درس العراق
مهما يقال لتشويه صورة المقاومة العراقية تبقى الحقيقة، وهى أن شعب العراق يرفض الحاكم الأجنبى والاحتلال الأجنبى، كما رفض استبداد الحاكم العراقى. ولا يمكن أن يصدق أحد أن فرض القيم الديمقراطية، وبناء عراق جديد يمكن أن يكون بطائرات الأباتشى وقوات المارينز وتساقط القتلى.
والآن وقد فقدت الأسباب- التى ذكرت لغزو العراق- مصداقيتها، فإن دروس التاريخ تؤكد أن شعوب العالم كلها قاومت الاحتلال برغم أن كل احتلال كان يعلن أن هدفه نشر الحرية والتقدم والتعمير.. الشعب الأمريكى قاوم الاحتلال البريطانى مقاومة مسلحة ولم يقل أحد إن هذه المقاومة كانت إرهابا، وفى يوم 4 يوليو من كل عام يحتفل الشعب الأمريكى بعيد الاستقلال.. أليس من حق الشعب العراقى أن يحتفل أيضا بعيد الاستقلال؟!
أستاذ العلوم السياسية والإنسانية بمعهد وودروه بواشنطن إيان بورما أكد- فى بحث علمى بأدلة من التاريخ- أن فرض المبادئ والقيم النبيلة بالقوة يأتى دائما بنتائج عكسية، ويخلق أعداء لهذه المبادئ ولأصحابها، وذلك ما حدث- على سبيل المثال- منذ قرنين فى المناطق الأوروبية الناطقة بالألمانية عندما قامت بغزوها جيوش نابليون بشعارات الحرية والمساواة والإخاء، وبرغم أن جيش نابليون قام باعتداءات وحشية، فإنه أسهم فعلا فى إرساء الحرية الدينية، وإقامة نظام قانونى حديث، وإصلاح أجهزة الحكومة، لكن الشعوب ظلت ترفض وجود جيش الغزو الفرنسى، واشتعلت الحماسة الوطنية، وامتد الرفض فى ألمانيا إلى العداء لليبرالية والسامية، وإلى مبدأ المساواة أيضا وما أن انهزم نابليون فى ووترلو حتى تم إلغاء كل الإصلاحات التى حققها بما فى ذلك القوانين الليبرالية التى كان فخورا بإدخالها فى بروسيا، واستمرت بذور الرفض والعداوة حتى أثمرت بعد قرن كامل ثمارا أكثر مرارة بظهور النازية فى ألمانيا.
يصل الباحث الأمريكى إلى أن التطرف فى العالم العربى والإسلامى لا يصل أبدا إلى تطرف ألمانيا فى القرن العشرين، ومع ذلك فإن العالم اليوم يجد نفسه أمام دولة عظمى تدعى أن لها رسالة عالمية لتحرير الدول، وتعمل على إيجاد أعداء خطرين، وتواجه بالمقاومة، ليس لأن العالم الإسلامى يعارض أو يقاوم الحرية والديمقراطية، ولكن الآن هذا العالم يقاوم الغزو المسلح والاحتلال العسكرى لبلاده، والعالم الإسلامى لا يكره أمريكا، ولكنه يكره التعصب والغرور الذى يظهره بعض أصحاب الأيديولوجية الإمبريالية فى أمريكا، والشعوب فى العالم الإسلامى تكره ازدواج المعايير فى السياسة الأمريكية.
وبرغم أن حرب بوش وبلير فى العالم الإسلامى لا يدخل الدين ضمن دوافعها، فإن الغزو أعطى الفرصة للمتشددين الإسلاميين للقول بأنها حرب لقمع المسلمين، وأنها التطبيق العملى لنظرية صراع الحضارات، أو إنها- على الأقل- حرب من أجل فرض حضارة غربية بالقوة المسلحة على الحضارة العربية. كل ذلك برغم التسليم بأن المتطرفين فى العالم الإسلامى لا يمثلون الإسلام أو الحضارة الإسلامية أو العربية، كما أن القوات التى تغزو دولا إسلامية لا تمثل الائتلاف المسيحى، ولكن العراق، مع كل ذلك- يمكن أن يصبح خط التماس والصراع الذى لا يريده أحد.
يقول الباحث الأمريكى لماذا لا يكون مفهوما أن يكون أى مسلم ضد التدخل العسكرى الأمريكى، ورأسمالية السوق، والحرية الجنسية، وأفلام هوليوود دون أن يتهم بأنه من أنصار أسامة بن لادن؟ أليس ممكنا أن يكون هذا الشخص إصلاحيا معتدلا على غرار أوروبيين كثيرين يعتقدون أن الديمقراطية لا تتعارض مع التمسك بالدين. والسؤال: هل تساعد الجيوش قضية المسلمين المعتدلين؟ وهل تساعد حالة الفوضى والعنف فى العراق على قبول أفكار ومشروعات دول الغزو؟ وهل يمكن أن يتخذ المسلمون موقف الإدانة لإخوانهم الذين يقاومون الاحتلال؟ وإذا كان من يعارض الغزو والاحتلال فى أمريكا يتهم بالخيانة، فهل من المستغرب أن توجه التهمة نفسها فى العالم الإسلامى لمن يؤيد الغزو والاحتلال؟
يقول الباحث الأمريكى إن درس العراق ظهر فى إندونيسيا حيث أعلن المسلمون المعتدلون أن تفجيرات بالى أدت إلى سخط شعبى على الجماعات المتشددة، ولكن حرب العراق جعلت موجة التشدد تجاه أمريكا تعلو مرة أخرى، ويبدو أن ما نبذله لتعميق الديمقراطية وحرية الفكر يذهب هباء.. ويبقى السؤال: هل سيتم فهم درس العراق فهما صحيحا؟
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف