سعيد سنبل.. صحفى محترم بمعنى الكلمة
كانت جنازة سعيد سنبل بمثابة استفتاء تلقائى عن رأى الناس فيه، وعن القيمة الحقيقية التى يكتسبها الصحفى حين يكون صادقا ومحترما.
فى الكاتدرائية أدى قداسة البابا صلاة الجنازة مع حشد من كبار الأساقفة والرهبان لم أشهد مثيله من قبل. وامتلأت الكاتدرائية بآلاف من الذين جاءوا لتحية سعيد سنبل ووداعه الوداع الأخير، وكان الواقفون أكثر من الجالسين، وضاقت القاعة الواسعة فتجمع المعزون خارجها رجالا وسيدات.
كان المشهد مليئا بالحزن والمحبة.. ولم تستطع أسرة سعيد سنبل أن تصافح كل المودعين، فصافح بعضهم بعضا وتبادلوا العزاء فيه. واعتبروا أنهم أسرة سعيد سنبل.
وفى المساء كان المشهد فى كنيسة الملاك ميخائيل يثير الدهشة والزحام يفوق الوصف.. آلاف الرجال والنساء.. وكل لحظة يدخل عشرات من المعزين الجدد حتى اضطر المنظمون للعزاء إلى وضع مقاعد فى الطرقات وفى جميع قاعات الكنيسة.
شىء لم يحدث من قبل..
لماذا؟
لأن الناس شعرت تلقائيا بأن رحيل هذا الرجل خسارة حقيقية لا تعوض، فجاءوا ليقدموا العزاء وليتقبلوا العزاء أيضا، وفى العادة يزداد عدد المعزين عندما يكون الراحل من أقارب واحد ممن فى السلطة، ويقل عددهم عندما يكون الراحل رجلاً فى السلطة، لأن الناس لم يعودوا فى حاجة إلى التقرب إليه. ولكن سعيد سنبل كان هو الراحل، ولم يكن من رجال السلطة. فلماذا تجمعت هذه الحشود من الشخصيات العامة ورجال الدولة والصحافة ومن كل الأحزاب، ومن كل الفئات؟ وكثير منهم ليست لهم به علاقة شخصية أو مصلحة؟ ولماذا جاء مئات ممن لم يتعاملوا معه وكانت صلتهم به صلة القراء بكاتب يحملون له التقدير؟
أعتقد أن ما حدث فى جنازة سعيد سنبل وفى العزاء يحتاج إلى تحليل سياسى واجتماعى، إذ لم يكن الأمر مقصورا على التعبير عن الحزن لرحيله، ولكن مع الحزن كانت هناك عوامل أخرى تخص سعيد سنبل كإنسان، وكصحفى، وعوامل تتعلق بأوضاع الصحافة والصحفيين، وعوامل تتعلق بالمجتمع وما جرى فيه.
هو كإنسان كان كالنسمة، ودود، طيب، صاحب قلب كبير، هادئ، متزن، لا تصدر منه كلمة نابية، ولا يعرف النميمة ولا يسىء إلى أحد فى حضوره أو فى غيابه.. ولأنه كان يحتفظ لنفسه بالانفعال والغضب والتوتر دون أن يشعر أحد فقد دفع الثمن من صحته، ولم يتحمل قلبه فاحتاج إلى جراحات ومعالجة طويلة. وكان يتحمل الألم دون أن يشكو حتى لا يحمّل الآخرين بهمومه الشخصية.
وكصحفى كان نموذجاً للصحفى المحترم بمعنى الكلمة. وهذه الصفة ليست قليلة. إنها صفة يبحث عنها الناس، ويقدّرونها، ويتجاوبون مع صاحبها، وعندما يجدون من تنطبق عليه هذه الصفة تكون سعادتهم به كمن عُثر على كنز.
صحفى محترم لم يكن قلمه خاضعا إلا لضميره وفكره. وكان ضميره الوطنى والشخصى نقيا ومخلصا، وملتزما بالقيم الأخلاقية، فلم يمد يده فى يوم من الأيام، ولم يتملق، ولم ينافق، ولم يكذب، ولم يضلل، ولم يسخر قلمه لمصلحة شخصية.. كتاباته كلها من البداية وحتى النهاية ملتزمة بالموضوعية، ومصلحة البلد، حتى عندما يشتد فى النقد ويشن حملاته الضارية لم يكن وراءها سوى المصلحة العامة، والجميع يعلمون ذلك، ولذلك كان موضع احترام وتقدير من الذين يتناولهم بالنقد، لأنهم يعلمون أن هذا النقد ليس وراءه أغراض شخصية.
صحفى محترم فى سلوكه الشخصى والمهنى.. لم يستخدم قلمه سلاحا للتشهير أو للابتزاز أو حتى للمجاملة.
وكلما كنت ألتقى به كنت أعجب بكل هذا النقاء الذى ألمسه فى حديثه وتصرفاته، وأسمع ممن تعاملوا معه عن قرب من زملائه وتلاميذه ما يزيدنى إعجابا به، وأقرأ تحليلاته وآراءه الاقتصادية والاجتماعية فأجد لديه مقدرة عجيبة على تبسيط القضايا الاقتصادية بحيث يفهمها القارئ العادى كما يفهمها الخبراء والمتخصصون.
رافقته فى رحلة صحفية إلى البحرين، وفى السفر تتعرف على شخصية الرفيق على حقيقتها، وكانت الأيام التى قضيتها معه من أجمل الأيام التى قضيتها خارج مصر، بما أمتعنى به من الصحبة الرقيقة، والأفكار الذكية، والملاحظات الدقيقة، وتركت هذه الرحلة فى نفسى أثرا عميقا، وازدادت محبتى به بعد عودتنا حيث كان يتحدث إلىّ بمودة صافية من حين لآخر وسط مشاغله الكثيرة.
شخصية سعيد سنبل تذكرنى بشخصية على حمدى الجمال رئيس تحرير الأهرام الراحل الذى لا يمكن أن ينساه من اقترب منه، نفس الهدوء، والنقاء، والرقة، والإحساس الإنسانى بالآخرين.
وما يلفت النظر فى مظاهرة الحب التى تفجرت يوم وداعه أن الناس- خارج الوسط الصحفى- لديهـم ميزان حسـاس ويقدّرون وزن كـل صحفى تقديـرا فى منتهى الدقة، لا يهم الناس ما يشغله الصحفى من مناصب، فالمناصب مواقع إدارية تعطى لصاحبها مكانا داخل مؤسسته ولا تعطيه لدى القراء شيئا. والدليل على ذلك أن الأستاذ هيكل ترك منصبه فى الأهرام فازدادت قيمته لدى القراء ولم تنقص، وكذلك سعيد سنبل ترك منصبه كرئيس مجلس إدارة وتحول إلى كاتب فازداد تألقا وقربا من القراء وازدادت شعبيته.
وكل كاتب له قراء. قد يكون عددهم قليلا وقد يكون عددهم كبيرا، وليس هناك كاتب نصيبه من القراء كل قراء الصحيفة سوى عدد محدود جداً من الكُتّاب. سعيد سنبل من هؤلاء. كل من يقرأ الأخبار يقرأ سعيد سنبل. وهو يخاطب كل قراء الأخبار بفكر وأسلوب لهما خصوصية سعيد سنبل: العمق والدقة والبساطة فى توليفة واحدة.
هناك صحفيون كبار صنعوا لأنفسهم شهرة، وعاشوا لأنفسهم فقط، وهؤلاء لا يبكى عليهم سوى أهلهم. وهناك آخرون أساتذة لهم تلاميذ وأعطوا للأجيال التالية من فكرهم وخبرتهم، وهؤلاء يبقى ذكرهم وشكرهم.
سعيد سنبل من هؤلاء. أستاذ. له أصدقاء ومحبون وتلاميذ كثيرون، ولذلك سيظل ذكره فى قلبهم وعقلهم ولن يطويه النسيان. لقد دخل تاريخ الصحافة المصرية من باب لا يدخله سوى قلة قليلة ممن يستحقون بأن يوصفوا بأنهم أساتذة وبأنهم محترمون.
ولعل جنازة وعزاء سعيد سنبل هى الدرس لمن أراد أن يتعلم كيف يكون الصحفى فى مكانة عالية.. ليس بقرار.. ولا بالصوت العالى والضجيج الفارغ.. ولكن باحترامه لنفسه وقلمه ورسالته. واحترامه لقرائه. *
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف