ذكريات يوم بالعمر كله
 يوم العاشر من رمضان.. كلما اقترب هذا اليوم أشعر أن دقات قلبى تزداد، وتعود إلى ذاكرتى أحداث هذا اليوم الذى لا يمكن أن أصف شعورى وشعور كل المصريين وهم يتابعون أحداثه دقيقة بدقيقة، وقلوبهم تكاد تتوقف من الانفعال.
فى هذا اليوم انتصف النهار، ولم يكن فى الأفق ما يشير إلى أن الحدث الذى عشنا ننتظره أياما وشهورا وسنوات يمكن أن يقع الآن، كنا فى صالة التحرير فى الأهرام، نتابع عملنا اليومى فى إعداد الأخبار والمواد للنشر، وبعد الساعة الثانية بدقائق دقت أجراس فى أجهزة استقبال البرقيات من وكالات الأنباء (التيكرز)، وعندما تدق أجراس هذه الأجهزة، فهذا يعنى إشارة للتنبيه إلى أنها بدأت تبث خبرا مهما، وجرينا إلى جهاز التيكرز فوجدنا برقية فيها سطر واحد: بدأت القوات المسلحة إطـلاق النار وعبور قناة السويس.
فى هذه اللحظة شعرت أنى على وشك أن أفقد الوعى.. وقف شعر رأسى واهتز بدنى وصعد الدم إلى أذنى، ولم أعرف فى هذه اللحظة إن كنت أقف على الأرض أو أطير فى الفضاء.. وتنبهت على صيحات زملائى فى صالة التحرير: الله أكبر.. الله أكبر، واستعدنا هدوءنا بعد ذلك، وبدأنا فى تغيير صفحات الأهرام وتلقى تعليمات الأستاذ هيكل رئيس التحرير، كان هيكل فى مكتبه وكأنه فى غرفة العمليات، كان واضحا أنه يعلم كل شىء، لم تظهر عليه المفاجأة، وكان يتصرف وكأنه أعد كل شىء من قبل، وأذكر أن كل برقية وكل خبر نتلقاه نبلغه إليه فنجده على علم بكل تفاصيله، واكتشفنا بعد ذلك أنه هو الذى كتب الأمر الاستراتيجى بالقتال الذى أصدره الرئيس السادات إلى القائد العام للقوات المسلحة، وهو الذى أدار سياسة الإعلام.. فى هذه الأيام مع الرئيس السادات ومع الدكتور عبد القادر حاتم.
يومها لم يفكر أحد من الزملاء فى الذهاب إلى بيته، ولم يفكر أحد فى طعام الإفطار، وتحول الصحفيون وعمال المطبعة إلى جنود فى الجبهة، كان الاحساس بالمعركة يملأ نفوس كل من فى الأهرام، وكان الحماس والشعور الوطنى والرغبة فى التضحية لدى كل واحد.
وخرج بعض المندوبين للتجول فى شوارع القاهرة، وإعداد تحقيقات عن الشارع فى هذه اللحظات، وكانت تقاريرهم والصور التى التقطوها تفوق ما يمكن تصوره، ذهبوا إلى المجمعات الاستهلاكية التى تقف أمامها الطوابير كل يوم للحصول على اللحم المدعم والفراخ والسكر ولوازم رمضان، ففوجئوا بأنه لا توجد طوابير.. أين ذهب الناس الذين كانوا يتقاتلون من أجل كيلو سكر.. غمرهم إحساس بالمسئولية.. بأنهم فى حرب، ولابد أن يشاركوا وأن يضحوا، وأن يتنازلوا عن لوازم رمضان التقليدية، ويقضوا أيامهم كما يقضيها الجنود وسط النار والدبابات والطائرات، لا أحد يفكر فى بطنه فى هذه الأيام.. وتجمع شبان كل حى يبحثون عن مراكز التطوع ويلحون فى طلب الذهاب إلى الجبهة.
وكانت ملحمة بمعنى الكلمة.
كان المصريون فيها وكأنهم رجل واحد، لم تتردد نكتة أو شائعة. لم يفكر أحد فى أن يفتح الراديو على إذاعة أجنبية. لم يتذمر أحد من ارتباك المواصلات. وذهبوا إلى أعمالهم سيرا على الأقدام دون كلمة. ولم يتهرب أحد من مسئوليته. فى لحظة تحول جميع المصريين إلى أبطال، وبعد ذلك كان الجيران يهنئون من يتلقى منهم خبر استشهاد ابنه، فهو شهيد فى أعلى منزلة، وهو شفيع لأبيه وأمه يوم الحساب، وهو فى سجل الخالدين، وموضع فخر لأبنائه وأهله.. ابنى استشهد فى سيناء، ابنى عبر مع الجنود.. ابنى هناك فى الجبهة.. شعور بالفخر.. ولم يكن غريبا أن تتلقى المطربة شريفة فاضل نبأ استشهاد ابنها فتذهب إلى الإذاعة لتسجل أغنية لتمجيد الشهداء وإعلان شعورها بالفخر لأنها أم البطل.
وكذلك فعل المطربون والملحنون والمؤلفون.. ذهبوا إلى الإذاعة يكتبون ويلحنون ويسجلون الأناشيد والأغانى الوطنية دون أن يطلبوا أجرا ليعبروا عن مشاعرهم ومشاعر المصريين.
وفى هذا اليوم لم تسجل أقسام البوليس محضرا واحدا لواحد من اللصوص، أو مشاجرة أو بلاغاً من أى نوع، حتى المجرمون واللصوص شعروا بأن هذه أيام لا يمكن ارتكاب جريمة فيها.. فهى أيام للشرف والشرفاء يسجلون هناك فى سيناء انتصاراتهم ويدفعون الثمن بالدم والروح.
وعندما جاء العيد لم تظهر الطوابير المعتادة على السكر والدقيق والمكسرات ولم تزدحم الأفران كالعادة من أجل كعك العيد، كان العيد هو عيد النصر، وكانت التهنئة بالنصر، وكان فى الشعور بالنصر واستعادة سيناء ما يغنى عن كل ما تعود الناس عليه من الإسراف فى رمضان والعيد، وتبين أن الكرامة عند المصريين أغلى وأهم من ضروريات الحياة.
وعشنا فى الأهرام أياماً لا تنسى نتابع فيها أنباء المعارك لحظة بلحظة، ونلخص ما نشرته الصحف الأجنبية على لسان الخبراء العسكريين الغربيين والقادة الإسرائيليين عن التغير فى مستوى الأداء العسكرى للمصريين فى ميدان القتال، وعن الاستراتيجية القتالية الجديدة للجيش المصرى، وعن روح القتال المذهلة لدى الضابط والجندى، وهذه الصحف هى نفسها التى كانت قبل ذلك بأيام تتحدث عن التفوق العسكرى والتكنولوجى للجيش الإسرائيلى، وعن عبقرية الإسرائيليين فى زرع أنابيب النابالم تحت القناة لكى تشعل سطح القناة نارا إذا بدأ المصريون العبور، وعن خط بارليف وفيه 35 نقطة لم يشهد التاريخ العسكرى مثلها قبل ذلك، ولا يمكن تدميرها إلا بالقنابل الذرية، وعن استراتيجية إسرائيل المتفوقة وقواتها المستعدة فى سيناء، ومخابراتها التى لا مثيل لها..و..و.. وتغيرت اللهجة فى يوم واحد.. وبدأت نغمة جديدة فى هذه الصحف.. بدأت تقول: إن إسرائيل تدفع الآن ثمن سياسة الغرور والقوة وتدرك فشل إصرارها على الاستمرار فى العدوان والتوسع، وتفهم أن نظريتها عن الأمن غير صحيحة، وأن الاستيلاء على الأراضى لن يحقق لها الأمن، وتفوقها العسكرى لم يمنع أصحاب الأرض من استردادها مهما كانت التضحيات.
وأذكر أن بعض عناوين الصحف العالمية الكبرى كانت تقول: (أحلام القادة الإسرائيليين تحطمت) و(أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر انهارت).
وبدأت الصحف الأمريكية تتحدث عن إنقاذ إسرائيل من نفسها ومن غرورها، وامتلأت الصفحات الأولى بصور المظاهرات فى أنحاء العالم تؤيد حق العرب فى استرداد أرضهم والعيش فى سلام، وتندد بسياسة إسرائيل التوسعية..
هكذا تغيرت صورة مصر والعرب فى الغرب.. وكان أكبر الدروس أن تجميل صورة العرب لا يمكن أن يكون بالإعلام والقنوات الفضائية، ولكن بالأعمال والتضحيات.. بالرجال العظـام.. بالأبطـال.. الأبطـال هم الذين يغيرون مسار التاريخ.. وهم الذين يصنعون التاريخ.
ومن عاش هذا اليوم لا يمكن أن ينساه مهما طـال الزمن.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف