رأيت وسمعت فى لندن ( 1 )
أحرص أثناء زياراتى إلى لندن على متابعة المناقشات فى مجلس العموم لأتعلم دروسا عملية فى كيف يمارسون الديمقراطية فى أعرق بلد ديمقراطى، ورأيى كيف تأتى المعارضة، وقد درست القضايا التى تثيرها دراسة كاملة بكل حقائقها وتفاصيلها، فلا تعارض لمجرد المعارضة والرفض، ولا تعارض لمجرد إحراج الحكومة أو تشويه صورتها، ولكنها تعارض ومعها الدليل والبرهان وهدفها الإصلاح.
تابعت هذه المرة معركة غريبة بالنسبة لنا، فقد لاحظت المعارضة أن شخصا بذاته يرافق وزير الحربية فى زياراته الرسمية للدول، وبحثت عن موقع هذا الشخص فى الحكومة، فاكتشفت أنه (رجل أعمال) صديق قديم للوزير، وليست له صفة رسمية تخول له مرافقة الوزير فى مهماته الرسمية التى تتعلق بمصالح الدولة، ولابد أن هذا الشخص يستغل وجوده مع الوزير لعقد صفقات لمصلحته الخاصة، ورد الوزير بأن هذا الشخص لا يعقد صفقات، ولم تقتنع المعارضة ورأت أن مجرد مرافقته للوزير يعطى للدول التى يزورها إيحاء بأن هناك اتفاقا بينه وبين الوزير فيما يعرضه من صفقات.. وتدخل رئيس الوزراء لإنقاذ الوزير واستمر يرد على المعارضة عدة جلسات.. والتليفزيون يعرض الجلسات والمناقشات الساخنة على الهواء، والصحف تنشر صورة هذا الشخص إلى جانب الوزير فى زيارات متعددة أثناء مقابلات مع رؤساء دول، ورؤساء وزارات ووزراء.. وعندما وجد الوزير نفسه فى مأزق وقف وأعلن اعتذاره عن قبوله مصاحبة هذا «الصديق» فى زيارات ولقاءات تخص الدولة، ولكن المعارضة لم تقبل الاعتذار واستمرت فى الهجوم.. وأخيرا لم يجد الوزير أمامه إلا الاستقالة فاستقال.. هذه هى «الطهارة» و«الشفافية» و«قوة الرقابة الشعبية» التى تمثل الديمقراطية.
***
وتابعت قصة «أبو حمزة المصرى» الذى هرب من مصر فى أواخر السبعينات فى وقت مطاردة العناصر التى تتبنى التشدد واستخدام العنف ومنحته بريطانيا حق اللجوء السياسى فى الوقت الذى كانت تفتح أبوابها لكل الهاربين من مصر، ومازالت تفعل ذلك إلى الآن.. وبعد سنوات حصل أبو حمزة واسمه الحقيقى مصطفى كمال مصطفى.. وتحول بعد ذلك إلى «داعية إسلامى متشدد» يلقى خطبة الجمعة، ويعطى دروسا فى المسجد، ويركز على الهجوم على المجتمع البريطانى ويصفه بأنه مجتمع كافر ويدعو إلى الاعتداء عليه ويحرض على التعامل مع المجتمع البريطانى على أنه «عدو» ورأس الكفر.. ولم تتحرك السلطات البريطانية ضده إلا بعد أن مضى بعيدا فى التحريض، ووقعت انفجارات فى أماكن متعددة فى لندن حتى فى محطة المترو، وسقط عشرات من المواطنين الأبرياء وهم فى طريقهم للعمل، وأخيرا قبضت السلطات عليه وقدمته للمحاكمة فحكم عليه بالسجن لإلقائه الخطب فى مسجد «فينسيرى بارك» فى شمال لندن، يحرض فيها على قتل غير المسلمين باعتبارهم كفارا ومشركين واستمر فى ذلك سنوات مستغلا الديمقراطية والمساحة الواسعة لحرية الرأى فى بريطانيا.. وتقدمت الحكومة الأمريكية بطلب إلى الحكومة البريطانية بتسليمها «أبو حمزة» لمحاكمته فى أمريكا على تهمة التحريض على ارتكاب جرائم الاعتداء على أشخاص ومنشآت فى أمريكا، ولأن القانون البريطانى لا يسمح بتسليم المجرمين بقرار من الحكومة مهما كانت الأسباب، فقد عرض الأمر على المحكمة العليا وتقدمت الحكومة الأمريكية بما لديها من أدلة، وبعد مرافعات ومداولات ومذكرات أصدرت المحكمة العليا أخيرا حكمها بجواز تسليمه إلى الولايات المتحدة للمثول أمام القضاء هناك بتهمة «الإرهاب» منها التحريض على خطف سياح أمريكيين فى اليمن والمشاركة فى إقامة معسكر لتدريب الإرهابيين فى أمريكا وتم ترحيله أخيرا..
كل شىء يتم بناء على قانون وبحكم القضاء، وحكم القضاء مقدس ولا يمكن أن تسمع كلمة من أحد فى الشارع تسىء إلى القضاء.. كلمة القضاء سيف.. ولا محل لمناقشة حكم نهائى صدر.. هذه هى الديمقراطية فى دولة كبرى.
***
وعلى ذكر قضية «أبو حمزة المصرى» تابعت على القناة الرابعة وهى قناة تليفزيونية غير حكومية تلتزم التزاما يثير الإعجاب بالقواعد المهنية وبميثاق الشرف ولا تقدم خبرا إلا بعد التأكد من صحته، ولا تقدم رأيا إلا من خبير فى الموضوع ولا تقدم رأيا عشوائيا من غير متخصص.. قدمت هذه القناة سلسلة تحقيقات متعمقة عن المسلمين فى بريطانيا.. قدمت شخصيات تشغل مواقع متميزة.. مديرى شركات.. مهندسين.. أطباء.. عمال فنيين.. واستعرضت الأحياء التى يعيشون فيها وكيف أنهم مندمجون فى المجتمع البريطانى ويحترمون ثقافته وتقاليده. ثم استعرضت أحوال جماعات من المسلمين المهاجرين من باكستان ودول إسلامية أخرى، وحصلوا على الجنسية البريطانية، وأصبحت لهم كافة الحقوق السياسية والاجتماعية (التأمين الصحى والضمان الاجتماعى والتعليم المجانى، والحق فى العمل.. والاشتراك فى الانتخابات.. إلخ)، ولكنهم يعيشون فى أحياء منعزلة لا يسكنها أحد غيرهم، ولهم مدارس خاصة تدرس مناهج بلادهم ولا تدرس المنهج البريطانى.. ويلبسون ملابسهم الوطنية، ويتكلمون بلغاتهم ولا يجيدون اللغة الإنجليزية ولا يندمجون فى المجتمع البريطانى.. ويرفضون الثقافة وأسلوب الحياة والتقاليد البريطانية.
وباختصار هم- كما قال المذيع- بريطانيون يرفضون بريطانيا (!) وفى النهاية تساءل المذيع: نحن لم نذهب إليهم.. هم الذين جاءوا إلينا.. فإذا كانوا يرفضون ثقافتنا وأسلوب حياتنا فلماذا جاءوا وطلبوا جنسيتنا؟.
سؤال معقول يطرح قضية قبول أو رفض المهاجرين للمجتمعات التى يهاجرون إليها، وهى قضية يتوقف عليها موقف الشعوب الغربية من الإسلام والمسلمين.. فإذا كان المسلمون يرفضون الغرب وعقائده ويوجهون إليه النقد والإدانة فكيف يطلبون من الغرب أن يقبلهم ويحترم ثقافاتهم وعقائدهم؟
سؤال لم أجد له إجابة.. لأن موقف هؤلاء المسلمين يدعو إلى الحيرة (!).
***
وتابعت خبرا طريفا، فبينما الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار وزيادة البطالة واستغناء الحكومة عن نصف مليون موظف لمعالجة العجز فى الميزانية، والحكومة تتعرض لانتقادات شديدة بسبب سياستها الاقتصادية وتتهمها المعارضة بالانحياز للأغنياء.. فى مناخ الأزمة قررت الحكومة تنفيذ مشروع لقياس معدل «السعادة» لدى البريطانيين لتقييم الحالة النفسية والبدنية للمواطنين ومدى شعورهم بالرضا عن حياتهم، ويبدو أن العدوى انتشرت فقد سبق أن قرر نيكولا ساركوزى الرئيس الفرنسى السابق إجراء هذه الدراسة بناء على توصية من اثنين من علماء الاقتصاد الحاصلين على جائزة نوبل هما جوزيف ستيجليتز وأماريناسين اللذان طالبا قادة العالم بإجراء مثل هذه الدراسة لقياس معدلات الرضا والاستقرار واستجابت لهذه الدعوة كندا، وقام مكتب الإحصاء الوطنى هناك بإجراء استطلاع حول شعور الكنديين بالرضا عن حياتهم.
الفكرة أن مهمة الدولة تقديم الرعاية والحماية لكل مواطن ليس فقط إلى الدرجة التى تشعره بالأمن على حياته وممتلكاته التى تحميه من الفقر والمرض والخوف من المستقبل، ولكن إلى الدرجة التى يشعر فيها بالسعادة فى حياته.. الحق فى السعادة حق من حقوق الإنسان فى هذه الدول.. تصور لو أن الحكومة المصرية قامت بإجراء مثل هذا الاستطلاع، ماذا ستكون النتيجة؟

 
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف