مع بوش.. كيف سيكون العالم؟
لم يكن فوز الرئيس بوش بحكم أمريكا أربع سنوات أخرى مفاجأة، ولكنه كان صدمة، والبعض رآه كارثة، وهذا الانطباع بالإحباط والخوف مما هو قادم لم تعبّر عنه الشعوب العربية وحدها، بل عبّرت عنه أوروبا، وعبّر عنه الأمريكيون أيضا بصراحة وبوضوح لم يقدر عليهما غيرهم.
مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق أعلن أن فوز الرئيس بوش كارثة على المسلمين وعلى العالم، وقال: إن المسلمين ينتظرهم المزيد من المعاناة نتيجة رئاسة زعيم متعجرف للولايات المتحدة.. وقال أيضا: نحن نشعر بالحزن لأن هذا الرجل الذى تسبب فى القتل الجماعى، وجلب الكارثة، قد أعيد انتخابه ليقود هذا البلد! وقال: إن المسلمين فى أنحاء أخرى من العالم قد يتم قتلهم حتى قبل تناول الإفطـار فى شهر رمضان المقدس كما حدث فى العراق!
ووزير خارجية فرنسا ميشيل بارنييه عبّر عن شعور الأوروبيين فى حوار للقناة الثانية للتليفزيون الفرنسى فى يوم إعلان النتيجة قال فيه ما يلى:
* لدينا خلافات مع إدارة الرئيس بوش، ظهرت واضحة حول المسألة العراقية والحرب التى شنتها الولايات المتحدة خارج إطار القانون الدولى، ونحن كأوروبيين لدينا تصور آخر ونظرة مختلفة عن الأمريكيين بشأن كيفية تنظيم العالم، وما يجب عمله لوضع حد للفوضى والاختلال السائدين فيه الآن.
* والأمريكيون أقوياء، ولا يمكن توجيه اللوم إليهم لأنهم أقوياء، والأوروبيون ضعفاء وهذا ما نشعر بالأسف عليه. ومع ذلك فلا يمكن حل الأزمات والحروب إلا بتحرك منسق تشترك فيه الولايات المتحدة مع أوروبا، وأكثر الأزمات خطورة فى العالم الآن فى العراق والنزاع الإسرائيلى الفلسطينى، ولا بد أن يشمل التنسيق الدول العربية فيما يخص الشرق الأوسط.
* ربما سيفهم الأمريكيون بأن بإمكانهم الاعتماد علينا - نحن الأوروبيين - كحلفاء أوفياء، ولكن يجب أن يكون المفهوم أننا حلفاء يجب أن يكون لهم الاحترام، فالتحالف لا يعنى التبعية!
* إن هناك وثيقة سيطرحها الأوروبيون على الإدارة الأمريكية تتضمن قيام النظام العالمى على أساس تعددية القوى وليس أحادية القوة، ومن الممكن أن ينظم الأمريكيون أنفسهم ليصبحوا القوة الفاعلة فى هذا العالم ولكن ليسوا وحدهم، فهناك روسيا، والصين، والهند، والبرازيل، وأفريقيا، ويجب أن يحسب لها حساب فى عالمنا هذا.
* إن الأزمة العراقية لن تصل إلى مخرج بزيادة عدد الجنود، وزيادة العمليات العسكرية، وليس هناك حل إلا بالتفاوض السياسى، وإعادة السيادة إلى الشعب العراقى، والحوار السياسى معه.
* وإن النزاع الأكثر خطورة فى العالم هو النزاع الإسرائيلى الفلسطينى، ولن يتم التوصل إلى حل إلا عندما تتحرك الولايات المتحدة مع أوروبا. والأوروبيون مستعدون لذلك التحرك المشترك، ومستعدون للحوار حين يكون فى إطار الاحترام المتبادل!
هذا الموقف الأوروبى الواضح القوى الذى أعلنته فرنسا لم تستطع العبارات الدبلوماسية أن تخفى ما فيه من شعور بالأسف، لأن مواقف الإدارة الأمريكية سوف تستمر أربع سنوات أخرى كما أعلن بوش عقب فوزه، مما يعنى أن العالم سيشهد المزيد من الحروب والدماء والضغوط والعنف، وسيتحول العالم إلى ساحة صراع كبير.
***
وهذا الموقف الأوروبى هو ذاته موقف قطاع كبير من المثقفين والمفكرين الأمريكيين، وهم مختلفون مع مجموعة المحافظين الجدد واليمين الدينى المتشدد، كما تسميهم الصحافة الأمريكية، والذين يحكمون أمريكا. وأغرب ما كتب عن الرئيس بوش ما كتبه توماس فريدمان فى نيويورك تايمز، وتوماس فريدمان يعلن منذ سنوات أنه يهودى مؤيد لبوش فى حرب العراق من أجل البترول، وحماية أمن إسرائيل، وإعادة تشكيل العالم العربى، وبناء الامبراطورية الأمريكية، وكتب فى تبرير ذلك، وفى تأييد حروب بوش عشرات المقالات، لكنه انقلب على بوش، فكتب مقالا فى نيويورك تايمز بعنوان (من أجل أمريكا لا يحكمها الخوف) طرح فيه عدة نقاط تستحق التأمل، مثل:
* إن الرئيس بوش استغل الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية وحشد المواطنين لتأييد أجندة سابقة التجهيز، وكانت أحداث 11 سبتمبر هى الفرصة لتنفيذ هذه الأجندة، وبداية للسير على طريق آخر أخرج الدولة عن طريقها الأصلى.
* وباستغلال مشاعر الأمريكيين عقب أحداث 11 سبتمبر نفذ بوش سياسة يمينية متطرفة فيما يتعلق بالضرائب والبيئة والقضايا الاجتماعية، وجعل نفسه بذلك أكثر الرؤساء الأمريكيين الذين أثاروا الانقسام والاستقطاب فى التاريخ.
* إن بوش استخدم أحداث 11 سبتمبر لتبرير شن الحرب على العراق بدون مساندة الأمم المتحدة، وخلق إسفينا فرّق بين أمريكا وبقية العالم، قائلا: إنه يسعى إلى تنفيذ استراتيجية لإعادة تشكيل أنظمة الحكم العربية والإسلامية التى تساند الإرهاب، وذلك لاقتلاع الإرهاب من جذوره.
* وباستغلال أحداث 11 سبتمبر سياسيا خلق بوش إسفينا آخر يفصل بين نفسه والفطرة السليمة(!) فبعد الفشل فى العثور على أسلحة الدمار الشامل تحول إلى اعتبار الحرب على العراق ردًا على أحداث 11 سبتمبر، واعتبرها أيضا حملة لفرض الحرية والديمقراطية على العالم العربى والإسلامى، ورفض رؤية الواقع فى العراق، وبدأ يقول: إن العمل الذى يؤدى إلى التخلص من صدام حسين لا يمكن أن يكون خطأ، ولكنه لم يستطع بناء الدولة فى العراق لتكون حرة وديمقراطية كما قال. وعندما يتعرض للنقد بسبب هذه الحرب يلجأ إلى التستر وراء أحداث 11 سبتمبر، بادعاء أن الرد على الإرهاب يتطلب قرارات صعبة، وكأن القرار بالحرب على العراق باسم 11 سبتمبر يمكن أن يكسبه حصانة ضد النقد على إدارته لهذه الحرب.
* وأخيرًا باستغلال 11 سبتمبر سياسيا خلق بوش إسفينا بين الأمريكيين وتاريخهم، وحوّل -هو- وفريق العمل معه أمريكا إلى دولة لمحاربة الإرهاب، وأصبح كما قال ستيفن كوهين الخبير بشئون الشرق الأوسط (يبدو رئيسا قادرا على التعبير عن غضبنا وليس عن آمالنا، ويحصر تركيزه كله فى أمريكا ويجعل دورها فى العالم هو محاربة الإرهابيين، بينما كانت أمريكا على امتداد تاريخها تقوم فى العالم بأمور إيجابية لم تعد موجودة الآن).
* وأخيرًا يقول توماس فريدمان: إننى أريد رئيسا يستطيع فى يوم من الأيام إعادة أحداث 11 سبتمبر إلى مكانها الصحيح فى التاريخ الأمريكى، وفى المجتمع الأمريكى. إننى لا أريد أن يكون يوم 11 سبتمبر هو الذى يحدد الهوية الأمريكية، لأنه فى حقيقته يحدد هوية الإرهابيين ولا يحدد هوية الأمريكيين.
وفى الحقيقة لا أصدق أن كاتبا يعتبرونه لسان البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية مثل توماس فريدمان يمكن أن يغير موقفه 180 درجة، وأعتبر موقفه هذا كافيا للتحول العميق فى فكر المثقفين الأمريكيين، وإن كان السؤال: كيف إذن فاز بوش؟ والإجابة سهلة: بإثارة مشاعر الخوف فى نفوس الأمريكيين الذين لا شأن لهم بالسياسة، وإثارة الإعجاب بنموذج (رامبو) كما قال المعلقون الأمريكيون، والأمريكيون يحبون الرجل القوى، العنيد، الذى لا يتراجع عن كلمته ولو خطأ، والقادر على قهر الأعداء، ومشاهد القتل والتدمير فى العراق وأفغانستان ومشهد صدام حسين مكبلا بالسلاسل داخل قفص حديدى يرضى فيهم هذا الشعور الأمريكى بالتفوق ويجعلهم يشعرون بأن أمريكا فوق الجميع، وهذا ما كرره بوش كثيرا، حين ظل يتحدث عن أمريكا القوية، وأمريكا القادرة، وأمريكا التى تقود العالم، وأمريكا الأمة العظيمة.. الخ.
***
هذا ما جعل بوش يكسب أصوات الأمريكيين الذين لا شأن لهم بالسياسة والاستراتيجية، وقد استطاع بوش أن يخلق إسفينا بين المثقفين والمفكرين الأمريكيين ذوى الرؤية الاستراتيجية الصحيحة، وبين قطاع من الشعب الأمريكى يسير وراء مجموعة المحافظين الجدد، الذين يتولون تخطيط وإدارة السياسة الأمريكية الحالية.
نجح بوش فى ذلك، كما نجح فى الضغط على الكونجرس ذى الأغلبية الجمهورية للموافقة على زيادة الاعتمادات لحرب العراق حتى بلغت 225 مليار دولار، وفق ما نشرته صحيفة هيرالد تريبيون.. وقالت: إن الأرقام النهائية غير معروفة حتى الآن، وبذلك فسوف يتضح للأمريكيين بعد وقت لن يطول أن حرب العراق تستنزف أرواح وأموال الأمريكيين بأكثر مما توقع بوش، الذى كان يحلم بإدارة حرب سهلة، ويسيطر على شعب سهل!
***
وموقف التيار الآخر فى المجتمع الأمريكى عبرت عنه الكاتبة المعروفة مورين داود فى مقال بعنوان (خسائر فى العقيدة).. ويجب أن نتذكر أن بوش لم يحصل على أصوات جميع الأمريكيين، ولكنه فاز بأصوات تزيد على النصف، معنى ذلك أن 55 مليون أمريكى لم يؤيدوا سياسته، وهؤلاء ليسوا قلة، وهذا ما جعل منافسه جون كيرى يتحدث عن حالة الانقسام فى المجتمع الأمريكى بسبب سياسة بوش.
تقول مورين داود: ماذا يمكن أن يقال عن رئيس لم يجد ما يبرر أسبابه لحرب؟ لم يجد ما يبررها إلا القول بأن الرب يريدها؟! وسياسته فى العراق قائمة على الإيمان بحدوث معجزة، وبينما تقاتل القوات الأمريكية مقاومة شرسة، يدعى أنه نجح فى تحقيق الديمقراطية والاستقرار (!). وقد خاطب أصحاب الأصوات من الإنجيليين المحافظين على أنه يتلقى أوامره من الرب، ويردد ما يقوله المبشر الإنجيلى التليفزيونى القس (بات روبرتسون) مع أن هذا المبشر حذّر بوش من غزو العراق وقال له: إن الرب أخبرنى بأنها ستكون كارثة وفوضى. لكن بوش كان واثقا جدا من نفسه وقال لروبرتسون: لن نتكبد خسائر (!) وهكذا يتبين أن أخطاء بوش نابعة من اعتقاده بأن رغباته هى إرادة الرب، وكأنه يعلم إرادة الرب فى كل شىء، ابتداء من كيفية بناء الديمقراطية فى العراق، إلى تخفيضات الضرائب (!)
ولم يتجاهل بوش تحذير القس روبرتسون فقط، لكنه تجاهل تحذيرات خبراء الاستخبارات الذين حذوره من أن غزو العراق سيؤدى إلى تقوية الإسلام السياسى، وإلى صراع عنيف، وإلى توحد البعثيين والإرهاب بعد أن كان توحدهما مستحيلا.
وقد كتب مايكل جوردون سلسلة مقالات فى نيويورك تايمز عن الأخطاء الأمريكية الاستراتيجية فى العراق مثل خطة بوش التى كانت قائمة على اعتقاده بأنه يستطيع البدء فى سحب القوات الأمريكية بعد ستين يوما من سقوط بغداد، ومثل قراره بتسريح الجيش العراقى، وهو جيش يضم عددا كبيرا جدا من الضباط والجنود مدربين على القتال، والجيوش فى كل دول العالم هى مستودع الشعور الوطنى، ولا يغير ذلك أن يكون فيها بعض الخونة (!)
