ثائر دخل التاريخ
غاب ياسر عرفات عن ساحة النضال الفلسطينى، وتحققت بـذلك أمنيــة - أو إرادة - شـارون، واسـتراحت الإدارة الأمريكيـة من ثائرعنيد لم يستسلم، ولم يقبل أن يبيع شعبه ووطنه وحقوقه المغتصبة.
وانطوت صفحة أخرى من تاريخ الثورات العربية التى عبّرت عن الحركة الوطنية القومية وكانت الصوت الحقيقى للشعوب. وفتحت صفحة جديدة مليئة بالأسئلة التى لا تجد إجابة، وبالآمال التى لا تجد استجابة، وباحتمالات تثير القلق والخوف من المستقبل.
ياسر عرفات هو الأب الشرعى للثورة الفلسطينية، هو الذى بدأها منذ كانت فكرة، والتف حوله رجال ضحوا بأرواحهم من أجل وطنهم المغتصب، وجاء مع رفاقه إلى مصر ليلتقوا بقائد التيار القومى العربى-جمال عبد الناصر- فوجدوا فى مصر التفهم والدعم، وبدأ عرفات مرحلة الكفاح المسلح قائدا لمنظمة فتح، وفى هذه المرحلة واجه من الصعوبات ما تعجز الجبال عن تحمله من داخل الثورة ذاتها، ومن القوى الدولية صاحبة المصلحة فى تثبيت دعائم الدولة الإسرائيلية فى قلب العالم العربى على أرض فلسطين، فضلا عما واجهه من الأعداء ومن الأصدقاء أيضا. وتحمل من الضغوط ما يفوق قدرة الإنسان على الاحتمال، ولكنه أثبت أنه يتمتع بصلابة غير عادية، وبمرونة وقدرة على المناورة غير عادية أيضا، وهكذا نجا مما كان يدبره له الأعداء والأصدقاء!
كان عرفات مناضلا بالحرب والسياسة، ولم يتردد فى قبول التفاوض على أساس الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية التى لا يمكن لفلسطينى التنازل عنها مثل الحق فى البقية الباقية من فلسطين، والحق فى إقامة دولة تتمتع بمقومات الدولة وذات سيادة، تتعامل مع العالم ومع إسرائيل بكرامة وعلى قدم المساواة، ولا تنازل عن القدس التى لا يملك فلسطينى، أو عربى أو مسلم، أن يفرّط فيها اليوم أو غدًا أو بعد آلاف السنين، وجلس على مائدة المفاوضات أكثر من مرة، وصافح رابين وباراك ونيتانياهو، ووقع على اتفاقية أوسلو واتفاقات أخرى عليها ضمانات بتوقيع الرئيس الأمريكى شخصيا فى واشنطن، والقاهرة، وواى بلانتيشن ذهبت كلها أدراج الرياح، وتنكرت لها إسرائيل وأمريكا وعادت بالقضية إلى نقطة الصفر ليبدأ نضاله من جديد.
ومع استمرار الضغط والمعاناة والظروف غير الإنسانية التى يعيش فيها الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال، تفجر الغضب بالانتفاضة التى أشعلها جيل جديد من الشباب ولد وعاش فى ظل القهر والفقر والاحتلال، ولم يكن أمام عرفات إلا أن يتقدم لقيادة هذا الفوران الشعبى التلقائى، وكان لقيادته الفضل فى ضبط هذا النهر الهائج بفيضانات الغضب، ولو كان قد تخلى أو عارض الانتفاضة لكانت قد تحولت إلى فوضى شاملة تدمر كل شىء، لأن اليأس لدى الشباب كان قد بلغ أقصى المدى.
وعرفات هو الذى ذهب إلى الأمم المتحدة يحمل غصن الزيتون وطالب العالم بأن يساعد شعبه على أن يعيش كسائر الشعوب ويتمتع بالحق فى الحياة والحرية والكرامة. وهو الذى ظل سنوات يطير من بلد إلى بلد، ويلتقى بزعيم من زعماء العالم كل يوم، يطلب المساعدة لإقامة سلام عادل يحقق الأمن للإسرائيليين وللفلسطينيين معا، ويضمن التعايش السلمى بين الدولتين ويقدم كل يوم تنازلا جديدا. اشترطت عليه أمريكا وإسرائيل إلغاء النص فى ميثاق منظمة التحرير الخاص بعدم شرعية وجود الدولة الفلسطينية، والاعتراف بإسرائيل، ووقف عمليات المقاومة ، والتنازل عن أجزاء من الضفة، وقالوا إن هذه هى المرونة المطلوبة منه لإثبات حسن النوايا، وقدمها جميعا، ولم تحقق إسرائيل وأمريكا ما وعدته به فى المقابل.
وحتى عندما تفرغ الرئيس كلينتون للبحث عن حل للمشكلة، واجتمع أياما مع رئيس الوزراء الإسرائيلى باراك، ومع ياسر عرفات، عرضوا على عرفات التنازل عن المزيد من أراضى الضفة، والتنازل عن القدس، ولم يستطع عرفات أن يخون قضية وطنه ودينه، ورفض، وقيل: إن هذه كانت الفرصة التاريخية التى ضيعها بعناده والذى سيدفع ثمن هذا العناد هو وشعبه. والحقيقة أنها لم تكن فرصة ولكن كانت مصيدة نجح فى الإفلات منها!
وشخصية عرفات من النوع النادر الذى لا يتكرر كثيرا فى التاريخ، فهو يجمع بين الصلابة والمرونة، ويجمع بين الضعف والقوة، ويجمع بين طبيعة المقاتل وطبيعة السياسى، ويجمع بين قوة العقل وقوة العاطفة. ولولا هذه الصفات لما استطاع أن يعيش ثلاث سنوات سجينا فى مبنى واحد لا يغادره، والدبابات الإسرائيلية تحيط به، والطائرات الإسرائيلية تحلق فوقه، ومجلس الوزراء الإسرائيلى يجتمع ويقرر تصفية عرفات أو طرده خارج الأراضى الفلسطينية ويترك طريقة وتوقيت التنفيذ لرئيس الوزراء، ويعلن وزير الدفاع الإسرائيلى ورئيس الأركان، والوزراء، كل يوم أنه آن الأوان لكى يرحل عرفات، والرئيس الأمريكى يصفه بأنه إرهابى، وإنه كاذب ولا تثق أمريكا فيه، وإنها تريد قيادة فلسطينية أخرى للتفاوض معها.. ويرى إسرائيل تدمر المطار، والميناء، وتدمر طائرته، وتقتل رجاله واحدا بعد الآخر، وتضرب الشيخ أحمد ياسين والرنتيسى وغيرهما بالصواريخ وتحولهم إلى أشلاء وتكون هذه كلها رسائل موجهة إليه تنذره بأنه يمكن أن يلقى نفس المصير.
وقبل ذلك عاش عرفات لحظات كان الموت فيها قاب قوسين أو أدنى، عندما حاصرته القوات الإسرائيلية فى بيروت وأحكمت الحصار عليه واقتربت إلى مسافة مائة متر من مقر إقامته. وعاش فى المنفى فى لبنان والأردن وتونس، وشهد رفاقه تقتلهم إسرائيل فى كل مكان حتى وهم داخل بيوتهم.
وظل واقفا مرفوع الرأس يردد أنه جبل لا تهزه الريح، مع أن ما كان حوله ليس الريح بل العواصف والصواعق والبراكين. وظل يصف شعبه بأنه شعب الجبارين.
لم يكن عرفات نبيا، ولكنه كان إنسانا عظيما. وكل إنسان له أخطاء يمكن أن يحاسبه التاريخ عليها، دون أن يغفل الدور العظيم الذى قام به، ولولاه لما كانت القضية قد ظلت حية إلى اليوم.. لولاه لكان الأمر انتهى وتم تنفيذ المشروع الصهيونى كاملا.. لقد كان بوقفته مع الشعب الفلسطينى خط الدفاع الأول عن الدول العربية جميعا.. ولولاه لكانت قصة فلسطين تكررت وامتدت وشملت ما بعد فلسطين!
عرفات مثل مانديلا زعيم جنوب أفريقيا التاريخى، الذى قاوم الحكم العنصرى وتحمل هو وشعبه جدار الفصل العنصرى وممارسات الاستعمار لإذلاله هو وشعبه، وعاش فى السجن 27 عاما ثم خرج منتصرا- وهو الضعيف المريض الأعزل- وأصبح رئيسا لجمهورية جنوب أفريقيا بعد أن أصبحت حرة مستقلة.
عرفات ناله من المتاعب والضغوط أكثر من مانديلا، وعاش فى سجن دائم، وظل- مثل مانديلا- واقفا على قدميه مرفوع الرأس لا ينحنى، وإن كان لم يعش ليرى حلمه يتحقق ودولته ترفع أعلامها، لأن القوى العظمى كانت تساند اغتصاب الوطن الفلسطينى، ومع ذلك فسوف يبقى عرفات رمزا للنضال والصمود.
وإن قال أعداؤه إنه إرهابى فسوف يذهب أعداؤه وأكاذيبهم وتبقى دعوته للحق والعدل والحرية.
إنه مناضل من أجل الحرية.
ولقد حصل على جائزة نوبل للسلام ولم يحصل على السلام.
ومهما اختلفنا معه فإن عربيا مخلصا لن يختلف على أنه قائد ثورة تاريخية.
وهو شهيد.. له عند الله منزلة الشهداء.
وشعب فلسطين سيبقى حاملا الراية.. مدافعا عن حقوقه .. ولن يستسلم..