قتلوه.. ولم يقتلوا روح الشعب
القاتل المحترف، أضاف إلى سجل جرائمه جريمة أبشع من كل ما عداها، بقتل الشيخ أحمد ياسين، العاجز عن الحركة، المشلول اليدين والساقين، الفاقد إحدى عينيه، وهو على وضوئه، خارجا من بيت الله، بعد أن أدى صلاة الفجر. ولأول مرة فى التاريخ تتحرك القوات الجوية لدولة فترسل طـائرة مروحية تطلق على الرجل ثلاثة صواريخ فتحيل جسده الضامر وأجساد زملائه إلى أشلاء ودماء..
الشيخ أحمـد ياسين ليس قائدا عسكـريا، ولم يمسك سلاحـا فى حيـاته لأنه – ببساطـة – لم يكن قادرا على أن يمسك بأى شىء.. وليست لديه قدرة على القتال.. لكنه مع ذلك أقوى من القتلة جميعا، لأنه يدعو إلى قضية عادلة، وهم يدعون إلى أطماع باطلة.. وأنصار الباطل يخشون دائما من أصحاب الحق.. ومع ذلك.. فهل قتلوا روح الشعب الفلسطينى؟ هل قتلوا روح المقاومة للظلم ورفض الاحتلال؟
لقد خاب ظنهم..
ظنوا أن قتله سيؤدى إلى قتل روح المقاومة، وإصابة الشعب الفلسطينى باليأس، ويسهل دفعه إلى الاستسلام وقبول ما يعرض عليه دون مناقشة، والتنازل عن حقوقه المشروعة فى الوطن والدولة..
وظنوا أن قتله سيؤدى إلى انتشار الفوضى داخل صفوف المقاومة، يسهل بعدها الإيقاع بين المنظمات الفلسطينية، وبينها وبين السلطة والقيادة الفلسطينية الشرعية، وتجد الحكومة الإسرائيلية بها الدليل على ادعائها بأنه لا يوجد طرف فلسطينى يمكن التفاوض والاتفاق معه.
وظنوا أن قتله يسهل عليهم المضى فى تنفيذ مخطط التطهير العرقى داخل الأراضى الفلسطينية، وتدمير المرافق والمزارع والبيوت وكل مقومات الحياة، والقضاء على البنية التحتية للمقاومة، وغير ذلك مما يمثل سياسة الأرض المحروقة التى تنفذها الحكومة الإسرائيلية فى الضفة وغزة، وهى السياسة التى ابتدعها الطغاة فى الحرب العالمية الثانية.
وظنوا أن قتله سيؤدى إلى تداعيات تعطيهم الفرصة لتجميد عملية الإعداد للتفاوض مع الفلسطينيين التى كان مقررا لها أن تبدأ بلقاء رئيسى وزراء إسرائيل وفلسطين.. وأرادوا إثارة مشاعر الفلسطينيين بحدث كبير يفقدهم شعورهم وتوازنهم، وفى جو المظاهرات والعمليات الانتقامية المتوقعة يجد شارون المبرر لمزيد من التوغل والتدمير والقتل، فهو يريد جو الفوضى لكى يختلط الحق بالباطل وتضييع الحقيقة، ويفعل هو كل ما يريد، محتميا بالمباركة الأمريكية التى تسانده وتؤيد ادعاءه بأن مقاومة الاحتلال إرهاب.
وظنوا أن قتله، وما أعقبه من تصريحات مستفزة عن أن عرفات وقادة المقاومة جميعهم أهداف سيأتى عليها الدور.. ظنوا أن فى ذلك رسالة يمكن أن تؤدى إلى إثارة الخوف وإخماد روح المقاومة.. والقبول بالاستسلام.
وظنوا أن هذه الجريمة التى تعمدوا أن تكون فى منتهى البشاعة، وضد الإنسانية والقانون والأخلاق.. ظنوا أنها ستكون رسالة إلى الدول العربية بأن إسرائيل تعلن صراحة ودون مواربة أنها دولة مارقة وغير أخلاقية وخارجة على القيم والشرعية، وبالتالى فهى ستفعل ما تريد دون أن يمنعها وازع من ضمير أو قانون، الجريمة بهذا المعنى نوع من التحدى، وإلقاء القفاز فى وجه الفلسطينيين، والعرب، والرباعية صاحبة خريطة الطريق، والشرعية الدولية، وهذا التحدى بمثل هذه الفظاظة والغلظة لا يمكن أن يقوى عليه شارون وحده بدون المساندة الأمريكية، وهذا ما حدث فعلا حين منعت أمريكا صدور بيان استنكار - أو قرار إدانة – من مجلس الأمن لهذه الجريمة التى وقعت بينما وزير الخارجية الإسرائيلى يجرى مباحثات فى واشنطن.. ثم تدعى واشنطن أنها لم يكن لديها علم بهذه الجريمة!! بينما صدر رد الفعل من البيت الأبيض مؤيدا وملقيا بالاتهام على الضحية الشيخ أحمد ياسين.. ورفض المتحدث باسم البيت الأبيض أن ينطق بكلمة إدانة للجريمة ولو للاستهلاك المحلى، أو لمجرد ترضية - أو تمييع - المشاعر العربية الغاضبة، وفعل العكس، أعلن باسم الرئيس الأمريكى أن إسرائيل لها الحق فى الدفاع عن نفسها بمعنى أن لها الحق فى ارتكاب جرائم قتل تحت هذا الادعاء. ويقال إن شارون انتهز فرصة الأزمة التى يواجهها الرئيس الأمريكى بسبب الورطة فى العراق والتحقيقات حولها فى الكونجرس والتحقيقات الأخرى عن التقصير فى تفادى أحداث 11 سبتمبر، وفى نفس الوقت فإن انشغال الإدارة الأمريكية بالحملة الانتخابية وحرص الرئيس الأمريكى على الفوز بفترة ثانية فوزا حقيقيا وبأغلبية حقيقية، تعوض فوزه المشكوك فيه فى الانتخابات السابقة بعد استخدام كل الحيل والمناورات الممكنة، وبعدها لم يحصل على الفوز إلا بحكم المحكمة وتنازل منافسه عن الاستمرار فى الجدل حفاظا على كرامة المنصب.. وفى هذه الظروف فإن الرئيس الأمريكى محتاج إلى مساندة اللوبى اليهودى بأمواله وسيطرته على العقول من خلال سيطرته على الإعلام..
وظنوا أن هذه الجريمة - بهذه البشاعة - ستؤدى إلى انشغال الفلسطينيين والعرب والعالم بها وبتوابعها، فيغطى ذلك على جريمة لا تقل بشاعة هى الاستيلاء على أراضِ فلسطينية وتجريف مزارع فلسطينية وطرد الفلسطينيين من قراهم وبيوتهم ومزارعهم وإقامة السور العازل.
وبالقطع فإن هذه الجريمة تمثل مدى استهانة شارون باللعبة التى تسمى خريطة الطريق، وهى خريطة لا تؤدى إلى طريق ولا تؤدى إلى دولة كما قيل، وهذه الجريمة تمثل أيضا استهانة بكل هؤلاء المبعوثين من الاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة ودول العالم الذين يسعون إلى إيجاد حل لهذا الصراع الذى لا يريد شارون له أن ينتهى، بل إنه يريد - على العكس - استمراره وإشعاله أكثر لتظل الفرصة مفتوحة للاستيلاء على مزيد من الأرض الفلسطينية.
أراد شارون - بالإضافة إلى كل ذلك - استرضاء المتطرفين الإسرائيليين وقبولهم لخطة الحل المنفرد التى بدأ تنفيذها، بحيث يتولى هو رسم الخريطة بموافقة أمريكية، وعندما يكسب المتطرفين ويظهر لهم أنه أكثر تطرفا منهم، يمكن أن يستعيد شعبيته التى انخفضت نتيجة كشف فضائح الفساد التى تلاحقه هو وولديه.
ولكن هل سيحقق شارون كل ما أراد؟
الواقع أن ما سيحدث هو عكس ما أراد. سينشأ ثأر تاريخى جديد لن تنساه الأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين. سيتحول الشيخ أحمد ياسين إلى شهيد.. رمز.. يلهمِ بالمقاومة ويحبب الاستشهاد إلى نفوس الشباب ليكونوا مثله..
ولقد قدم شارون دليلا جديدا، على أن إسرائيل عدوانية ولا أمان لهـا.. وأنها لا تتورع عن قتل المدنيين والأطفال والنساء مع سبق الإصرار.. رغم أن إسرائيل وأمريكا تعلنان إدانة استهداف الفلسطينيين للمدنيين الإسرائيليين.. أما استهداف الحكومة الإسرائيلية للمدنيين الفلسطينيين فلا تصدر عنه كلمة استنكار، وكأن الدم الفلسطينى مستباح، أو كأن الفلسطينيين ليسوا من البشر الذين تنطبق عليهم مواثيق حقوق الإنسان..
ومع ذلك، إن كانت الولايات المتحدة لم تعلم بهذه الجريمة، فهاهى ذى قد علمت.. وسمعت شارون وهو يهنىء الإسرائيليين والجيش الإسرائيلى على ما حققه من بطولة فى قتل الشيخ المشلول الأعزل.. وسمعت تصريحات القادة العسكريين الإسرائيليين عن قوائم القتل فماذا ستفعل الإدارة الأمريكية؟
أما الشيخ أحمد ياسين فسوف يثير فى النفوس ذكريات استشهاد الحسين..
جريمة تعيد إلى الذاكرة ما كان يفعله الطـغاة.. فأين ذهب الطـغاة؟ وأين مكانة أبطـال المقاومة فى التاريخ؟
إن القتيل - فى حالة الشيخ أحمد ياسين، أقوى من القاتل.. والقصة ستكون طويلة.. وهذه هى البداية وليست النهاية.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف