أين حقوق الإنسان فى أمريكا؟
تطـالب الولايات المتحدة الدول العربية بمراعاة حقوق الإنسان، ولا شك أن كل عربى يطـالب أيضا بعدم انتهاك حقوق الإنسان فى أى مكان من الوطن العربى وخارجه. ولكن المشكلة أن الولايات المتحدة تقدم للأنظمة العربية نموذجا على العكس من هذه الدعوة على طول الخط.. تقدم نموذجا عمليا للانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، ونخشى أن تظن الأنظمة العربية - أو تتعمد الظن - بأن الولايات المتحدة إنما تدعوها لتحذو حذوها، وتتعامل مع المواطنين والأجانب والمعتقلين. كما تتعامل معهم أمريكا، وفى هذه الحالة سوف يكون ذلك وبالا على العرب، لأن ممارسات الأنظمة العـربية - التى لا ترضينا - أفضل ألف مرة من ممارسات السلطـات الأمريكية، وهذا ما يشهد به مفكرون أمريكيون يتمتعون بالنزاهة والشجاعة على إعلان هذه الحقيقة وتقديم الدليل عليها.
منظمة حقوق الإنسان العالمية- ومقرها فى الولايات المتحدة- وجهت انتقادات شديدة إلى الطريقة التى تصرفت بها القوات الأمريكية فى أفغانستان. وقالت: إن القوات الأمريكية أفرطت فى استخدام القوة، وقامت باعتقالات عشوائية، وأساءت معاملة المعتقلين.
عنوان التقرير (استعادة الحرية) ويقول: إن الانتهاكات التى قامت بها القوات الأمريكية فى أفغانستان مخالفة للقانون الدولى، وخاصة عمليات الاعتقال التى قامت بها القوات الأمريكية فى قواعد أقامتها فى أنحاء أفغانستان، وكلها مخالفة للقانون الدولى، وقد اعتقلت القوات الأمريكية أكثر من ألف شخص خلال عام 2003 ينتمون إلى جنسيات مختلفة، وصحب عملية الاعتقال استخدام القوة والعنف بصورة مفرطة وعشوائية، الأمر الذى أدى إلى مقتل وإصابة مدنيين أبرياء. وطائرات الهليكوبتر الأمريكية تقوم بقصف مناطق سكنية فى وقت لم تكن القوات الأمريكية تواجه فيه أية مقاومة من أهالى هذه المناطق. أما بالنسبة للمعتقلين فى القواعد الأمريكية فى أفغانستان مثل قاعدة باجرام الجوية شمال العاصمة الأفغانية كابول، فمن الشائع أن يتعرضوا لسوء المعاملة مثل: الضرب، والحرمان من النوم، وتعريضهم لدرجات حرارة مرتفعة، وكثيرا ما يعلن عن وفاة أشخاص من المعتقلين، دون أن تقدم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تفسيرا كافيا لهذه الحوادث.
يقول التقرير: إن الولايات المتحدة تنتقد بشدة عمليات التعذيب فى دول أخرى، بينما تستخدم هى نفس الأساليب والوسائل التى تستخدمها هذه الدول عند استجواب الأسرى فى أفغانستان. وهذا السلوك رسالة للآخرين مضمونها أن الولايات المتحدة تنتهج معايير مزدوجة، وهذا يقوض جهودها فى الحرب على الإرهاب ويفقدها المصداقية.
ماذا قال الأمريكيون عن هذا التقرير؟
قال المتحدث باسم القوات الأمريكية فى أفغانستان- بريان هيلفرتى- (لقد اطلعنا عليه، ونأخذ ما جاء فيه على محمل الجد).
المتحدث نفسه أشار منذ أيام إلى تحقيق عن غــارة جــوية أمريكية حدثت يـوم 6 ديسمبر 2003 أسفرت عن مقتل 9 أطفال أفغان وأن نتيجة التحقيق تقرر اعتبارها سرية للغاية، وهجوم آخر وقع قبل ذلك أسفر عن مقتل 6 أطفال فى ولاية بكتيا.
تقرير آخر صدر فى شهر مارس 2004 عن منظمة العفو الدولية (هيومان رايتس ووتش) اتهم الجيش الأمريكى باستخدام القوة الزائدة لاعتقال المشتبه فيهم من المدنيين.
***
ومنذ أيام أفرجت أمريكا عن خمسة من المعتقلين البريطانيين قضوا عامين فى معتقل جوانتانامو، ثم أعلنت السلطات الأمريكية أنه لم يكن هناك سبب يدعو لاعتقالهم!. أحد هؤلاء قال: إن الجنود الأمريكيين كانوا يضربونه ضربا مبرحا ويستجوبونه تحت تهديد السلاح، وكانوا يضعونه فى زنزانة لا تليق بالبشر. والثانى قال:إن الجنود الأمريكيين كانوا يتعمدون إذلاله وهم يضربونه ويعذبونه، وأنهم حقنوه بحقنة غريبة لا يعرف ما هى. وإن الأمريكيين كانوا يرغمون المعتقلين على الاعتراف بأمور لم يفعلوها! وكانوا يقيدون أيدى المعتقلين ويربطون أقدامهم بحلقات معدنية على الأرض! وقال: إن الضرب لم يكن ضربا ولكنه كان أشد وأقسى من ذلك، وترك آثارا نفسية لا يمكن أن تزول!
وقال ثالث: إن المعتقلين فى جوانتانامو يعيشون فى أقفاص، على أرض خرسانية عارية، دون حماية من الحرارة أو البرد، وكانوا يتعمدون قطع المياه قبل مواعيد الصلاة لمنعهم من الوضوء. وكان مسموحا لهم بدقائق للراحة كل يوم وذلك بفك قيودهم، والسماح لهم بالسير على أرض مفروشة بالحصى. وكانوا يقولون لنا: ليست لكم حقوق هنا.. وبعد فترة توقفنا عن المطالبة بحقوق الإنسان وأصبحنا نطالب بحقوق الحيوان، وكنت أقول لهم: أليس لى الحق فى معاملة مثل معاملة الكلاب فى المعتقل فيقولون لى: إن هذه الكلاب ضمن جيش الولايات المتحدة.. وقال: إنه استجوب من وكالة المخابرات الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالية 40 مرة وهو مقيد بالسلاسل.
كل ذلك قاله المعتقلون البريطانيون بعد الإفراج عنهم، ونشرته صحيفة ديلى ميرور البريطانية، وأذاعت تقريرا عنه الإذاعة البريطانية (بى . بى. سى) يوم 3 مارس 2004.
***
وهل تذكرون الانتقادات الأمريكية للمحاكمات العسكرية؟
الرئيس بوش أعلن أن الولايات المتحدة سوف تحاكم المعتقلين أمام محاكم عسكرية، ويحدث هذا فى أمريكا لأول مرة منذ خمسين عاما.. سوف نبدأ هذه المحاكمات مع نهاية الصيف.. أى قبل بدء الانتخابات للرئاسة الأمريكية لتكون جزءا من حملة الدعاية لإعادة انتخاب الرئيس بوش- وسوف تتم فى قاعة خاصة فى القاعدة البحرية الأمريكية فى خليج جوانتانامو فى كوبا لكيلا تخضع للقانون الأمريكى، ولم تعلن أمريكا عن الاتهامات الموجهة لمن ستحاكمهم، أعلنت فقط أن المحاكمات ستكون سرية، وبعيدة عن عيون الأمريكيين، وعن عيون الصحافة العالمية، وستكون إجراءات المحاكمة وفقا لما تقرره وزارة الدفاع (البنتاجون)، وسيحدد بول وولفويتز نائب وزير الدفاع المتهمين الذين ستبدأ محاكمتهم، كما سيختار وولفويتز أعضاء المحكمة من العسكريين، معروف طبعا أن وولفويتز من أعدى أعداء العرب والمسلمين.
علق أنتونى لويس فى صحيفة نيويورك تايمز على هذه المحاكمات بأنها غريبة، ولم يحدث أن عقدت فى أمريكا أو خارجها محاكم عسكرية بقضاة عسكريين أمريكيين لمحاكمة مدنيين أبدا، وكانت آخر المحاكم العسكرية التى عرفتها أمريكا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة وكانت لمحاكمة العسكريين- وليس المدنيين- من الألمان واليابانيين المتهمين بارتكاب جرائم حرب .
***
أنتونى لويس كتب فى نيويورك تايمز يقول: إنه عند وضع الدستور الأمريكى نص على إنشاء حكومة فيدرالية للولايات المتحدة وخشى كثير من الأمريكيين من ظهور حكومة مستبدة فى وقت ما، لكن الرئيس ماديسون طمأنهم وقال لهم:إنه يستحيل أن يظهر الاستبداد فى أمريكا، لأن الدستور يتضمن تدابير وقائية تحول دون ذلك، وأن استقلال السلطات الثلاث التشريعية، والقضائية، والتنفيذية كفيل بتوفير الضمان إذا تجاوزت إحدى السلطات حدودها أن توقفها الأخرى وتمنعها من سوء استخدام السلطة. ولكن الديمقراطية الأمريكية دخلت اختبارا صعبا حين وافقت المحكمة العليا على نظر دعوى أقامها اثنان من المواطنين الأمريكيين ضد الرئيس بوش لإساءته استخدام السلطة، ومنح الحق لنفسه لاعتبار أى مواطن أمريكى على أنه (مقاتل عدو) وبناء على هذه التهمة الغامضة والمستحدثة وبناء على ذلك يمكن اعتقاله لفترة غير محدودة دون محاكمة ودون إعطائه فرصة للتظلم أو الاعتراض.
قبل الرئيس بوش هناك رؤساء أعطوا أنفسهم الحق فى استخدام السلطة المفرطة، ولكن فى ظروف مختلفة- الرئيس لينكولن قرر إيقاف العمل بالنصوص الملزمة بأن تكون التحقيقات وفقا للإجراءات القانونية مع المعتقلين خلال الحرب الأهلية واغتصب بذلك سلطة الكونجرس، لأن الدستور كان ينص على أن الذى يملك سلطة هذا الإيقاف هو الكونجرس وليس الرئيس، وفى عام 1942 أمر الرئيس روزفلت باعتقال 120 ألفا من الرجال والنساء والأطفال اليابانيين وحملهم الجنود الأمريكيون من منازلهم إلى معسكرات الاعتقال. والمحكمة العليا الأمريكية عادة لا تتدخل فى مثل هذه الحالات، وهذا ما فعلته عندما لجأ إليها المعتقلون اليابانيون فى عام 1944 فقررت رفض النظر فى تظلمهم من الاعتقال، وقالت: إن السلطات الأمريكية لها الحق فى اتهامهم بالخيانة، ثم ثبت بعد ذلك أن هذه التهمة لا أساس لها. أما فى عام 1998 – فى عهد الرئيس جورج دبليو بوش- فقد ألف رئيس المحكمة العليا وليام رينكويست كتابا بعنوان (كل القوانين باستثناء قانون واحد) يصف فيه خطأ سياسة الإدارة الأمريكية التى تمثل تحديا صارخا للسلطة القضائية، ومع ذلك فإن المحكمة رغم ذلك أصدرت قرارا بتأييد حق المدعى العام (جون اشكروفت) فى عدم إعلان أسماء المعتقلين فى السجون الأمريكية وخارجها (فى جوانتانامو وأفغانستان) وفى هذا اعتداء على قانون حرية المعلومات. ولم تنظر فى الدفع المقدم لها عن الطبيعة الغامضة للإرهاب والحرب على الإرهاب، كما يرددهما الرئيس بوش، ويتخذهما ذريعة للاعتداء على حقوق الأفراد، دون أن يعرف أحد متى أو كيف ستنتهى هذه الحرب، وكل أمريكى يتم اعتقاله على أنه (مقاتل عدو) من الممكن أن يظل مسجونا بقية حياته، وهناك أمريكيان معتقلان فى سجن انفرادى لأكثر من عشرين شهرا، وقد حكم على أحدهما دون محاكمة بناء على ما قرره المدعى العام (جون اشكروفت) بأنه إرهابى معروف خطط لتفجير قنبلة قذرة فى أمريكا، ولم يقدم دليلا على ذلك. وخضع الاثنان للتحقيق مع حرمانهما من الحق القانونى فى حضور محام أثناء التحقيق أو حتى بمقابلة محام فى السجن. وتذرعت وزارة العدل بحجة أن مقابلة المحامى قد تفسد المناخ المطلوب لنجاح التحقيق!
وهكذا تجرى الأمور فى بلد الحريات.. يقول أنتونى لويس: إن مبدأ اعتقال أى شخص إلى الأبد بمجرد صدور قرار من المدعى العام أو أمر من الرئيس وحرمانه من حقوقه القانونية ودون توجيه تهمة معينة أو الحق فى استدعاء شهود، هو انتهاك لحقوق الأمريكيين غير مسبوق: وانتهاك صارخ للنص فى التعديل الخامس للدستور الأمريكى الذى يقرر: (لا يحرم أى شخص من الحياة، أو الحرية، أو الملكية دون سند من القانون وإجراءات قانونية) فهل كل ما يفعله الرئيس مخالفا للقانون والدستور يمكن اعتباره قانونيا؟
أما المعتقلون فى جوانتانامو فإن حجة الإدارة الأمريكية إنهم فى سجون خارج الأراضى الأمريكية، وبالتالى فهم خارج السيادة الأمريكية ولا ينطبق عليهم الدستور أو القانون الأمريكى، بالرغم من أن الولايات المتحدة- وفقا للقانون الدولى-هى التى تتمتع بالسيطرة المطلقة على هذه المنطقة من أراضى كوبا وفقا لمعاهدة أبدية سبق إبرامها مع حكومة كوبا وهى معاهدة لا يمكن إلغاؤها بدون موافقة أمريكا. وهكذا أخذت المحاكم الأمريكية بهذه الحجة ورفضت النظر فى تظلمات المعتقلين رغم أن بعضهم فى سن الثالثة عشرة، ودون تحديد وضعهم القانونى: هل هم أسرى حرب أو هم إرهابيون، وعلى أى أساس يمكن تصنيفهم؛ بينما تنص اتفاقية جنيف الثالثة التى وقعت وصدقت عليها الولايات المتحدة على أنه عندما يكون هناك شك فى وضع سجين فإن المحكمة المختصة هى التى تحدد وضعه، والمقصود أن تكون هذه المحكمة محكمة مستقلة، ولكن إدارة الرئيس بوش ترفض تنفيذ اتفاقية جنيف الثالثة، وقدمت مذكرة إلى المحكمة العليا قالت فيها صراحة: (إن الرئيس، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة قرر اعتبار المعتقلين فى جوانتانامو ليسوا أسرى حرب ولا تنطبق عليهم اتفاقية جنيف وبذلك لا يحق للمحاكم النظر فى شئونهم).
ويقول انتونى لويس فى النهاية: إن إدارة الرئيس بوش تستخدم هجمات 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب ذريعة لممارسة السلطة غير المقيدة بالقانون أو الدستور! حتى إن من الأمريكيين من يرى أن السلطة فى الولايات المتحدة الآن سلطة إمبريالية بدرجة كبيرة فى داخل الوطن، وأحادية-إمبريالية فى الخارج. وغريب أن ينكر الرئيس بوش حق المحكمة العليا فى نظر هذه القضايا وهى المحكمة التى جعلت منه رئيسا!
***
أمريكا التى كانت بلد الحرية.. وكانت تفتح أبوابها للمهاجرين الباحثين عن الحرية، وكانت أرض الفرص لمن يبحث عن فرص للتفوق والنجاح.. لم تعد كذلك.
صحيفة هيرالد تريبيون خصصت افتتاحيتها يوم 16 يناير 2004 عن أوضاع المهاجرين فى الولايات المتحدة فقالت: إن هناك انقلابا فى السياسة الأمريكية بالنسبة للمهاجرين، لأن الرئيس بوش يريد أن يكون المهاجرون مجرد فئة من العمال المؤقتين فى أمريكا، ليعملوا فيها لعدة سنوات، ثم يعودوا بعدها إلى أوطانهم، دون أن يحصلوا على الحق فى الإقامة الدائمة أو الجنسية. وقالت الصحيفة: إن ذلك ليس لصالح أمريكا، لأنه إذا كان هناك مهاجرون إلى أمريكا يسعون إلى الحصول على أعمال لا تتطلب مهارات خاصة ويحصلون على أجور أعلى مما يحصلون عليها فى بلادهم، ثم يعودون بعد عدة سنوات إلى أوطانهم، فإن أمريكا محتاجة إلى استمرار أعداد من هؤلاء للإقامة الدائمة لأن هناك أعمالا محتاجة إليهم، مع ملاحظة أن تاريخ العمال الأجانب المهاجرين إلى أمريكا تاريخ ملئ بالمعاملة الوحشية من أصحاب الأعمال ومن الحكومة، وكيف يفكر الرئيس فى إعادة الذين عاشوا فى أمريكا لسنوات يعملون فيها وكونوا أسرة، ويدفعون الضرائب دون أن تكون لديهم فرصة الحصول على الإقامة ثم الحصول على الجنسية فى النهاية.
هل هو انقلاب على القيم الأمريكية المستقرة منذ عشرات السنين؟!.
***
وفى هيرالد تريبيون أيضا يوم 5 فبراير 2004 كتب كينيث باكون رئيس منظمة المهاجرين الدولية بواشنطن، ومورين لينش مديرة الأبحاث بالمنظمة: إن السلطات الأمريكية أوقفت فى جزيرة نورو أربعين شخصا وصلوا طالبين اللجوء السياسى، فلجأوا إلى الإضراب عن الطعام احتجاجا على هذه الإجراءات معهم، وعلى اعتقال 280 شخصا وصلوا إلى هذه الجزيرة خلال العامين الماضيين، ورفضت السلطات الأمريكية منحهم حق اللجوء السياسى، ومازالوا محتجزين وفقا لقوانين استراليا التى تمنع طالبى اللجوء السياسى القادمين عن طريق البحر من الوصول إلى الأراضى الأسترالية.. وهكذا فإن هؤلاء البؤساء وأمثالهم يواجهون الاعتقال أو الإجبار على العودة إلى بلادهم حيث هربوا من المخاطر والقمع فيها.
يقول الكاتبان: إن نظام اللجوء السياسى بذلك انهار من أساسه، والمفروض أنه وضع لحماية الأفراد غير القادرين، أو غير الراغبين فى العودة إلى بلادهم بسبب الخوف من الاضطهاد، ولكن السياسات الجديدة تعوق هذا النظام، وبعد أكثر من نصف قرن من تطبيق الميثاق الخاص بوضع اللاجئين لم يعد لهؤلاء حماية حقيقية، وأصبحوا معرضين للاضطهاد والقسوة فى المعاملة. وأن سياسة الامتناع المتزايدة فى منع حق اللجوء السياسى فى الولايات المتحدة، وفى أوربا واستراليا، تمثل انتهاكا أساسيا لحق من حقوق الإنسان، وهو الحق فى الحماية من الاضطهاد. ولم تعد الولايات المتحدة وحدها، ولكن بريطانيا تتبعها فى هذه السياسة وتعد قانونا جديدا للجوء السياسى والهجرة يسمح للاجئ بالبقاء فى بريطانيا لفترة محددة ولا يسمح بامتدادها أو تجديدها لفترة ثانية، والولايات المتحدة ترغم القادمين إليها من هايتى طلبا للجوء السياسى على العودة من حيث أتوا، أو تقوم باعتقالهم، وترفض إعطاءهم الحق فى اللجوء إلى القضاء لرفع دعاوى لمنحهم حق اللجوء. كانت الولايات المتحدة تمنح حق اللجوء لعدد يزيد على 70 ألفا كل سنة، الآن انخفض العدد إلى اقل من النصف، دون اعتبار لظروف تزايد أعداد اللاجئين هربا من الاضطهاد فى بلادهم بسبب الحروب، والقمع السياسى، والتشدد الدينى، وهم لا يصلون إلى أمريكا بعد رحلة مليئة بالأهوال والسفر تحت عربات القطارات أو فى مراكب خطرة ويغرق بعضهم فعلا أثناء الرحلة، وبعضهم يصل عن طريق عصابات التهريب.
المفروض أن الولايات المتحدة الراعى الأكبر فى العالم لحقوق الإنسان ومنها حماية اللاجئين السياسيين. لكن ما يحدث الآن هو العكس.
***
وأمريكا التى كانت مفتوحة أمام الزائرين والمهاجرين.. وكانت تستقبلهم بتمثال الحرية عند ميناء نيويورك تعبيرا عن أنهم أصبحوا فى بلد الحريات.. أمريكا الآن تغلق أبوابها فى وجه زائريها والمهاجرين إليها.
وفى مجلة (فورن افيرز) أكثر المجلات الأمريكية المتخصصة احتراما كتب البروفيسور جون بادين أستاذ الدراسات الدولية بجامعة جورج ماسون، والبروفيسور بيتر سينجر الباحث فى معهد بروكينجز ومنسق مشروع بروكينجز عن السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامى، كتبا دراسة بعنوان: (أمريكا تغلق الباب: سياسات التأشيرة الجديدة المدمرة التى وضعتها واشنطن).. قالا فيه: فى يوم 28 يناير قام ضابطان مسلحان من البوليس السرى فى مصلحة الهجرة والجنسية الأمريكية بتوقيف رئيس تحرير إحدى الصحف الكبرى فى باكستان (أياز حيضر) وكان مدعوا ليكون باحثا بمعهد بروكينجز، كما كان مدعوا من وزارة الخارجية لحضور مؤتمر عن العلاقات الأمريكية الباكستانية، ومع ذلك تم القبض عليه، وتم سحبه إلى سيارة،ونقل إلى مركز الاعتقال، وخضع للتحقيق لساعات، وكانت التهمة هى الزعم بأنه لم يسجل تواجده فى أمريكا بالشكل الصحيح، وهذا هو الأمر الجديد المفروض على كل زائر من الدول الإسلامية ضمن إجراءات أخرى من القيود الصارمة.
تم القبض على الصحفى الباكستانى الكبير رغم أن الحكومة الأمريكية هى التى وجهت إليه الدعوة، ورغم أنه سجل وصوله، وتم التحقيق معه قبل ذلك عندما زار أمريكا قبل هذه الزيارة بثلاثة أشهر، وقد نفذ تعليمات مصلحة الجوازات والهجرة بدقة، وأخيرا تدخل المسئولون فى الخارجية الأمريكية فتم الإفراج عنه، لكن الصحفى الباكستانى، الذى زار الولايات المتحدة 6 مرات قبل ذلك- قرر أن يغادر أمريكا فورا ويعود إلى بلده وقال لصحيفة واشنطن بوست: (هذه ليست الولايات المتحدة التى اعتدت المجىء إليها) يقول الباحثان: إنه محق فى ذلك، فإن الورطة التى وجد نفسه فيها كشفت الإجراءات المتعسفة التى تتخذ مع الزائرين من بلاد إسلامية. وهذه القيود أصبحت تعنى لأصدقاء وأنصار الولايات المتحدة أمثال أياز حيضر أنهم لم يعودوا من المرغوب فى تواجدهم فى الولايات المتحدة، وبذلك تخسر أمريكا الكثير من الود من أصدقائها فى وقت تحتاج فيه إليه.
وأكثر المفارقات تأثيرا أن انفتاح الولايات المتحدة أمام الأجانب كان الدعامة للبنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، تماما مثلما حققت الشركات الأمريكية الكبرى نجاحا كبيرا فى أنحاء العالم، وكما كانت الجامعات الأمريكية جاذبة لأكثر الطلبة ذكاء وموهبة فى العالم، وكان نصف عدد الذين يحصلون على الدكتوراه فى العلوم الطبيعية بالجامعات الأمريكية من الأجانب، لكن ذلك ربما لن يستمر مع هذه السياسة الجديدة تجاه الأجانب، ويبدو أن الحكومة الأمريكية لا تدرك أن هؤلاء الضيوف يمثلون أهمية مزدوجة، أولا: لأنهم يضخون 12 مليار دولار سنويا فى الاقتصاد الأمريكى، وثانيا: لأنهم يمثلون جسورا للمعرفة والتفاهم تساعد على تحسين المركز الاستراتيجى للولايات المتحدة فى العالم.. وكمثال على ذلك على الحكومة الأمريكية أن تتذكر أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفى عنان، ووزير الخارجية السعودى الأمير سعود الفيصل، ورئيس الفليبين جلويا آريو، ورئيس المكسيك فيسينتى فوكس، ومئات من أمثالهم كلهم درسوا فى الجامعات الأمريكية، ومن خلال تواجدهم ودراساتهم أصبحت لهم علاقات وروابط قوية بالحكومة الأمريكية، وشاركوا فى إقامة علاقات مثمرة بين بلادهم وأمريكا، ونتيجة لذلك استفاد الأمن القومى الأمريكى فائدة كبيرة، ولا شك أن هناك 50 دولة إسلامية من صالح أمريكا زيادة الروابط معها لأنها تمثل الجبهة الأمامية فى الحرب على الإرهاب، ولكن مع الأسف، فإن سياسة واشنطن الحالية والإجراءات التى تقوم بها بدافع الخوف، والقرارات والأوامر الخاطئة، كل ذلك يدمر الانفتاح، ويضر بسياسة أمريكا الخارجية، وبدلاً من محاربة الراديكالية النامية، ومعاداة أمريكا التى يعلنها الشباب المسلم حول العالم، فإن سياسات التأشيرة الجديدة تعزز هذا الاستياء، والغريب أن أمريكا تحتاج إلى زيادة الموالين لها فى العالم العربى والإسلامى ومع ذلك فإن حكومتها تعمل على إبعاد الجيل الجديد الراغب فى التعلم أو الإقامة فيها أو حتى زيارتها!
***
والتحول الكبير حدث فى الولايات المتحدة بصدور القانون الوطنى عام 2001 بعنوان: (توحيد وتقوية أمريكا بتوفير أدوات مناسبة مطلوبة لوقف الإرهاب)، وقالت الإدارة الأمريكية لتبرير صدور هذا القانون: إنه رد على هجمات 11 سبتمبر، وأن بعض القائمين بها دخلوا البلاد بتأشيرات دراسية لدراسة الطيران فى أمريكا، وكان المفروض أن يكون هذا القانون أداة مناسبة لفحص حالات الزائرين الأجانب ومراقبتهم وبخاصة الطلبة والدارسون، ولكن القيود المفرطة الزائدة على الحد المعقول التى تتبعها الإدارة الأمريكية أصبحت أشد مما يحدث فى أية ديمقراطية غربية أخرى. ووفقا لهذا القانون فإن وزارة الخارجية تحصل من المؤسسات التعليمية المختلفة على قوائم إلكترونية تحتوى على جميع البيانات الشخصية وخلفيات المتقدمين إليها قبل قبولهم وإعطائهم تأشيرات دخول، أما الأشخاص الذين لا يحملون تأشيرات هجرة سابقة على تاريخ صدور القانون فإنهم يتعرضون لإجراءات إضافية أكثر شدة منها فحص حالة كل منهم وفقا لقاعدة البيانات التى تم إعدادها فى الإدارة المختصة وهى وكالة الأمن وتنفيذ القانون، وقد تم إنشاء هذه القوائم على الشبكة الإلكترونية وتتضمن معلومات كاملة عن الطلبة والزائرين وفقا لبرنامج التبادل الطلابى، لكى تراقبهم وكالة الهجرة والجنسية جميعا، وهكذا فإن جميع الزائرين للولايات المتحدة حتى من يحملون تأشيرة الإقامة فإن عليهم أن يبلغوا مكتب الهجرة والجوازات بعنوان إقامتهم وتحركاتهم والمبادرة بالإبلاغ فى حالة تغيير العنوان، وأيضا أصبح على جميع الزائرين الذكور بين سن 16 و45 القادمين من دول إسلامية معينة تسجيل أسمائهم بمكاتب الهجرة حتى ولو كانوا قد سبق لهم التسجيل عند قدومهم لأول مرة، وهذه الدول هى: مصر، والسعودية، وقطر، وأفغانستان، وباكستان، والجزائر، والبحرين، وبنجلاديش، واريتيريا، وإندونيسيا، وإيران، والعراق، والأردن، والكويت، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وكوريا الشمالية، وعمان، والصومال، والسودان، وسوريا، وتونس، والإمارات، واليمن.
***
من الطبيعى أن يواجه الزائرون لأمريكا مشاكل عديدة بسبب هذه الإجراءات المعقدة، خاصة بعد أن أصبحت هذه الإجراءات تابعة لوزارة الأمن القومى الجديدة التى أنشأها الرئيس بوش لأول مرة فى تاريخ أمريكا. وأسندها إلى توم ريدج الذى يشرف على 22 وكالة فيدرالية بخلاف المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالية وهما جهازان منفصلان.
***
أدت هذه الإجراءات إلى انخفاض أعداد الطلبة الأجانب من الدول الإسلامية، وانخفاض أعداد الأساتذة الأجانب، وإعاقة مشروعات البحث العلمى، وانتقال مشروعات تجارية إلى خارج الولايات المتحدة، وفى الوقت نفسه فإن هذه القيود لم تمنع وجود إرهابيين داخل الولايات المتحدة وفقا لما تعلنه الإدارة الأمريكية باستمرار، وبالنسبة للأجانب الذين لم يسمح لهم بالدخول إلى أمريكا، فلم تعلن الأرقام الحقيقية لأعدادهم، ومن الأرجح أن هذه الأرقام لن تعلن أبدا، ولكن هناك أكثر من دليل على أن أعداد القادمين إلى أمريكا انخفضت. والمشكلة ليست فقط فى عدم السماح بالدخول، ولكن فى زيادة مدة التأخير فى الإجراءات الخاصة بالقبول أو الرفض، وهذا التأخير الزائد يؤدى إلى تأثير سلبى حتى لمن يفوزون بالحصول على التأشيرة، وكان الحصول عليها يستغرق أسابيع قليلة، أما الآن فإنه يستغرق وقتا من 6 شهور إلى سنة، وبالنسبة للطلبة فإن ذلك يؤدى إلى تعطلهم عن مواصلة الدراسة ويضيع عليهم المواعيد المقررة لتسجيل أنفسهم فى الجامعات. وهكذا فإن الرفض، والتأخير، وزيادة الأسعار، والمفهوم الغامض جدا والواسع جدا للإرهاب، دفع آلاف الطلبة الأجانب إلى الذهاب إلى دول أخرى لاستكمال دراساتهم، ولذلك شهدت جامعات الشرق الأوسط، وكندا وبريطانيا زيادة كبيرة فى أعداد المتقدمين إليها، بل إن الزيادة حدثت أيضا فى جامعات استراليا التى أصبحت البديل لأمريكا فى الحصول على تأشيرة الدخول. علاوة على ذلك فإن الزائرين الأجانب يعانون فى أمريكا الآن من آثار هذه السياسات المرهقة، ليس فقط بالنسبة للطلبة من الدول الإسلامية بل كذلك بالنسبة للزائرين من دول بعيدة عن دول الشرق الأوسط والدول الإسلامية مثل روسيا والصين، وتزداد الصعوبة على الساعين إلى الحصول على اللجوء السياسى فى أمريكا، واشتد الوضع على هؤلاء حتى أن الأمم المتحدة أصبحت تحول إلى كندا والدول الاسكندنافية القادمين للحصول على اللجوء السياسى بالرغم من أنه لم يظهر إرهابى واحد من بين هؤلاء.
وتقول الدراسة: فى الوقت الذى يندب فيه صُنّاع السياسة الأمريكية انتشار العداء لأمريكا فى العالم، ويحاولون اللجوء إلى أساليب دبلوماسية ودعائية لمواجهتها، فإن قيود التأشيرة الأمريكية تضر بهدف نشر الثقافة الأمريكية واكتساب الصداقة والولاء لأمريكا، وعلى سبيل المثال أقيم فى الدوحة عاصمة دولة قطر تحت رعاية معهد بروكينجز مؤتمر عن العلاقات بين أمريكا والعالم الإسلامى حضره 70 زعيما وباحثا من 25 دولة إسلامية لمناقشة كيف تستطيع الولايات المتحدة التداخل فى الدول والمجتمعات الإسلامية، ومما يثير السخرية حقا، أن مثل هذا المؤتمر لم يكن من الممكن أن يعقد فى الولايات المتحدة بسبب الصعوبات الشديدة فى الحصول على التأشيرات.
***
ومع ذلك.. هل نجحت هذه القيود والتعقيدات؟
تقول الدراسة: إنها- مع الأسف- لم تحقق سوى القليل، ويبدو أنها حققت عكس النتائج المرجوة، وأصبحت تعوق الحرب الطويلة المدى التى أعلنتها الإدارة الأمريكية على الإرهاب. وجزء من المشكلة أنه لم يتم تصنيف المسائل التقنية والثقافية فى هذه السياسات، وعلى سبيل المثال، فقد تم فرض القيود الجديدة قبل إعداد البرامج الخاصة بقاعدة البيانات، وهى واسعة النطاق جدا، وشديدة التعقيد، وحتى لو كانت هذه التقنية متاحة لربط عدد كبير من الوكالات والإدارات الحكومية الفيدرالية، والمحلية، والمركزية، فإن النطاق الواسع لمثل هذه الروابط يواجه مشاكل وجود هويات مزيفة، بالإضافة إلى ما فيه من اعتداء على الخصوصية والحرية الشخصية.
وبرغم كل شىء، فإن الإرهابيين الذين يحاولون الحصول على تأشيرات لدخول الولايات المتحدة يلجأون إلى تزوير أوراقهم الشخصية بطرق يصعب تتبعها واكتشافها، وعلاوة على ذلك فإن الاختلافات بين الدول الغربية وغيرها من الدول فى طريقة نطق وكتابة الأسماء والتاريخ تجعل جدوى البحث عن البيانات فى قوائم الكمبيوتر ضعيفة، ففى دول إسلامية يتخذ الأشخاص اسم الأب اسما أخيرا لهم، وهكذا تتغير الأسماء من جيل إلى جيل، وفى دول أخرى يستخدم الناس اسم موطنهم على أنه الاسم الأخير لهم مثل المصرى والسعودى والمغربى.. وهكذا. وهناك أسماء معينة شائعة فى الدول الإسلامية مثل اسم محمد، و99 اسما هى أسماء الله الحسنى، التى تزداد تعقيدا بالنسبة للأمريكيين عندما تتحد مع (عبد الـ ..). وليس ذلك فقط بل إن هناك صعوبة بالغة فى تحديد تاريخ الميلاد فى حالات كثيرة، بحيث لا يمكن الاعتماد عليها، لأن تسجيل تاريخ الميلاد ليس دقيقا فى بعض الدول، والتشوش بين تسجيل تاريخ الميلاد بالتقويم الشمسى الغربى والتقويم الهجرى فى العالم الإسلامى، وأكثر من ذلك فإن أرقام البطاقات الشخصية مهمة ولكنها معرضة للغش والتزوير.. وقد أثبت تنظيم القاعدة أنه قادر على التحايل على خطط وسياسات الأمن الأمريكية الجديدة، وبدأ فى تجنيد أشخاص من خارج البلاد العربية لتجنب اكتشافهم، ومن الأرجح أن يكون الإرهابيون فى المستقبل من الغربيين وليسوا من الدول العربية أو الإسلامية، من أمثال جوسيه باديلا (المفجر من شيكاغو) وريتشارد رايد (البريطانى صاحب الحذاء الملىء بالمتفجرات).. ومن الممكن أن يكون الإرهابيون فوق سن السادسة والأربعين، وهى السن التى حددتها الإدارة الأمريكية لتطبيق الإجراءات الصارمة على من هم دونها، وأسامة بن لادن وأيمن الظواهرى فوق هذه السن، فكأنهم سيكونون بعيدا عن إجراءات الفحص والمراقبة. وما لم يدركه الذين وضعوا القيود الجديدة على التأشيرات وإجراءات دخول الأراضى الأمريكية، أن الإرهابيين يمكنهم الدخول عبر وسائل غير قانونية، مثل العبور من الحدود مع كندا وهذه الحدود طويلة جدا ومفتوحة وليست عليها حراسة شديدة.
تقول الدراسة: إن إزعاج آلاف العرب والمسلمين الملتزمين بالقانون وبالقواعد ليس هو الحل للمشكلة، وليست له نتائج سوى زيادة التوتر فى علاقات أمريكا بالمسلمين، ودفع الناس إلى الخوف من الجهات الحكومية الأمريكية المنوط بها تنفيذ هذا القانون، وسيؤدى كل ذلك إلى صعوبات فى جمع المعلومات وعمل المخابرات عن الذين يحاولون الإيذاء بأمريكا فعلا.
***
تقول الدراسة: إن هذه القيود على التأشيرة لا يمكن اعتبارها مسألة تتعلق بالأمن القومى، لأنها تدمر العلاقات والشئون الخارجية التى لا ينبغى النظر إليها على أنها بمعزل عن هذه الإجراءات؛ فقد أدت هذه الإجراءات إلى احتجاجات واسعة الانتشار فى الخارج، وأثار جميع سفراء الدول الإسلامية فى الولايات المتحدة هذا الموضوع مع وزارة الخارجية، وسافر وزراء خارجية إندونيسيا، وباكستان، وبنجلاديش إلى واشنطن للاحتجاج شخصيا على هذه الإجراءات التى اعتبروها إهانة، وأصبحت هذه القضية قضية سياسية كبيرة داخل العالم الإسلامى، وساعدت على تقوية الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تعادى المسلمين عموما، وقد تجاهل واضعو هذه السياسة أن المسلمين لا يساندون الإرهاب، بل على العكس، فقد عمل كثير من المسلمين مع أمريكا فى مقاومة الإرهاب، وبعد هذا التعاون من الطبيعى أن تثير هذه الإجراءات السخط، فدولة مثل قطر تعرضت لنقد كبير فى العالم العربى بسبب سماحها للقوات العسكرية الأمريكية باستخدام أرضها قاعدة للحرب على العراق، ومع ذلك كانت المكافآت التى حصلت عليها قطر من أمريكا وضع المواطنين القطريين ضمن القائمة التى تنطبق عليها المحظورات. ولابد أن تكون للعواقب غير المتطورة لكل ذلك آثار على المدى الطويل، مع تقليل أعداد الطلبة والدارسين الأجانب وتأثير ذلك على الجامعات الأمريكية وعلى الاقتصاد الأمريكى، ومع الوقت سوف تتراجع أهمية الجامعات الأمريكية والمجتمع الأمريكى والاقتصاد الأمريكى، وتصبح أمريكا طاردة للزائرين بعد أن كانت ترحب بهم، فكيف يمكن بعد ذلك أن تظل أمريكا قائدة للعالم وهى تسعى إلى أن تصبح قوة منعزلة مغلقة الأبواب؟! وكيف يمكن نشر القيم الأمريكية فى العالم الإسلامى، بينما تحرق أمريكا الجسور التى تجعل الأجيال الجديدة من رجال المال والسياسة فى العالم الإسلامى على صلة دائمة بها؟ وكيف ستستطيع أمريكا التأثير فى القادة الشبان فى العالم الإسلامى؟! وكيف يمكن أن تنجح حملات الدبلوماسية العامة والحملات التليفزيونية والدعائية فى تحسين صورة أمريكا؟! كيف يمكن ذلك فى ظل الشعور بالإهانة نتيجة إجبار كل زائر لأمريكا على الوقوف فى طابور طويل أمام القنصليات، والانتظار لشهور مع تعدد مراحل الإجراءات المهينة، وأخيرا يرفض طلب الحصول على التأشيرة، فهل يمكن أن يزيل آثار هذه الإهانات برنامج تليفزيونى، أو تصريحات من مسئول أمريكى، أو حديث عن أمريكا جنة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان؟!
***
تقول الدراسة: ربما يكون بعض الشبان القادمين من بلاد إسلامية خطرا، ولكن يجب أن تضع الولايات المتحدة فى اعتبارها العواقب الخطرة للإجراءات التى تتبعها الآن مع الأجانب، والأجدر أن تتخلص من الإرهابيين على حدودها، وإنشاء آليات أفضل للمراقبة فى مناطق الدخول الضعيفة التى يتسلل منها كثيرون، وتشديد الحراسة على الموانئ وهى الآن بدون حراسة كافية، وكذلك المطارات، فهذا أفضل من إساءة معاملة المسلمين، وربما يكون ضروريا التدقيق بالنسبة لبعض المتقدمين للحصول على التأشيرة، ولكن ذلك لا ينطبق على جميع المتقدمين قطعا، ويجب تسهيل دخول الأشخاص الذين سبق فحص تاريخهم وتحركاتهم أثناء زياراتهم السابقة لأمريكا، ولابد أن تربط الإدارة الأمريكية بين سياستها الخاصة بتحسين صورة أمريكا وبين إجراءات الحصول على التأشيرة بدلا من إحباط جميع المسلمين ودفعهم إلى كراهية السفر إلى أمريكا.. يجب أن ترحب أمريكا بالدارسين، ورجال الدين، والصحفيين والكتاب، وقادة الرأى والشخصيات المعروفة فى العالم الإسلامى، ووضع نظام فى السفارات لتسهيل حصول هؤلاء وأمثالهم على التأشيرة. ويجب تحسين معاملة الأجانب فى داخل أمريكا، ويتطلب ذلك إعادة النظر فى إجراءات التسجيل الذى تحول إلى نظام للإزعاج، ووضع حد للتحقيقات المهينة على الحدود وداخل البلاد، حيث تتم معاملة جميع الزوار المسلمين على أنهم مجرمون وليسوا ضيوفا، ويجب تدريب العاملين فى مجالات الهجرة والجنسية على معاملة الزوار بطريقة أفضل وتعديل نظام الطوابير الطويلة المرهقة أمام السفارات فى الخارج وفى المطارات فى الداخل.. وربما يقع اللوم بالنسبة للوضع الحالى على وزارة العدل بسبب الهستريا التى أصابتها، وعلى البيت البيض ألا يتدخل كما يفعل الآن، وعلى الكونجرس أن يشارك فى المسئولية، رغم أن الكونجرس هو الذى وافق على هذا القانون الغريب.
تقول الدراسة: إن الأمن القومى لأمريكا يحتاج إلى رؤية أفضل وسياسة طويلة المدى، تتفادى الآثار العدائية المدمرة التى سيشعر بها المسلمون على مدار الأجيال القادمة.. إن سياسة التأشيرة تزيد العداء والكراهية لأمريكا أكثر من فائدتها للأمن، وتعديلها هو الذى سيؤدى إلى حماية أمريكا.. لقد كانت أمريكا هى الدولة التى لا مثيل لها فى الترحيب بالأجانب، وكانت هذه من عوامل عظمة أمريكا، وأدت إلى اتساع التعاطف والارتباط بأمريكا فى دول العالم وخاصة فى الدول الإسلامية، لكن الأمر لم يعد كذلك الآن!
هذا بالضبط ما جاء فى دراسة جون بادين الأستاذ بجامعة جورج ماسون، وبيتر سينجر منسق مشروع معهد بروكينجز للسياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامى.
فهل يمكن أن تطالب الولايات المتحدة دول الشرق الأوسط الكبير باتباع خطواتها، ووضع إجراءات مثلها وإساءة معاملة الأجانب وانتهاك حقوق الإنسان كما تفعل؟.
أخشى ما أخشاه أن يقول القادة فى دول الشرق الأوسط: سوف نطبق كل ما تفعله الولايات المتحدة ونتخذها النموذج.. وسوف يكون ذلك وبالا على المواطنين فى العالم الإسلامى الذين يريدون حريات حقيقية، وديمقراطية حقيقية، ومراعاة حقيقية لحقوق الإنسان، ولا يريدون أن تطبق عليهم القواعد والقوانين والإجراءات الأمريكية، لأنها بوضوح- ليست ديمقراطية، ومعادية للحريات، ولا تحترم حقوق الإنسان.. وهذه هى المأساة الكبرى التى يعانى منها العالم الآن.