نحن وأمريكا.. وبوش !
لم يكن فوز الرئيس بوش مفاجأة. كل من كان يراقب المناخ السائد فى أمريكا كان يتوقع أن يفوز تيار اليمين الدينى المتشدد الذى يمثله بوش ومجموعة مستشاريه.
بعد أن نجح بوش ومجموعة المحافظين الجدد فى تحويل المزاج العام للشعب الأمريكى من التسامح إلى التشدد، ومن سياسة التفاهم وحشد الأصدقاء إلى سياسة القوة، وممارسة الضغوط والاستهانة بالشرعية والقانون الدولى، وتهديد الأصدقاء والأعداء بشعار من ليس معنا فهو عدونا!
نجح الرئيس بوش فى إشعال النزعة الوطنية لدى أكثر من نصف الأمريكيين، وأثار فى نفوسهم الخوف بما كان يعلنه كل يوم عن التهديدات والأخطار التى تحيط بأمريكا وشعبها، وبتكرار أنه هو الرئيس القوى القادر على قيادة أمريكا وجيوشها إلى هزيمة (الأعداء) فى كل مكان فى العالم، والمنقذ للشعب الأمريكى من الإرهاب الذى يهدد الأمن القومى الأمريكى. ومن الواضح أنه استفاد من تجارب فى التاريخ القديم والحديث لزعماء ألهبوا المشاعر الوطنية وحشدوا شعوبهم خلف قيادتهم لمحاربة (أعداء) يهددون حياة المواطنين ويهددون كيان البلد ذاته. وهؤلاء الزعماء سجل لهم التاريخ نجاحا هائلا وصفه بعض المحللين بأنه كان أقرب إلى التنويم المغناطيسى الجماعى الذى يجعل الحشود تصدق ما تسمعه وتفعل ما يطلب منها دون وعى أو مناقشة.
وهذا ما جعل أغلبية الأمريكيين يغفلون عن خطورة وضع القوات الأمريكية فى العراق التى يصفها الخبراء بأنها (ورطة) ومأزق استراتيجى، ويغفلون عن التراجع الاقتصادى واستنزاف الأموال الأمريكية فى الحرب على العراق، وتزايد البطالة، حتى أن 2.7 مليون أمريكى فقدوا وظائفهم فى السنوات الثلاث الأخيرة وارتفاع الأسعار، وتزايد عدد الأمريكيين الذى يعيشون تحت خط الفقر، وتزايد العجز فى الميزان التجارى وعجز الميزانية الفيدرالية لدرجة أن صندوق النقد الدولى بدأ يحذر من هذا الوضع ويشير إلى القلق من استمراره. وغير ذلك من المشاكل الداخلية التى تمس حياة المواطن الأمريكى اليومية. بل جعلهم يغفلون عن الفضائح الأخلاقية التى تكشفت عن الفساد المالى الذى تورط فيه بعض المحيطين بالرئيس سواء فى شركة هاليبرن تون وأنرون، وغيرهما، وعن الفضائح السياسية بعد أن انكشف عدم صحة ما قاله الرئيس بوش مرارا عن أسلحة الدمار الشامل فى العراق، وعن علاقة العراق بالإرهاب وبتنظيم القاعدة وبوجود بن لادن فى العراق فى فترة من الفترات.. حتى قال بعض المعلقين إن هذه الرئاسة قامت على الأكاذيب.
لكن معظم الأمريكيين كانوا فى حالة يمكن تسميتها (حمى الوطنية) والحرص على مساندة الجنود الذين يحاربون معارك قيل لهم أنها دفاع عن أمن أمريكا وأمن الأمريكيين.
ومعظم الأمريكيين تغاضوا عن الحقائق التى اعترفت بها صحيفة هيرالد تريبيون فى افتتاحيتها يوم 10 سبتمبر الماضى حين قالت تحت عنوان (شخصية الرئيس): إن الأخطاء الجوهرية فى السياسة الأمريكية كانت بسبب عيب جوهرى فى شخصية بوش. فهو بالرغم من حديثه الصارم الذى يعكس القوة فى ظاهره يبدو غير قادر على اختيار الطريق الصحيح لإنقاذ تاريخه السياسى وهو بدلا من ذلك يجازف بالاستقرار الاقتصادى والمصداقية الدولية لأمريكا، وبدلا من التوجه إلى حل المشاكل الداخلية فإنه توجه إلى الشرق الأوسط لإعادة تشكيله ولتقديم مزايا مجانية لأصحاب النفوذ المسيطرين على صناعة البترول فى أمريكا. ولم يفعل شيئا لتحسين المدارس الحكومية التى يشكو الأمريكيون من تدهور التعليم فيها، أو لتنفيذ برنامج محاربة الإيدز، وجعل كل همه فى تحقيق انتصارات شكلية سريعة فى الخارج دون تفكير فى آثارها السلبية على أمريكا فى المدى الطويل، وعلى الرغم من تزايد أعباء الحرب على الميزانية العامة. فقد قام الرئيس بوش بخفض الضرائب على الأغنياء ذوى النفوذ ولم يفكر أن ذلك سيؤدى إلى أعباء ستدفعها الأجيال القادمة.
وليس لدى الرئيس الأمريكى – كما قالت هيرالد تريبيون – استراتيجية واضحة للخروج من العراق، وإن كان قد بدأ فى التراجع خطوة عن موقفه بإهانة الأمم المتحدة وشركاء أمريكا فى أوربا.
وفى تحليل هيرالد تريبيون لشخصية الرئيس بوش قالت إنه نشأ على أن يكون متميزا، ونجح فى البزنس والسياسة بسبب علاقات ونفوذ أسرته وليس بسبب عبقريته، فهو رجل محظوظ ولديه القدرة على أن يتجاهل الواقع الذى لا يريد أن يراه، ولهذا فهو لا يرى الصعوبات التى خلقها للعالم، ولا يرى أن سياسته أدت إلى جعل العالم منقسما ومليئا بالمشاكل والتوتر. لقد جعل الرئيس بوش العالم يعيش جو الأزمة، وأدت سياسته إلى جعل العالم أقل أمنا، والناس فى أنحاء العالم أقل أمانا.
استطاع بوش وصقور البيت الأبيض أن يفقدوا معظم الأمريكيين القدرة على التمييز ورؤية الحقيقة، حتى أنه ما زال يردد بأن أفغانستان أصبحت بلدا آمنا وديمقراطيا، وأن العراق تغير وأصبح على طريق الديمقراطية والاستقرار، فبينما العالم كله يرى عكس ذلك. ولعل ما بين السطور فى كلمة رئيس الوزراء البريطانى تونى بلير بتهنئة بوش اعتراف بضرورة التراجع والعودة إلى الشرعية الدولية وإلى الحلفاء فى أوربا، والتخلى عن السيطرة على مجلس الأمن والأمم المتحدة.
هذا المناخ السياسى المتوتر فى أمريكا بسبب الشعور بالخوف من الإرهاب الذى يغذيه الرئيس بوش يوميا، وهو ما يعطيه المبرر للقتل والتدمير فى العراق، هو ذات المناخ السياسى المتوتر الملئ بالخوف من الإرهاب الذى صنعه رئيس الوزراء الإسرائيلى شارون وجعل صيحات الحرب ونزعات القوة هى الغالبة بحيث أسكت أصوات دعاة السلام والعقل.. وهذا السيناريو هنا وهناك ليس سوى تكرار لما فعله زعماء فى التاريخ وحققوا انتصارات فعلا لكنها تحولت إلى هزائم بعد فترة.
والآن كيف ستكون مواقف العرب مع إدارة الرئيس بوش بعد أن تعهد باستمرار سياسته دون وعد بتغيير شىء منها؟
وماذا سنفعل والرئيس بوش ما زال معتقدا بأنه مبعوث العناية الإلهية وأن الله اختاره لرسالة سامية؟
بمنتهى الصراحة، لن يستطيع العرب أن يفعلوا شيئًا لإنقاذ أنفسهم من المصير الذى ينتظرهم إذا استمروا فى الحالة التى هم عليها الآن من السلبية واللامبالاة وانتظار ما تأتى به الأقدار، وإذا بقوا فى حالة الاستسلام على أمل أن يأتى الفرج من السماء، وماداموا متفرقين وكل واحد يبحث عن الخلاص لنفسه فلن يظفر بالنجاة أحد.. وإذا لم يسمع العالم صوتا واحدا للعرب.. جادا.. قويا.. مصمما على رفض سياسات الإهانة والهيمنة والاستغلال.. وإذا لم يشعر العالم بأن العرب لهم موقف موحد يمكن أن يؤثر فى موازين القوى وفى الأوضاع السياسية.. وإذا لم يتفهم العرب جميعا معنى ما قاله الرئيس شيراك يوما من أن فرنسا وأوربا يريدان مساعدة العرب بشرط أن يساعد العرب أنفسهم، لأن الله لا يساعد من لا يساعد نفسه.
إذا لم يستيقظ العرب من حالة الغفلة التى طالت أكثر مما يجب، فلن تتوقف الضغوط والحروب ضدهم فى الولايات المتحدة، ولن تتطوع إسرائيل وأمريكا بتقديم حل عادل وعاقل لمشكلتى العراق وفلسطين، وحتى لن تقدم أمريكا لهم المساعدات التى يلهثون من أجلها، لأن أمريكا لا تعطى إلا للقادر على التأثير، وهى لا تعطى صدقات، ولكنها تعطى صفقات! وما لم تكن لدى العرب أوراق فلن يحصلوا على شىء من أمريكا سوى الوعود. ولن يفيد أن يكرر العرب أنهم سيقومون بالإصلاح من الداخل وأنهم لا يريدون فرض الإصلاح من الخارج بالقوة إلا إذا أثبتوا أنهم قادرون ومصممون على ذلك.
ولن يفيد العرب أن يعلنوا عدم رضائهم عن سياسة الهيمنة الأمريكية بينما هم يعتبرونها الصديق الوحيد لهم دون أن يوثقوا علاقاتهم بأطراف دولية أخرى أكثر تفهما للحقوق العربية وأكثر تعاطفا معها.
إن استمرار الرئيس بوش ومجموعة المحافظين الجدد ذوى الفكر الإمبراطورى المؤمن بالقوة وحدها فى العلاقات الدولية قد يكون مدعاة للتشاؤم ، لأن البلاء الذى حل على العالم العربى سوف يستمر، ولكن من الممكن مقاومة هذا البلاء وإعادة العلاقات بين العرب وأمريكا إلى الطريق الصحيح لتسير على أساس المصالح المتبادلة والاحترام للسيادة الوطنية.
من الممكن أن يغير العرب موازين القوة.. إذا غيروا أنفسهم.. إذا!