رأيت وسمعت فى لندن 2
لندن الآن هى أغلى مدينة فى العالم، التاكسى من مطار هيثرو إلى وسط المدينة يكلف ما بين 43 إلى 75 جنيها استرلينيا، أى 420 إلى 730 جنيها مصرياً. وفنجان القهوة بأربعة جنيهات إسترلينية أى بأربعين جنيها مصريا، وتذكرة الأتوبيس بجنيهين أى بثمانية عشر جنيها مصريا، وتذكرة المترو لأقل مسافة بأربعة جنيهات أى بثمانية وثلاثين جنيها مصريا.. وهكذا كل شىء.. وجبة فى مطعم متوسط.. حلاقة شعر.. تذكرة سينما أو مسرح.. فى كل لحظة تجد نفسك تحسبها بالمصرى فتجد أنك تدفع بعشرات الجنيهات بينما تدفع فى القاهرة بالجنيهات فقط وتشكو من الغلاء(!)
طبعا هناك فرق كبير فى مستويات الدخل، ولكن المفروض أن قيمة السلعة أو الخدمة لا دخل لها بمستوى الدخل، ثم إن بريطانيا تعيش فى أزمة بطالة لم يحدث لها مثيل ولها قطعا تأثيرها على السوق، ولذلك تجد هذا العام أن الزحام فى المحلات التجارية والمطاعم ودور السينما والمسارح أقل مما كان فى الأعوام السابقة.. ويلفت النظر - مع ذلك - أن الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار والبطالة لم تمنع البريطانيين من الاستمتاع بحياتهم كل واحد فى حدود قدرته، ولهذا تجد الزحام هذا العام أكثر من الأعوام السابقة فى المتاحف والحدائق والغابات والمكتبات العامة، ولا تندهش حين تجد سائق التاكسى وهو فى انتظار زبون وفى يده كتاب يقرؤه باهتمام، وهذا ما تراه حتى من حارس البناية (البواب) لا تندهش لأن بريطانيا ليس فيها أمية وأقل مستوى تعليمى لأى مواطن بريطانى يعادل الثانوية العامة عندنا، وهكذا الحال فى دولة كبرى.. وبريطانيا مختلفة عن الولايات المتحدة، فقد اكتشفت أن فى الولايات المتحدة أميين بخلاف مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين..
???
أعتقد أن بريطانيا استعادت صورتها كدولة عظمى بسياساتها الخارجية التى جعلتها موجودة وفاعلة فى كل ما يحدث فى الساحة الدولية، كما انتهزت الفرصة فى مناسبتين للظهور بمظاهر العظمة والقوة. وكانت المناسبة الأولى فى الاحتفالات الأسطورية بمناسبة مرور ستين عاما على تنصيب الملكة إليزابيث، وشملت استعراضات استمرت ثلاثة أيام شاركت فيها فرق من دول الكومنولث إشارة إلى الامبراطورية التى كانت، وأطلقت فيها الألعاب النارية كل ليلة وحولت سماء لندن إلى أنوار وألوان مبهرة، وتزاحمت الملايين فى الشوارع للمشاركة والمشاهدة، أما المناسبة الثانية فكانت دورة الألعاب الأولمبية التى أبهرت العالم بالعظمة والتنظيم الدقيق الذى جعل العاصمة البريطانية تستقبل مليون زائر بدون أن تصدر من واحد منهم شكوى من المطار أو الفندق أو المواصلات..
وما شهدته جعلنى أدرك عدم دقة الكاتب الأمريكى الكبير سترايكر مجواير الذى كتب مقالا فى مجلة نيوزويك الأمريكية عن نهاية عظمة بريطانيا وقال فيه: «إن الامبراطورية البريطانية كانت فيما مضى تتمتع بنفوذ فى العالم يفوق حجمها الحقيقى، وإن الأزمة الاقتصادية التى تمر بها الآن تفرض عليها إعادة النظر فى مكانتها ودورها فى العالم، لأن هذه الأزمة فرضت عليها خفض ميزانيات وزارتى الحربية والخارجية مما سيؤثر على قدرتها فى إظهار قوتها العسكرية والدبلوماسية بالإضافة إلى سياسة تونى بلير حين كان رئيسا للوزراء وجعل بريطانيا (العظمى) مجرد تابع للولايات المتحدة حتى إن المعلقين أطلقوا عليها اسم الولاية رقم (51) وأطلقوا عليه اسم «كلب بوش» بعد أن ورط بلير بريطانيا فى حروب بوش فى أفغانستان والعراق وكانت نتيجة سياسات بلير فى النهاية سخط البريطانيين والعالم ونزول بريطانيا من مكانتها لتصبح «دولة تابعة» وتتحمل خسائر فى الأموال والأرواح فى حرب لمصلحة غيرها».
???
وذهبت إلى حيث سفارة الأكوادور فى لندن لأجد سيارات وجنود البوليس حول السفارة وعشرات الكاميرات من شبكات التليفزيون فى مختلف دول العالم فى انتظار أن يخرج من السفارة جوليان أسانج السويدى الجنسية مؤسس موقع ويكيليكس الشهير الذى أثار أزمات سياسية للولايات المتحدة وللعديد من الدول بسبب نشره على الإنترنت المعلومات السرية التى كشفت فضائح وجرائم كانت هذه الدول تفرض عليها ستارا حديديا من السرية لأنها تتعلق بمؤامرات واتفاقات سرية لدول تدّعى أن سياساتها تحترم حقوق الإنسان والقانون والمواثيق الدولية والمبادئ الأخلاقية وهى من وراء الستار تعمل بعكس ذلك.
والقصة معروفة، فقد كشفت آلاف البرقيات المتبادلة بين وزارة الخارجية الأمريكية وسفرائها فى الخارج عن حقائق مذهلة تدل على أن سياسة الولايات المتحدة تسعى إلى استغلال ثروات الشعوب وفرض سيطرتها ونفوذها على قادة الدول ليعملوا على خداع شعوبهم ويوجهوا سياسات بلادهم لخدمة المصالح الأمريكية.. حاولت الولايات المتحدة القبض على أسانج ولكنها لم تستطع لأنه ظل مختفيا ويهرب من مكان إلى مكان، وأخيرا استقر به المقام فى بريطانيا ولكن الولايات المتحدة طلبت تسليمه إليها، ولما لم تستطع تقدمت حكومة السويد إلى الحكومة البريطانية بطلب لتسليمه إليها على أنه مطلوب للمحاكمة فى بلاده بتهمة الاغتصاب والتحرش الجنسى، والقانون البريطانى لا يسمح بتسليم المجرمين الأبناء على حكم قضائى، فصدر حكم من القضاء البريطانى بتسليمه إلى السويد، ولكنه قدّم طعنا فى هذا الحكم أمام المحكمة العليا البريطانية فأيدت الحكم بتسليمه إلى السويد، وعندما حاولت الحكومة البريطانية تنفيذ الحكم لجأ إلى سفارة الأكوادور، ومنحته حكومة الأكوادور حق اللجوء السياسى، وفى نفس الوقت أحاط البوليس البريطانى بالسفارة وثار الجدل فى الحكومة والأحزاب والصحافة: هل يمكن أن يقتحم البوليس البريطانى سفارة الأكوادور للقبض على أسانج باعتباره متهماً مطلوباً للعدالة فى بلاده وتنفيذا لحكم المحكمة العليا البريطانية وبذلك تكون بريطانيا قد قامت بالاعتداء على السفارة وهى أرض الأكوادور وفقا للقانون الدولى، مع ما يترتب على ذلك من آثار سياسية بين البلدين؟ واستمر الحصار حول السفارة على أمل أن يخرج أسانج فيتم القبض عليه خارج السفارة.. ويبدو أن روح التحدى لدى أسانج هى التى دفعته إلى الإعلان عن عقد مؤتمر صحفى، وتجمعت وكالات الأبناء ومندوبو الصحف ومحطات التليفزيون، وخرج إليهم ليقف فى شرفة السفارة ويهاجم الولايات المتحدة ويقول إن قضية التحرش ملفقة، وإن السويد تطلبه لتسلمه إلى الولايات المتحدة ويتعرض هناك لمحاكمة بتهمة تسريب وثائق على أعلى درجات السرية تتعلق بالأمن القومى الأمريكى، والمحتمل أن يحكم عليه بالإعدام فى الولايات المتحدة لأن ما فعله يمثل سابقة خطيرة وتسبب فى الإساءة إلى الولايات المتحدة وتشويه صورتها (والحقيقة أنه كشف الوجه الحقيقى للولايات المتحدة).
وتابعت الديمقراطية البريطانية وهى تواجه هذا المأزق، بين الالتزام بالقانون الدولى، والاستجابة للضغوط الأمريكية، وأمريكا لن تهدأ إلا بعد أن تتسلم أسانج وتحاكمه ليكون عظة وعبرة لكل من يفكر فى كشف الوجه القبيح لأمريكا وهى حريصة على إظهار وجهها كقيادة للديمقراطية وللعالم وإخفاء وجهها كدولة مخابرات ومؤامرات ومصالح.
وأسانج ليس وحده، ولكن معه مجموعة من النشطاء يتنقلون فى أماكن سرية، ويتابعون نشر آلاف الوثائق الأمريكية السرية على الإنترنت والفضائح الأمريكية مازالت مستمرة.
وعلى الإنترنت عبارة تقول: إن قتلوا أسانج فهناك غيره سيواصل كشف الحقي