحدة التوصل إلى التسوية السلمية فى الشرق الأوسط، ثم بعد ذلك أن تعمل على تنفيذ برنامج الديمقراطية والإصلاح، وبذلك تضفى على مشروعها مصداقية، وبشرط أن تتعامل أمريكا مع القيم الإسلامية باحترام.
هذا ما يقوله بريجنسكى، وهو فى ذلك يعبر بموضوعية عن الحقيقة الغائبة فى الفكر الأمريكى فى هذه الأيام.
***
هذه هى الخلفية السياسية التى تجرى فى ظلها مباحثات القمة بين الرئيسين بوش ومبارك فى مزرعة الرئيس الأمريكى، بعيدا عن متابعة الصحفيين الذين يتابعون هذه القمة من بعيد، وتصل إليهم أصداء وأجزاء ويمكن أن تتكامل الصورة أمامهم بعد وقت قصير.
وهناك ظلال كثيرة تحيط بهذه الصورة..
قائمة الاغتيالات التى أعلنها شارون وتضم قيادات فلسطينية من مختلف الاتجاهات.. وتصريحه الأخير فى مناسبة عيد الفصح اليهودى الذى قال فيه: إن تعهده الشخصى للرئيس جورج بوش بعدم المساس بعرفات عفى عليه الزمن..
والعمليات العسكرية العشوائية ضد العراقيين وتساقط القتلى بالعشرات كل يوم..
المدن الفلسطينية والعراقية تحت الحصار العسكرى والقصف الجوى..
أصوات عدائية فى الكونجرس والإعلام الأمريكى تحاول وتحرض على تعكير صفو العلاقات.
إساءات إلى الإسلام والمسلمين وأخذ الكل بجريرة البعض مع ما فى ذلك من غياب معنى العدالة والحرص على العلاقات.
إساءة إلى القادمين إلى أمريكا ومعاملة كل عربى وكل مسلم على أنه إرهابى محتمل!
ظلال أخرى كثيرة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، لأن ذلك لا يخدم عملية تحسين العلاقات.
وما هو محل اتفاق يمكن البناء عليه.. وما هو مساحة اختلاف يجب التحرك بجدية لمناقشته ووضع الحلول له..
ملحوظـة أخيرة : إن التحرك لتقريب مساحة الاختلاف يجب أن يكون من الجانبين، وليس من جانب واحد.. فليس هناك طرف يحتكر الحكمة والصواب وحده..
وعموما فنحن نرقب.. ونأمل أن تسفر هذه القمة عن نتائج إيجابية.. وننتظر!