وتنتهى مورين داود إلى أن الرئيس بوش سيظل معتقدا أن إيمانه بالرب يعنى معرفته بكل ما يريده الرب، وسوف يستمر فى دفن رأسه فى رمال العراق إلى أن يأتى يوم يكتشف فيه أن إرادة الرب شىء آخر (!)
***
والقول بأن الرئيس بوش يضع رأسه فى الرمال فلا يرى الواقع يتكرر فى أقوال المعلقين والكتاب الأمريكيين والبريطانيين أيضا، وفى تقرير المعلق جاستين ويب فى الإذاعة البريطانية قال: إن بوش يتجاهل ما لا يعجبه.. تجاهل أسئلة الصحفيين عن اختفاء 380 طنا من المتفجرات فى العراق، وتجاهل ما قاله كيرى من أن فشل بوش فى تحقيق الأمن فى العراق جعل العراق يتحول إلى ملاذ للإرهابيين.. وتجاهل الرد على الاتهام بأنه شن الحرب الاستباقية بالرغم من أن مخابراته لم تكن بالكفاءة المناسبة باعترافه.. واحتل دولة دون أن يعمل مع مؤسسات دولته ثم اكتشف أنه يحتاج إليها لتكملة مهمته.
***
وفى مقال الكاتب الأمريكى جيفرى كامب قال: إن فى دول العالم - فيما عدا بريطانيا - شعورا بالخوف بعد إعادة انتخاب الرئيس بوش لقيادة أمريكا والعالم لأربع سنوات أخرى، خاصة بعد أن أعلن أن نجاحه تفويض من الشعب الأمريكى بالاستمرار فى سياساته، وبذلك فإنه سوف يتجاهل الحقيقة وهى أن خمسة وخمسين مليون أمريكى عارضوا سياساته وصوتوا ضده.
أما فى العالم العربى فإن هناك فجوة بين الموقف الرسمى والموقف الشعبى. فقد أعلنت الحكومة ترحيبها بفوز الرئيس بوش، وأعلنت عن تفاؤلها بوجوده فى البيت الأبيض بعد أن أعلن أن التوصل إلى حل للنزاع الفلسطينى الإسرائيلى سيكون ضمن أولوياته.
بينما موقف الشعوب العربية ليس فيه ترحيب أو تفاؤل، بل فيه تخوف وقلق لأن ما أعلنه الرئيس بوش ونائبه تشينى ووزير خارجيته كولن باول ومستشارته للأمن القومى كوندوليزا رايس هو استمرار السياسة التى اتبعتها إدارة بوش من فترة رئاسته الأولى.
وهذا يعنى أن الحروب مستمرة. والضغوط مستمرة. وخطة تغيير العالم العربى مستمرة. وشعار (أمريكا فوق الجميع) مستمر. فمن أين يأتى التفاؤل؟!
والتساؤلات كلها تعبر عن المخاوف: هل يستطيع توفير الأمن فى العراق؟. وهل يستطيع إجراء انتخابات حرة فعلا ونزيهة فعلا فى العراق؟. وهل سيستمر فى تصعيد التهديدات على إيران وسوريا والسودان، أو سيضطر للتراجع تحت ضغط الوضع الصعب للقوات الأمريكية فى العراق؟. واحتياجه إلى دور إيران فى العراق لتساعده على وقف المقاومة، وإيران تستطيع إثارة المشاكل لأمريكا فى العراق.. وهل سيتقدم لإصلاح ما أفسده فى علاقات أمريكا مع حلفائها أو سيستمر فى تجاهلهم وإهانتهم؟. وهل سيستمر فى تأييد شارون حتى ينتهى من تدمير الكيان الفلسطينى وتصفية الشباب والكوادر، ويكتفى بالتلويح بخريطة الطريق كلما اشتد غضب الشعوب العربية؟. أو سيصدق هذه المرة ويتحرك تحركا حقيقيا للتوصل إلى حل عادل لمشاكل الشرق الأوسط التى ساهم هو فى صنعها كما يقول جيفرى كامب؟. وهل سيظل مقتنعا بفكر وخطط المحافظين المتشددين فى إدارته أو سيتحول إلى العمل الدبلوماسى والحوار لكى يتمكن من خفض حدة الهستيريا العدائية لأمريكا فى المنطقة؟.
وأخيرًا إذا ظل الرئيس بوش على مواقفه التى أبعدت أمريكا عن حلفائها وأصدقائها، وأبعدتها عن تاريخها وهويتها، واكتفى بالتساؤل: لماذا يكره العالم أمريكا؟. إذا ظل على حاله.. فهل سيندم الأمريكيون يوما على أنهم أعادوا انتخابه؟! أو أن الرئيس بوش سيكون مختلفا كما يتمنى البعض؟!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف