متى يعودون إلى وطنهم ..؟!
مشاهد إنسانية مؤثرة بثها التليفزيون الأمريكى قبل غزو العراق للجنود على أرصفة الميناء فى انتظـار ترحيلهم إلى أرض ليست أرضهم، لكى يحاربـوا عـدوا لـم يشهـر فى وجههم السلاح، وليقيموا فى وطن ليس وطنهم.
كان مشهد الجنود وهم يقبّـلن زوجاتهم وأبناءهم فى لحظـة الوداع مؤثرا إنسانيا.. وقلنا: يارب.. لماذا يذهب هؤلاء بعيدا عن وطنهم من أجل حفنة من السياسيين يريدون تحقيق انتصار زائف سوف يتلاشى حتما وينقلب إلى هزيمة تاريخية، ومن أجل حفنة من مليارديرات البترول والسلاح لا تعنيهم الأرواح والدماء.. ولكن تعنيهم مصالحهم.. ولا يشعرون لحظـة بالتأثر لقتل آلاف العراقيين. وهدم بيوتهم، وتدمير دولتهم. ولا يعنيهم قتل مئات من أبناء وطنهم أيضا!
مشاعر العرب هى التى تأثرت لتساقط الجنود الأمريكيين على أرض العراق، لأنهم فى النهاية بشر.. وكل جندى يقتل وراءه أسرة وأطفال كانوا ينتظرون عودته ليعيشوا فى أحضانه.
ولكن السياسة الإمبريالية هى التى حركت الجيوش، وهى التى فرضت على الشعب العراقى أن يعيش هذه المأساة الدامية، ليبكى وطنا عظيما عمره سبعة آلاف عام صنع فيها حضارة عظيمة.. ويبكى أبناءه الذين راحوا ضحايا فى حرب لم يكن لهم فيها مصلحة.. ويفرض عليهم وجود احتلال عسكرى لا يمكن قبوله أو الاستسلام له.. وهذه هى المعضلة التى وضعت أمريكا الشعب العراقى والشعوب العربية فيها.
المعضلة أن الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق احتلال، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر مهما حاولت الإدارة الأمريكية ومهما استخدمت من أساليب الخداع والتمويه.. أو أساليب الدعاية والتضليل. وكل شعوب العالم- وليس شعب العراق وحده- تهب تلقائيا لمقاومة الاحتلال مهما كلفها ذلك من تضحيات.. كل شعوب العالم قاومت الاحتلال.. أمريكا قاومت الاحتلال البريطانى بالسلاح.. وفرنسا قاومت الاحتلال الألمانى بالسلاح.. والجزائر قاومت الاحتلال الفرنسى بالسلاح.. ومصر قاومت الاحتلال البريطانى بالسلاح.. وهكذا.. لم يحدث أبدا أن استسلم شعب للاحتلال وتعايش معه.. كل شعوب العالم اعتبرت، ومازالت تعتبر، كل تعاون مع الاحتلال الأجنبى خيانة وطنية مهما بذل الخونة، وبذل الاحتلال من جهد لتجميل الخيانة وإطلاق أسماء مقبولة عليها.
ومعنى ذلك أن الاحتلال الأمريكى لابد أن يتوقع استمرار المقاومة.. ومشكلة الإدارة الأمريكية أنها لا تعرف تاريخ هذه المنطقة، ولا تعرف طبيعة الشعب العراقى، ربما لأن المسئولين فى الإدارة الحالية عاشوا حياتهم بعيدا عنها وعن التاريخ كله وكانوا مشغولين بتربية الأبقار والخيول وتكديس الأموال من استنزاف البترول العربى.. ولو أنهم تعلموا شيئا عن هذه المنطقة لأدركوا أن كل احتلال جاء إليها انتهى به الأمر إلى أن حمل عصاه ورحل.
والشعوب العربية لا تريد أن يستمر تساقط الجنود الأمريكيين هكذا كل يوم.. ولكن فى نفس الوقت فإن هذه الشعوب لا يمكن أن تقبل استمرار الاحتلال والسيطرة الأجنبية واستنزاف البترول وفتح البلاد لإسرائيل بغير ضوابط.. ولا تقبل المؤامرة لإثارة الفتنة بين أبناء البلد الواحد بإثارة النزعات العرقية والقبلية والخلافات المذهبية.. فالشعب العراقى أذكى وأكثر وعيا مما يتصور أصحاب هذه المؤامرة.. ويدرك من الذى يشعل التفجيرات والقتل الجماعى فى صفوف العراقيين. ولن يقع فى هذا الشرك المنصوب له لكى يتلهى بالاقتتال بين أبناء الشعب الواحد ويترك معركته الرئيسية وهى السعى إلى تحرير أرضه من الاحتلال.
والنداءات فى داخل أمريكا تتزايد كل يوم تطالب بعودة الجنود إلى وطنهم، ليعود الأزواج إلى زوجاتهم، ويعود الآباء إلى أبنائهم، ويتركوا العراق لأصحابها، خاصة بعد أن انكشفت كل محاولات الخداع والزيف.. بعد أن فجر وزير الخزانة الأمريكى السابق فضيحة كبرى واعترف بأنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل فى العراق، ولم يكن العراق يمثل تهديدا مباشرا للأمن القومى الأمريكى، ولم تكن هناك صلة بين بغداد وتنظيم القاعدة، وأن الإدارة الأمريكية الحالية كانت تعلم ذلك، ولكن الرئيس بوش كانت لديه خطة لغزو العراق حتى من قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 بسبعة أشهر كاملة، وأنه طرح خطة غزو العراق على مجلس الأمن القومى بعد عشرة أيام فقط من دخوله البيت الأبيض!
هـذا مـا كشف عنه وزيـر مسئول فى إدارة بوش كان حاضرا ورأى وسمع بنفسه ولا ينقل عن مصدر آخر، ولم يصدر تكذيب من أية جهة، ولكن أعلن فقط عن فتح تحقيق عن احتمال انتهاك أسرار رسمية من جانب الوزير الذى استقال أو أقيل من منصبه بسبب رفضه لهذه الحرب التى قال عنها إنها حرب غير أخلاقية.. وغير مبررة.. وغير عادلة! وكان مؤدى ذلك أنه لم يكن صحيحا ما أكدته الإدارة الأمريكية عن وجود 26 ألف لتر من الانثراكس، ونصف مليون طن من المواد الكيماوية الجاهزة لصناعة الأسلحة، وإنتاج أسلحة نووية فى وقت قريب.. ولم يكن صحيحا كل ما أعلنه وزير الخارجية كولن باول فى مجلس الأمن مدعما بأفلام فيديو وصور عن وجود معامل متنقلة لإنتاج الأسلحة الكيماوية محملة على سيارات.. ولم يكن صحيحا ما أعلنه مدير المخابرات جورج تينت من تأكيدات عن وجود هذه الأسلحة ولا حتى ما أعلنه الرئيس بوش فى بيانات رسمية مسجلة..! ولم يكن ذلك كله سوى إخراج سينمائى ردىء للتحضير لحرب تم إقرارها لاحتلال العراق.. بينما كانت الفكرة جاهزة تحمس لها نائب الرئيس ديك تشينى، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ونائب وزير الدفاع وولفوتيز.
وما دامت الحرب قد بدأت بالأكاذيب.. فلابد أن تستمر بالأكاذيب.. ولابد أن تكون النتيجة الحتمية هى فقدان الإدارة الحالية للمصداقية كما قالت مجلة نيوزويك الأمريكية. وفقدان المصداقية يتجلى الآن فى عدم تصديق ما تعلنه هذه الإدارة عن تسليم السلطة للعراقيين.. وهذه ليست القضية.. فكل استعمار كان يعمل على تشكيل حكومة من أبناء البلد تتلقى الطعنات وتبقى قوات الاحتلال آمنة فى قواعدها ومعسكراتها.
القضية هى: متى يرحل الاحتلال العسكرى؟.. متى يصبح علم العراق العلم الوحيد الذى يرفرف على أرض العراق..وجنود العراق هم الذين يتولون حماية أرض العراق، وشرطة العراق هى التى تحمى أمن العراقيين، وبترول العراق للعراقيين وحدهم دون سواهم؟. متى يحتفل العراقيون بعيد الاستقلال، كما يحتفل به الأمريكيون؟.
لن يستطيع أحد أن يخدع شعب العراق بوعود زائفة.. فالتصريحات الصادرة من واشنطن تقول: إن الجيش الأمريكى سيبقى فى العراق فترة لا تقل عن عشرين عاما.. وهذا ما يرفضه العراقيون.. وسوف يقاومون.. والقانون الدولى يقرر أن مقاومة الاحتلال حق مشروع لأبناء الدولة المحتلة.. ولن تستطيع أمريكا أن تعتدى على القانون فى بداية الحرب وتستمر فى الاعتداء عليه إلى مالا نهاية..
هل تساقط الجنود الأمريكيين فى أرض بعيدة عن وطنهم يرضى الإدارة الأمريكية؟.. إنه لا يرضينا نحن.. ونتمنى أن يعودوا.. لماذا لا يعودون؟.. ومتى يعودون؟.
وعندما يعودون ويتركون العراق لأهلها يمكن أن نصدق أن أمريكا جاءت لتحرير العراق.. وقد نصدق أن أمريكا صديق استراتيجى للعرب. *
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف