الشيخ زايد فى قلوب المصريين
الحزن فى مصر على رحيل الشيخ زايد لا يقل عن الحزن السائد فى دولة الإمارات. لأن الشيخ زايد كانت له شعبية ومحبة ومكانة خاصة فى قلوب المصريين، وكما كان يحب مصر حبا أقرب إلى العشق، كانت مصر تحبه حبا يفوق ذلك.
ومواقف الشيخ زايد مع مصر معروفة، فقد كان إلى جانب مصر دائما فى الأزمات، وكان سندا للسياسة المصرية فى دعوتها إلى رأب الصدع فى الصف العربى، وتجاوز الخصومات والخلافات والانقسامات التى أدت إلى زيادة الضعف العربى فى مواجهة القوى الخارجية الطـامعة.
لم يحدث فى يوم من الأيام أن حدث خلاف بين مصر والإمارات فى وجود الشيخ زايد، بل كانت مصر تجد فيه دائما الصديق الحقيقى فى كل العصور، وفى كل المواقف الصعبة، بعد العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 الذى قامت به فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ودمرت مدن القناة وسيناء، كان الشيخ زايد أول من تقدم لمساعدة مصر على إعادة تعمير ما خربه العدوان. وبعد حرب 1967 التى خربت فيها إسرائيل سيناء وبورسعيد والإسماعيلية والسويس، كان هو الذى أسرع بالمشاركة فى إزالة آثار العدوان، واسمه يتردد كل لحظة فى مدن القناة، حيث يعيش الآلاف فى حى الشيخ زايد فى السويس، وحى الشيخ زايد فى الإسماعيلية، وعلى مشارف مدينة 6 أكتوبر تتألق مدينة الشيخ زايد، وفى توشكا يفيض الخير إلى الصحراء لتتحول إلى مزارع خضراء بمياه النيل التى تحملها قناة الشيخ زايد.
وأذكر فى آخر زيارة له إلى القاهرة، كان مقيما فى قصر القبة، والتقى برؤساء تحرير الصحف المصرية، وقال لنا فى حديثه الطويل إن مصر صاحبة أفضال على العالم العربى، وواجب على الدول العربية أن ترد لها الجميل، وأفاض فى الحديث عن تطابق آرائه مع آراء الرئيس مبارك حول ضرورة توحيد العرب، وإعادة الشارد إلى القطيع قبل أن تأكله الذئاب!
وعندما قاطعت الدول العربية مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد ظل الشيخ زايد على علاقاته القوية مع مصر، وكان أول من أعاد العلاقات رسميا معها وتبعته بقية الدول العربية بعد ذلك.
وفى حرب أكتوبر 1973 كان الشيخ زايد سباقا فى قطع إمدادات البترول مشاركة منه فى حرب تحرير سيناء، وحين قيل له إن هذه المقاطعة ستكلف الإمارات خسائر كبيرة قال عبارته المشهورة: إن البترول العربى ليس أغلى من الدم العربى.
وأذكر فى آخر زيارة للرئيس مبارك إلى الإمارات أن جلس الشيخ زايد مرحبا به بشدة تلفت النظر وكأنه يودعه، والتفت إلى أبنائه وإلى كبار رجال الدولة الذين كانوا حوله، وقال لهم بصوت عال ونبرة حازمة: هذه وصيتى، كونوا دائما مع مصر، قفوا دائما مع مصر.. استثمروا أموالكم فى مصر.. شاركوا فى مشاريع التنمية.. اقضوا إجازاتكم فى مصر.. عندما تكون مصر قوية يكون العرب كلهم أقوياء.. وكرر هذه العبارة أكثر من مرة.
والمصريون الذين يعملون فى دولة الإمارات يتمتعون بالاستقرار والرعاية من الشيخ زايد شخصيا، ولم يكن يسمع شكوى من مصرى حتى ينصفه، وكنت أسمع من المصريين فى الإمارات أنهم لا يشعرون بالغربة أبدا، وأنهم يحبون الإمارات حبهم لمصر، ولذلك بقى فى الإمارات عدد منهم لمدد تزيد على عشرين عاما، وقال لى كثير منهم إنهم عندما يخرجون لقضاء إجازة مع أهلهم يشعرون بالحنين إلى الإمارات ويسارعون بالعودة إليها.
أذكر أنى شاهدت بنفسى الشيخ زايد يقود سيارته وليس معه أحد، ويسير بها على الكورنيش الجميل الذى أشرف على إنشائه بنفسه، ولفت نظرى أنه يتوقف ليسأل من يصادفه عن أحواله، وقيل لى: إنه ما من أحد قدم إليه شكوى أو طلبا إلا ولقيت منه اهتماما ووجدت الاستجابة على الفور.
وإنجازات الشيخ زايد فى الإمارات تراها فى كل مكان.. لم تعد أبو ظبى كما كانت حين بدأ حكمه عام 1966 ، مجرد واحة صغيرة تائهة وسط الصحراء. لقد أصبحت واحدة من أجمل العواصم العالمية وأكثرها حداثة. ناطحات السحاب، والإلكترونيات، والأسواق، والمصارف، وبيوت المال والأعمال الكبرى، والصناعات المتطورة، والمدارس والجامعات والمعامل، وكل مظـاهر التقدم تجدها فى كل مكان.
عندنا تولى الشيخ زايد الحكم كانت أبوظبى عند نقطة الصفر تقريبا، والآن أصبحت من أكثر العواصم العربية تقدما ورقيا، وتحققت فيها معجزات، أول معجزة أنه قاد بنفسه حملة لتحويل الصحراء إلى زراعات وأشجار وأصبحت الخضرة تملأ أبو ظبى من كل الأنحاء، وفرض حماية صارمة على الأشجار حتى أنه اعتبر الاعتداء على شجرة كالاعتداء على إنسان، وجعل قطع شجرة جريمة عليها عقاب صارم، وامتدت رعايته إلى الحياة الاجتماعية فأصبحت دولة الإمارات من أوائل دول العالم فى الرعاية الاجتماعية والصحية والتنمية البشرية، كما امتدت إلى الحياة الثقافية، حتى جعل أبو ظبى واحدة من أهم العواصم الثقافية العربية تدعو كبار المفكرين والأدباء من أنحاء العالم، وتعقد فيها المؤتمرات الإسلامية والثقافية التى يحتشد فيها قادة الفكر العرب والأجانب، وتصدر عنها صحف وكتب جادة ومتطورة، وتشهد حركة نسائية نشطة دفعت المرأة الإماراتية إلى التقدم للمشاركة فى الحياة العامة فوصلت إلى المناصب الكبرى فى الجامعات وفى الحكومة وتوج ذلك بقراره الأخير بتعيين وزيرة للاقتصاد.
والمحللون الغربيون يعتبرون الشيخ زايد ثائرا، قاد ثورة هادئة فى بلاده غيرت الحياة والمجتمع والناس، واستطاع بحكمته إنشاء اتحاد الإمارات وظل حريصا على استمراره وحمايته، وترك هذا الاتحاد وهو من القوة والتماسك بحيث لا يمكن أن يتعرض لهزة، والدليل على ذلك السرعة التى تم بها الاتفاق بالإجماع على اختيار الشيخ خليفة بن زايد ليكون رئيسا للاتحاد بعد الشيخ زايد. وتم انتقال السلطة بسلاسة وهدوء، وهذا يؤكد أن الشيخ زايد نجح نجاحا نادرا فى ترك بلاده فى حالة من الاستقرار والتوافق والرضا، وهذا ما يجعلنى أقول إن الشيخ زايد سوف يبقى حيا فى الإمارات وفى قلوب المصريين. ومهما قيل عن هذا الرجل العظيم فلن نوفيه حقه. فهو النموذج للعربى الأصيل، بشهامته، وحكمته، وبعد نظره، وبإيمانه بالله وبالإخوة العربية.
وقديما قال الشاعر العربى:
الناس صنفان: موتى فى حياتهم
وآخــرون ببطـن الأرض أحيـــاء
وهذا هو الشيخ زايد فهو بعد موته سيبقى حيا، بل سيكون أكثر حياة فى الضمير العربى من بعض الأحياء