ماذا بعد عرفات؟
كانت إسرائيل تتمنى أن يمر رحيل عرفات بمظاهر تكريم أقل كثيرا مما جرى، لكن دول العالم أجمعت على المشاركة فى جنازته فى مظاهرة تعلن تقدير العالم لزعيم عربى له مكانته وقدره بين شعبه، وفى عالمه العربى، وفى العالم أيضا.
وكان قرار مصر باستقبال جثمان عرفات استقبالا رسميا كرئيس دولة، وترتيب جنازة مهيبة تليق بنضاله وموقعه فى قيادة شعب عظيم، كان لهذا القرار أثره الكبير عالميا، ولم تكن إسرائيل تتمنى أن يشهد العالم كل هذا التكريم للرجل الذى كانت تصفه بأنه إرهابى، وها قد جاءها الرد من سائر الدول دون استثناء بأن عرفات ليس سوى قائد لنضال شعبه من أجل استعادة حقوقه المغتصبة. وكان موقف فرنسا أيضا عظيما يستحق الاحترام أثبتت فيه حقا أنها دولة الحرية والمبادئ الأخلاقية.
وكانت إسرائيل تتمنى- وتتوقع- أن تدب الفوضى فى الأراضى الفلسطينية عقب الإعلان عن وفاة عرفات، وسيتبادل الفلسطينيون إطلاق النار فيما يمكن أن يتحول إلى حرب أهلية، أو صراع على السلطة، وكانت تمنى نفسها بأن يكون ذلك ذريعة لتقول للعالم، هاهم الفلسطينيون إرهابيون ويتصرفون بهمجية ويصعب التفاهم معهم، وكانت المفاجأة أن تم انتقال السلطة بسلاسة وهدوء وعقلانية أثبتت أن الفلسطينيين متحضرون، وقادرون على إدارة الأزمات مهما بلغت شدتها، ومنظمون إلى درجة مذهلة، فلم يرتفع صوت شارد أو مخالف، ولم تقع حادثة واحدة تدل على الفوضى أو انفلات الزمام. وكان انتقال السلطة بهذه الصورة إجابة عن السؤال الذى طرحته إسرائيل، وغيرها، من الذى يمكن أن يخلف عرفات؟ ومن يقدر على ملء هذا الفراغ الكبير؟ ومن يملك مثل الكاريزما والتاريخ الطويل فى قيادة النضال العسكرى والسياسى الفلسطينى، ولديه مثل خبرة عرفات فى التعامل مع دول العالم فى الشرق والغرب، فجاء الجواب بسرعة أن عرفات لم يكن وحده، وأن هناك رجالاً شاركوه كل معاركه واكتسبوا مثله خبرة القيادة والتعامل مع الأزمات وإدارة العلاقات الدولية.
ومثل هذا السؤال يتردد دائما فى كل مرة يغيب فيها زعيم عربى كبير.. مثل عبدالناصر والسادات والملك حسين والملك الحسن والشيخ زايد.. وفى كل مرة كان الرد العملى بظهور قيادة تمسك بالزمام بمقدرة وحنكة مما يدل على أن القول بأنه لا يوجد صف ثان وصف ثالث إنما يصدر ممن يعجزون عن رؤية ما يحدث فى الواقع ويتكلمون عما يتصورونه فى أذهانهم، أو يتوقعونه فى أحلامهم.
وفى حالة الشعب الفلسطينى فإن هذا الشعب لديه تجربة نضالية فريدة، فقد عاش فى القهر والمحنة أكثر من نصف قرن، وكانت الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية عليه تفوق قدرة البشر على الاحتمال، ولو كان أى شعب آخر ذاق ما ذاقه الشعب الفلسطينى لكان قد وصل إلى الانهيار والاستسلام، لكن الشعب الفلسطينى لم يستسلم أبدا، حتى الدبابات والجرافات تدمر البيوت على من فيها، والطائرات تلقى بالصواريخ على القيادات والشباب وتحولهم إلى أشلاء، والجدار يحول قراهم ومدنهم إلى زنازين معزولة، لا يدخلون ولا يخرجون إلا بإذن وتفتيش وإهانات وإذلال يومى..
وحتى ياسر عرفات عاش ثلاث سنوات سجينا فى مبنى واحد لا يغادره، وقضى أسابيع فى ظروف غير إنسانية بعد أن قطعت عنه إسرائيل الماء والنور والغذاء والأدوية ومنعت طبيبه من زيارته، وعندما زاره وزير خارجية فرنسا مؤخرا وصف حياته تحت حصار الدبابات الإسرائيلية بأنها حياة مهينة.. ومع ذلك فإن عرفات ظل شامخا كالجبل لا يهزه الريح، كما ظل شعبه صامدا وأثبت بالفعل أنه شعب الجبارين!
من هنا لا معنى للتساؤل عن مستقبل القضية الفلسطينية بعد غياب عرفات، ولا مبرر للتخوف على وحدة وتماسك الشعب الفلسطينى بجمع فصائله، ففى المجتمع الفلسطينى كل ألوان الطيف السياسى، وفيه اختلافات فى المواقف والرؤى، كما هو الحال فى جميع الدول والمجتمعات، ولكن هذه الاختلافات قائمة فى إطار الوحدة، فالوعى لدى جميع الفصائل بالمخاطر التى تحيط بهم، وبالعيون والمدافع التى تتربص لهم، يجعلهم يرتفعون إلى مستوى المسئولية، ويدركون أن مستقبل الدولة الفلسطينية رهن بسلوك الجميع، لذلك فإن الذين يراهنون على حدوث انفلات، وفراغ، وصراعات بعد رحيل الزعيم سوف يصابون بالخيبة، وسوف يزداد الشعب الفلسطينى قوة وصلابة، ويواصل المسيرة إلى أن يتحقق له العدل والسلام.