وزيرة الخارجية أم وزيرة المستعمرات؟
لماذا اختار الرئيس بوش أن تكون كوندوليزا رايس وزيرة خارجيته؟ كوندوليزا رايس هى الواجهة التى سيرى العالم منها عظمة وقوة أمريكا!
بهذه الكلمات أعطـانا الرئيس بوش المفتاح لفهم الأسباب التى دعت كولن باول إلى رفض الاستمرار فى الدفاع عن سياسة أمريكية قائمة على تجاهل الحلفاء، والاستهانة بالقانون الدولى والشرعية الدولية ومبادئ العدالة والأخلاق!
كوندوليزا رايس هى الشخصية المناسبة للمرحلة الجديدة من حكم الرئيس بوش وهى مرحلة سوف يشهد العالم فيها مزيدا من ممارسات الصلف والفظـاظـة، واستخدام القوة لإقامة الإمبراطورية الإمبريالية الأمريكية تنفيذا لاستراتيجية المحافظين الجدد الذين يؤمنون بمبدأ أمريكا فوق الجميع.
وكان معلوما منذ أكثر من عامين أن كولن باول يسير وحده، حتى وصفه المراقبون الأمريكيون بأنه طائر يغرد خارج السرب، فهو رجل عاقل، معتدل، منطقى، صاحب تاريخ عسكرى نظيف، تميز بالنزاهة ولم تلحق به شائبة من شوائب الفساد التى لم تدع أحدا من كبار المسئولين فى الإدارة الأمريكية الحالية. وكان موقفه على العكس من موقف نائب الرئيس ديك تشينى ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوتز، ومجموعة الصقور فى وزارة الدفاع وفى البيت الأبيض، التى كانت صاحبة نظرية إعلان أمريكا الحرب العالمية على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، بحيث تغزو القوات العسكرية الأمريكية بأسلحتها الحديثة المدمرة كل مكان فى العالم يحتمل أن يظهر فيه إرهابيون اليوم أو مستقبلا. وكانت هذه النظرية هى الغطاء للنوايا التوسعية للسيطرة على منابع البترول ، و على المناطق الاستراتيجية الحساسة والحاكمة فى العالم وبخاصة فى آسيا والشرق الأوسط، ونشر القواعد والقوات الأمريكية على امتداد خريطة العالم لوقف احتمالات ظهور قوى دولية يمكن أن تظهر إلى جانب الولايات المتحدة التى تعمل على أن تظل القوة الوحيدة المسيطرة على مقادير الكون.
هذه السياسة كانت كوندوليزا رايس أكثر المتحمسين لها، وتوافق حماسها مع الهاجس المسيطر على الرئيس بوش بأنه مبعوث العناية الإلهية، وأن الله اختاره برسالة لتغيير العالم، وأنه لابد أن يلبى نداء الرب ويحارب (الشر) فى كل مكان. وكوندوليزا رايس من أهم الشخصيات الذين صاغوا هذا الفكر. وهناك عوامل أخرى جعلتها أقرب المستشارين إلى الرئيس حتى أنها تقضى العطلات معه فى كامب ديفيد مع أسرته. فهو فى هذه المرحلة أصبح متعصبا دينيا، إلى حد أنه أدخل تقليدا جديدا لأول مرة بأن يبدأ العمل فى البيت الأبيض بالصلاة، حيث يجتمع مع كبار مساعديه فى خشوع، وتتلى عليهم آيات من العهد القديم والعهد الجديد فى الكتاب المقدس، كما أنه يحرص على قراءة أجزاء من الكتاب المقدس يوميا، ويقول: (إننى أصلى من أجل القوة). وكوندوليزا رايس تتفق معه فى تحول أمريكا من دولة علمانية إلى أن تكون (بلد الله)! وهى نشأت فى كنيسة للسود فى مدينة برمنجهام بولاية ألاباما وكان أبوها القسيس راعى هذه الكنيسة، فهما إذن يتحدثان لغة واحدة: لغة القوة، والتعصب الدينى.
لذلك لم يستطع كولن باول الاستمرار وهو يعلم أن الرئيس بوش لن يغير أو يخفف من غلواء سياساته الخارجية فى فترة رئاسته الثانية، وعبر كولن باول عن ذلك فى حديثه مع صحيفة الفاينانشيال تايمز بقوله: إن الرئيس لن يتراجع.. إنه فى فترته الثانية استمرار لمبادئه، وسياساته، واعتقاداته، وقد حصل على تفويض بمواصلة سياسته الخارجية الحازمة، وسوف تتخذ أمريكا إجراءات بمفردها(متجاهلة أصدقاءها وحلفاءها)!
وبرنت سكو كروفت مستشار الأمن القومى فى عهد الرئيس بوش الأب كرر هذا المعنى لصحيفة فاينانشيال تايمز بقوله إن الرئيس بوش الابن مفتون برئيس الوزراء الإسرائيلى أرئيل شارون! وهذه الكلمات لها معان تهمنا وتدلنا!
واختيار كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية دليل على حسم الخلافات فى داخل مجموعة النخبة الحاكمة، بين الجناح الواقعى أو العملى فى السياسة الخارجية الذى أسسه هنرى كيسنجر وجيمس بيكر وغيرهما ممن أرسوا مبادئ وفكر الحزب الجمهورى فيها يتعلق بالسياسة الخارجية لأكثر من ثلاثين عاما، وهذا الجناح اختفى مع تولى بوش الابن السلطة-كما قالت بى. بى. سى- وجاءت معه مجموعة من المثقفين انتهزوا الفرصة بعد 11 سبتمبر لتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية نحو مسار آخر قائم على انفراد أمريكا بالقرار وبالعمل، والضغط على دول العالم لكى تنصاع وتسير وراءها راضية أو كارهة، وهذا الجناح بالرغم من أنه تسبب فى أخطاء تاريخية فى العراق، إلا أنه بنفس النزعة الأحادية المتشددة قدم مشروعا لتغيير منطقة الشرق الأوسط لكى تصبح متوافقة مع السياسة الأمريكية رغم عدم قبول شعوب المنطقة للتدخل الخارجى فى شئونهم الداخلية.
فى وجود كولن باول كان وزير الدفاع رامسفيلد يعمل على عرقلة جهوده وتقليص دوره ودور وزارة الخارجية عموما، ولكن مع وجود كوندوليزا رايس فمن الأرجح أن يتم التنسيق بينهما ومع الصقر الكبير الصهيونى بول وولفوتز للتوافق التام فى توجهاتهم الخاصة بالتدخل العسكرى الأمريكى الصهيونى فى العالم.
وسوف تكون الإدارة الأمريكية فى ولاية بوش الثانية أكثر تجانسا وانسجاما، بعد استقالة وزير الأمن الداخلى توم ريدج، ونائب وزير الخارجية ريتشارد إرميتاج، ووزير الطاقة سبنسر إبراهام، ووزيرة الزراعة آن فينمارن، ووزيرة التعليم رود بيج، وتعيين وزير جديد للجيش هو فرانس هارفى الذى كان مسئولا عن صناعة السلاح وليست لديه خبرة بإدارة الجيش أو بأوضاع القوات الأمريكية فى العراق، ولكنه شديد الولاء للرئيس بوش، فهو من أهل الثقة ولا يهم أن يكون من أهل الخبرة، وهو أيضا ممن يعتنقون فكر المحافظين الجدد المؤمنين برسالة أمريكا ورسالة بوش الإلهية للسيطرة على العالم وقيادته والقضاء على (الشر). والسبب الحقيقى فى اختياره أنه عضو مجلس إدارة شركة (دوراتك) وهى مجموعة استثمارية على علاقة وثيقة بالرئيس بوش.
هكذا تأتى كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية ضمن طاقم جديد أكثر تعبيرا عن الغطرسة الأمريكية، وهذا ما كان يقصده الرئيس بوش عندما قال ان العالم سيشاهد قوة وعظمة أمريكا على وجهها. بينما يقول المحللون إن كفتها رجحت عن كفة جون دانفورت مندوب الولايات المتحدة فى الأمم المتحدة الذى كان مرشحا لهذا المنصب لأنها أكثر فظاظة منه. ولأنها كانت مستشارة لشركات البترول الكبرى التى كان يرأسها نائب الرئيس ديك تشينى.
كوندوليزا رايس مشاركة بقسط كبير فى صياغة نظرية الحرب الاستباقية، وحق أمريكا فى استخدام القوة العسكرية لفرض إرادتها، وتؤمن بفكرة الحرب المستمرة فى أنحاء العالم تحت شعار القضاء على الإرهاب.
قالت عنها الإذاعة البريطانية (بى . بى . سى) إنها تتميز بسلوكها القاسى الذى أكسبها لقب (الأميرة الشريرة) وأنها أكبر حليف للرئيس بوش وهو قليل الخبرة فى الشئون الخارجية، وفى داخلها مرارة الاضطهاد الذى عاشت فيه فى ولاية ألاباما وهى الولاية المشهورة بالتمييز العنصرى واضطهاد السود، وهذا ما جعل الإحساس بالتفرقة العنصرية يترسخ بشدة فى أعماقها، وعبرت هى عن ذلك فقالت إنها نشأت فى ظل الاضطهاد العنصرى للسود ولكنها كانت طموحة وآمالها الشخصية عالية وعزيمتها قوية ولذلك حصلت على الدكتوراه ولم تتجاوز السادسة والعشرين من عمرها.
ومعروف أن لها تأثيرا كبيرا على الرئيس بوش، وكلمتها مسموعة خاصة بعد 11 سبتمبر حيث أصبحت (المرأة الحديدية) فى البيت الأبيض.
المتوقع أن تكون سياسة أمريكا الخارجية أكثر تشددا وغطرسة مع الدول العربية والإسلامية، وأكثر انحيازا لإسرائيل، واكثر استخداما للضغوط السياسية والاقتصادية - وربما التهديد بالعمل العسكرى- لتغيير الدول التى يريد بوش تغييرها تلبية لنداء الرب الذى يوحى إليه فى المكتب البيضاوى!