أصدقاؤنا فى أوربــا
لماذا جاءت زيارة الرئيس مبارك إلى إيطـاليا وفرنسا فى هذا الوقت ووسط قضايا الداخل والخارج الملحة التى تستهلك طـاقة ووقت الرئيس يوميا؟
اختيار إيطـاليا وفرنسا كان مقصودا، واختيار الوقت كان بسبب الأزمات التى تصاعدت فى العالم العربى ووصلت إلى درجة لا يمكن احتمالها، ولا يمكن السكوت عليها، والإدارة الأمريكية تقدر على حل هذه الأزمات لأنها هى التى صنعتها منذ البداية، لكنها مشغولة بانتخابات الرئاسة التى اقترب موعدهـا فى 2 نوفمبر والرئيس الأمريكى فى آخر خط دفاع يحاول تبرير سياساته التى دمرت العراق، وأفغانستان، ونشرت التوتر والإرهاب، ولم تحقق شيئا.. لااستطـاع القضاء على الإرهاب، ولا على تنظيم القاعدة، ولا على أسامة بن لادن، ولاعلى أبى مصعب الزرقاوى، ولا جعل العالم أكثر أمنا كما ادعى.
لا يستطيع مبارك-بحكم مسئوليته ومكانته-أن يجلس ساكنا فى انتظار انتهاء المعركة الانتخابية فى أمريكا وحلف اليمين وإعادة ترتيب الأوراق فى الإدارة الأمريكية سواء نجح بوش أو كيرى، لا يستطيع الانتظار والأوضاع فى العراق وصلت إلى درجة الانهيار، وتحقق ما كان يحذر منه قبل عملية الغزو، ولعل الإدارة الأمريكية تراجع تصريحات مبارك المتكررة قبل غزوها للعراق، فقد كان يحذر من أن هذا الغزو سيؤدى إلى فقدان الاستقرار ونشر الإرهاب فى المنطقة.. وقد كان! وحذر شارون من أن سياسته بالضغط العسكرى والقتل والتدمير لتصفية المقاومة الفلسطينية لن تحقق هدفها، ولن يتحقق الأمن لإسرائيل بقتل الآلاف أو بإقامة سور عازل أو باغتصاب المزيد من الأراضى وفقا للنظرية القديمة التوسعية بحجة الأمن لإسرائيل.
لم يكن ممكنا أن ينتظر مبارك بعد أن أجرى اتصالات يومية مع جميع الأطراف، وبعث رسائل ووفودا، وكان لابد أن يطير إلى إيطاليا لكى يقنعها بالتحرك داخل الاتحاد الأوروبى لإنقاذ الاستقرار والسلام، وإلى باريس لكى يجرى مشاورات مباشرة مع الرئيس الفرنسى شيراك.
وأعتقد أن رسالة مبارك التى أطلقها من روما وباريس وهى موجهة إلى دول العالم جميعها، ملخصها: إذا كنتم تريدون القضاء على الإرهاب حقا، فقد أخطأتم الطريق إلى ذلك، لأنكم تعملون للقضاء على النتائج، ولم تبدأوا البداية المنطقية الصحيحة بالقضاء على الأسباب التى جعلت الإرهاب يتفجر على هذا النحو الخطير.
والأسباب ليست مجهولة، ولكن يتم تجاهلها من بعض الدول وبعض القادة، لأن الوهم يسيطر على عقولهم بأن القوة وحدها كفيلة بالقضاء على الإرهاب، بينما أول دروس التاريخ يعلم من يريد أن يتعلم أن كل فعل له رد فعل، وبالتالى فإن استخدام القوة المفرطة للاعتداء على الشعوب لابد أن يؤدى إلى ظهور قوة إرهـــــاب مفرطة أيضــا. وما يحدث فى العراق وفى فلسطين من مذابح وعمليات تدمير وقتل عشوائى للأطفال والنساء والشيوخ دون تمييز، وتحويل الحياة فى البلدين إلى جحيم يومى، لابد أن تكون نتائجه وصول الناس العاديين إلى درجة الانفجار.
ودرس التاريخ يقول: إن جميع دول العالم دون استثناء قاومت الاحتلال حين وقعت تحت الاحتلال.. أمريكا قاومت بالسلاح الاحتلال البريطانى وحصلت على الاستقلال وتحتفل به يوم 4 يوليو كل عام.. وفرنسا قاومت الاحتلال الألمانى فى الحرب العالمية الثانية وأصبح ديجول ورجاله أبطال المقاومة والتحرير، ومصر قاومت بالسلاح الاحتلال البريطانى.. والجزائر قاومت الاحتلال الفرنسى ودفعت ثمن الاستقلال مليون شهيد! والعراقيون أيضا يقاومون الاحتلال العسكرى لبلدهم، والفلسطينيون يقاومون الاحتلال الإسرائيلى.. ومقاومة الاحتلال عمل مشروع وفقا للقانون الدولى، وقرارات الأمم المتحدة، ووفقا لمبادئ الأخلاق ودوافع الوطنية.
وعلى ذلك فإن جميع الدول الحريصة على إعادة الاستقرار إلى العالم، عليها أن تتجمع، وتعمل معا على إنهاء الاحتلال وإقامة العدل وإعادة الاحترام للمبادئ الأخلاقية والقوانين الدولية.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد جمدت سعيها إلى تنفيذ ما وعدت به عن خريطة الطريق وإقامة الدولة الفلسطينية، واختارت الانحياز إلى إسـرائيل وتأييدها فى عدوانها على الشعب الفلسطينى، فماذا بقى أمام العرب؟ وكذلك إذا كانت الإدارة الأمريكية تعمل على تصعيد عدوانها على الشعب العراقى يوما بعد يوم حتى تكاد دولة العراق أن تتحول إلى أنقاض وتصبح دولة أشباح فما العمل؟
ليس هناك طريق سوى التشاور مع دول أوربا، ولنا فى أوربا أصدقاء يمكن أن يساعدونا، ويمكن أن نعتمد عليهم، ولهم مواقف نبيلة من رفض العدوان على شعب العراق وشعب فلسطين، ولن ننسى مواقف فرنسا وألمانيا من رفض غزو العراق واستمرار الاحتلال الأمريكى فيها.
وفى مرحلة من المراحل كان التصور أن الولايات المتحدة وحدها هى التى بيدها الحل، وأن السلام والاستقرار والتنمية والأمل مرهون بإرادة الولايات المتحدة دون سواها. هذا التصور لم يعد واقعيا. هناك قوى عالمية يمكن أن تقف إلى جانب الحق والقانون والشرعية والعدل، وأوربا الآن قوة سياسية مؤثرة، وهى جار للدول العربية، ولها مصالح فى المنطقة العربية، وتربطها علاقات ثقافية وتاريخية بالمنطق، ويضاف إلى ذلك أن دول أوربا تعمل بميراث حضارى وأخلاقى كبير وبرؤية واقعية ترى واقع المنطقة كما هو وتدرك خطورة الوضع الحالى وضرورة العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبالأساس إنقاذ الإدارة الأمريكية الحالية من نفسها، ومساعدتها على الخروج من الورطة التى تورطت فيها فى العراق بما يحفظ لها كرامتها ويحفظ للشعب العراقى حقوقه.
ولقد اعترف رئيس الوزراء الإيطالى برلسكونى بأن السبب فى كراهية الشعوب العربية لإسرائيل والولايات المتحدة ودول أخرى هو موقفها من النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، وكنا نتمنى أن يضيف إلى ذلك موقفها من غزو العراق.
أما الرئيس الفرنسى شيراك فهو الصديق الذى يتفهم قضايا العرب العادلة، ويعلن بشجاعة رفضه لكل الاعتداءات الموجهة إليهم.
فى أوربا لنا أصدقاء عقلاء ومتحضرون، يحترمون مبادئ الحرية والعدل، ويمكن أن يكون لهم تأثير فى السياسة الدولية، من خلال الاتحاد الأوروبى، ومن خلال المواقف الجادة لحكوماتهم، ولنا أيضا فى الولايات المتحدة من يتفهمون ويعرفون معنى الإنصاف، وهؤلاء يقودون الحملة لكشف الأكاذيب والأخطاء التى تقيم عليها الإدارة الأمريكية سياستها الخارجية تجاه العالم العربى، ويسمون هذه السياسة سياسة الخداع الشامل، ويعلنون بوضوح أن سياسة الإدارة الحالية جعلت العالم أكثر خطورة.
أصدقاؤنا يتفهمون رسالتنا إليهم.. يجب ألا تكون أرواح ودماء العرب هى الثمن لفوز الرئيس بوش بفترة رئاسة ثانية.. وألا يكون تدمير العراق وقتل وتدمير ما تبقى فى فلسطين ثمنا لتأييد إسرائيل واللوبى الصهيونى.
ولابد أن نتواصل مع الأصدقاء فى أوربا وفى آسيا وفى أفريقيا وفى أمريكا أيضا حتى يمكن حصار العدوان ووقف الجموح فى السياسات، ومن أجل إعادة الاستقرار والسلام.
لنا فى أوربا أصدقاء يعملون معنا لإعادة العقل إلى النظام العالمى الجديد. وهؤلاء يجب أن نذهب إليهم دائما ونستمر فى التشاور والتنسيق معهم، فهذا أجدى من الوقوف أمام باب واحد أغلق منذ أربع سنوات!*