!الحوار.. و(السوفسطائيون) الجدد

فى فترة اضطراب العقل اليونانى، فى النصف الثانى من القرن الخامس الميلادى. ظهرت مدرسة فى التفكير حققت نجاحًا كبيرًا وشعبية واسعة لأن أصحابها كانوا فى براعة الحديث وحوار أشبه بالحواه.. وبلغت قدرتهم على اللعب بالألفاظ والمعانى، واستخدام المنطق المغلوط  الفاسد، إلى حد أنهم كانوا قادرين على إقناع الناس – من ذوى الإدراك المحدود، والقدرة المحدودة على التفكير الحر والنقد بأى شىء يريدونه.. وكانوا يباهون بقدرتهم على إقامة الدليل وتقديم البرهان العقلى على أن الشىء الواحد أبيض وأسود.. وأن الفعل الواحد خطأ وصواب.. وأن العمل الواحد مفيد وضار.. كل ذلك فى لحظة واحدة، وسط انبهار تلاميذهم بهذه البراعة.


وكان نصف نجاح هؤلاء المحاورين المغالطين رجع إلى براعتهم، والنصف الثانى مرجعه عدم تدريب الناس على نقد الأفكار واكتشاف المغالطات والأكاذيب وفساد المنهج.


وبمناسبة الحوار الوطنى الواسع الذى يجرى الإعداد له، رأيت صورة جديدة لهذه المدرسة الفكرية، ولو كان الأمر بيدى لجعلت تلاميذ المدرسة جميعًا يدرسون هذه الحقبة من التاريخ الإنسانى التى ساد فيها "السوفسطائيون" قبل أن يكشف "سقراط" زيفهم وخداعهم.. ففى ذلك تحصين لعقول شبابنا من التضليل الفكرى والعقائدى.. لأن التاريخ – أحيانًا – يعيد نفسه ولو بصور أخرى تتفق مع كل عصر.


فى أيام اليونان سادت أفكار ونظريات غربية ومضللة فى مناخ الديمقراطية الواسع، ووجد فريق المثقفين فى انفتاح الباب على مصراعيه للحرية الفكرية فرصة للإستفادة بمواهبهم فى الجدل.. وكان اسم "سوفيسطوس" فى الأصل معناه "معلم البيان" لكنه على أيدى هؤلاء أصبح يعنى "المجادل المغالط" أو"المتلاعب بالمنطق والأفكار" أو "النصاب" فى مجال الفكر والمنطق والعقيدة.. أو كما كان يقول لنا أستاذنا يوسف كرم، وهو يدرس لنا الفلسفة بجامعة الإسكندرية إنهم كانوا يتاجرون بالعلم ويحققون فى تجارتهم هذه ربحًا كبيرًا، ويعيشون عيشة الأثرياء رغم أنهم يدعون أنهم رجال مبادىء! وكانت "اللعبة" التى يجيدونها هى القدرة على إقامة الحجة على صحة القضية ونقيضها، وامتلاكهم لأدوات الإقناع والتأثير عن طريق خلط الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، والمفيد بالضار، بحيث يصعب على العقل العادى، أو غير المدقق، أن يكتشف مواطن الزيف.


ورغم أن "السوفسطائيين" فى العصر اليونانى كانوا من أصحاب الشهرة والثروة إلا أنهم كما كان يقول لنا أستاذنا يوسف كرم: "كانوا سبة على مر الأجيال" لولا أن جاء سقراط، وخرج إلى الناس يحاورهم بأسلوب واضح وبسيط، وبمنهج قائم على العقل، وبمنطق سليم.. وظل يفند أكاذيب وزيف "السوفسطائيين" وبخاصة مع الشباب لإصلاح ما أفسدوه من عقولهم.. ودخل الفكر الإنسانى بعد ذلك مرحلة جديدة لم يعد فيها قيمة لبراعة التلاعب بالقضايا والأفكار.. ولكن من حين لآخر تظهر هذه المدرسة فى ثوب جديد.. مرة تظهر فى صورة فكر سياسى.. ومرة فى صورة فكر دينى.. ومرة فى صورة فكر اقتصادى.. وهكذا.


والعقل الإنسانى مدين لسقراط بالكثير.. على الأقل أنه عاد إلى "الحوار" المفهوم الصحيح.. باعتباره وسيلة العقل الإنسانى الناضج للوصول إلى الحقيقة، والحقيقة دائمًا وحدها وإن اختلفت الطرق المؤدية إليها، ولا يمكن أن يلتبس الحق بالباطل، ولا أن يقترن الخطأ بالصواب، ولا أن يجتمع النافع والضار.. ومع ذلك فإن بواكير هذه المدرسة ظهرت عندنا – ليس فى مصر وحدها بل وفى الساحة الفكرية العربية والإسلامية – حتى أصبحنا نرى من يعتبرون أنفسهم مفكرين وكتابًا وقادة للرأى  يأخذون نصف الحقيقة ويكملونها بالأكاذيب، ويمسكون نصف الصواب ويضيفون إليه الخطأ، وكأنه جزء لا يتجزأ منه، ويطرحون القضية طرحًا مغلوطًا فى غير سياقها، أو فى غير أوانها، ويتخذون مقعد المعلم والمرشد وهم فى الحقيقة مضللون، أو تجار بضاعتهم أفكار مغشوشة!


أمثال هؤلاء موجودون فى كل زمان ومكان, فالحواه، والنصابون، واللاعبون "بالثلاث ورقات" لا يمثلون خطرًا.. لكنهم بصبحون خطرًا أن حالوا القفز – فى غفلة من الزمان – إلى مواقع قيادات الفكر والرأى، وأصبحوا هم أهل الفتوى، وطالبوا بأن تكون لهم وحدهم المرجعية دون سواهم، هنا لابد أن ننتبه، ونحذر، خوفًا من تأثيرهم على الشباب، لأنه الشباب فى سن البراءة يبحث عن النقاء والطهارة والمثل العليا، وتستهويه الأفكار الغربية التى تبدو فى ظاهرها جديدة وجذابة وهى معروضة بمنطق غير مستقيم ليس من السهل كشفه وبيان فساده.. وما أكثر الذين يرددون "قولة حق يراد بها باطل".. ويرفعون المصاحف وهم يضمرون النوايا السيئة.


وعلى سبيل المثال بعد أن تكشفت بعض أبعاد الإرهاب على أنه صورة للجريمة المنظمة التى ترتدى فى بعض الدول أقنعة سياسية، وفى بعضها الآخر أقنعة دينية، نرى من يدين ويؤيد الإرهاب فى وقت واحد، ويقول أن الإرهاب مرفوض ويتعارض مع الشريعة، وأن هؤلاء الإرهابيين على حق ويستحقون أن نستمع إليهم(!) وأن القتل عدوان على شريعة الإسلام والقتلة مسلمون(!) وأن الخارج عن القانون بالسلاح لا يجوز معه حوار ويجب أن نوجه الدعوة للقتلة والمخربين ليكونوا أطراف فى الحوار(!).. ويريدون منا أن نقتنع بهذا الحشد من المنتقضات المفسدة للعقول.


وفى قضية الإصلاح الاقتصادى ظهر "مفكرون" بقدمون الأدلة على أنه لازم وغير لازم فى نفس الوقت، ويجب الاستمرار فيه والتوقف فى وقت واحد، وأن ما تحقق فى هذا الإصلاح يعتبر نجاحًا وفشلاً.. صحيحًا وخطأ.. وأنه لا يمكن الإصلاح دون تضحيات، وهو ممكن دون أية تضحية.. وهكذا.. ومن الغريب أن تجد الشخص الواحد من هؤلاء "السوفسطائيين الجدد" يقول كلامًا فى ندوة، ويقول عكسه فى ندوة أخرى فى نفس الليلة أو يكتب مقالة فى صحيفة مصرية يمتدح فيه قرارًا أو موقفًا ويكتب مقالاً آخر فى صحيفة أخرى تصدر خارج مصر يعارض هذا القرار أو الموقف ذاته بقوة.. وفى كلتا الحالتين تفيض عباراته بالصدق والبراءة، وتقوم على المنطق المقنع.


هذه هى "السوفسطانية الجديدة".


طبعًا لابد أن نختلف فى الرأى والرؤية.. ولكن هناك فرقًا بين الاختلاف وبين التناقض، والمنطق المغلوط.. والتلاعب بالأفكار.. والانتصار للرأى ونقيضه.. وتأييد ورفض سياسة واحدة..


وطبعًا من حق العقل أن ينتقل من موقف إلى موقف، ويعدل عن رأى تبين له خطؤه إلى رأى يكتشف أنه الصواب، ولكن من غير الطبيعى أن يجمع الإنسان بين الرأى ونقيضه معًا، ويطرح للبيع أفكار حسب الطلب معززة بالحجج القوية، ويعرض النقيض للبيع أيضًا، فى ذات اللحظة!


من أجل ذلك أعتقد أن الدعوة إلى الحوار هى فى الأساس دعوة إلى "تواحد العقل والشخصية" وعلاج حالة الارتباك الفكرى التى نتجت عن استغلال هؤلاء "السوفسطائيين" للفرصة " فى مناخ الحرية والترحيب بالرأى والرأى الآخر لكى يفسدوا عقول الشباب.


هدف الحوار أن نشارك جميعًا فى تحديد ما هو حق وما هو باطل، وما هو ضار وما هو نافع، وما هو ضروريًا وما ليس ضروريًا الآن.. نمامًا كما فعل سقراط فى النصف الثانى من القرن الخامس الميلادى.. نعيد فحص الأفكار والقضايا.. ونعيد ترتيب أولوياتها فى التطبيق والعمل.. ونعيد إلى الشباب الثقة فى أن الصواب لا يمكن أن يكون خطأ، وأن الخطأ لا يمكن أن يكون صوابًا.


موضوع الحوار يبدأ بالديمقراطية نعم.. ولكن هل هى الديمقراطية التى تعطى لبعض الناس الحرية والحق فى إلصاق تهمة الكفر بالآخرين دون أن تعطى المتهمين فرصة الدفاع عن النفس.. هل هى حرية احتكار الحكمة والصواب وخلط ما هو إلهى بما هو إنسانى.. وما هو مطلق بما هو نسبى.. وما هو من حكم الله لكل زمان ومكان بما هو حكم بشر صدر عنهم فى ظروف معينة وزمان معين.. وبين ما هو شرع.. وبين ما هو شرح.. هل هذا الخلط جائز ومشروع.. وهل كشفه جريمة؟! وهل يملك مسلم – كائنًا من كان من العلم والورع والصلاح – أن يصدر حكمًا بكفر مسلم آخر يشهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.. أو يبيح دمه.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كل المسلم على المسلم حرام.. ماله وعرضه ودمه".


القضية الأولى قبل الحوار هى: كيف نعيد العقل إلى حالة تجعله يرى الحق حقًا، والباطل باطلاً، ولو أن العقول عادت إلى استقامتها، وتخلصت من آثار "السوفسطائيين الجدد" الذين أوشكوا أن يفسدوا العقول.. فإن الحوار سوف يكون بناء.. ومنطقيًا.. ويحقق وفاقًا يرضى الله.. ويحقق مصلحة العباد.. ويرسم طريق تخليص الحاضر من الفساد بكل صوره، ولا نستثنى الفساد الفكرى، كما يرسم طريق بناء المستقبل الذى نتمناه.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف