مــن سينتــصر.. البيــــروقـــــراطية أو الحكومة الإلكترونية ؟
نحن سعداء لأنه أصبحت لدينا أخيرا حكومة تقول: إنها ستصبح حكومة إلكترونية. وإن كنا حتى الآن لا نعرف ما هو المقصود بالحكومة الإلكترونية؟! هل المقصود أن تستورد مصر بمليارات الدولارات أجهزة كمبيوتر لإنقاذ صناعة الكمبيوتر والبرمجيات فى أمريكا من أزمتها التى هددتها بالإفلاس أكثر من مرة؟ أو المقصود أن تستمر متاعب المواطن المصرى مع الأجهزة الحكومية والتعقيدات الإدارية واللوائح والنظم القديمة المعقدة والغامضة التى يفسرها ويطبقها كل موظف بحسب مزاجه مع اختلاف واحد هو أن يصبح عذاب المواطن على يد موظف يستخدم الكمبيوتر بعد أن كان يستخدم الورقة والقلم وختم النسر؟
إن مسألة إدخال الكمبيوتر وشراء كميات هائلة منها، وإنعاش الشركات الأجنبية المنتجة لها، شىء جميل، ويعطى المظهر الحضارى للأداء الحكومى، ولكن ما يهم المواطن ليس المظهر.. بل الجوهر المواطن لا يهمه أن تؤدى له الخدمة إلكترونيا أو يدويا، وكل ما يهمه أن تؤدى له الخدمة كاملة، وبسرعة، ودون أن يدفع فى السر أو العلن ما يرهقه ويزيد عليه الهموم والمتاعب.
ما يهم المواطن هو أن يتعامل مع جهاز حكومى له نظام مبسط، معروف ومعلن، بحيث يستطيع أن يرتب أموره وأوراقه مع هذا النظام، ويطالب بحقه وفقا له، ولكن الواقع الآن شىء مختلف، فالقواعد تعتبر من الأسرار التى لا يعلمها سوى الموظفين، واللوائح معظمها يرجع تاريخه إلى سبعين سنة أو أكثر، والمسألة الواحدة يحكمها أكثر من قانون وأكثر من لائحة وأكثر من قرار جمهورى أو وزارى أو إدارى، وفى كل مصلحة حكومية سماسرة مهمتهم التشهيلات، ولا يستطيع مواطن إنهاء مصالحه بدون الاستعانة بهؤلاء السماسرة، والخضوع لعمليات الابتزاز التى يجيدون استخدامها. حتى تقديم طلب للحصول على خدمة لا يستطيع مواطن حاصل على الدكتوراه أن يكتبه وحده، ولابد أن يستعين بالكاتب العمومى الجالس على باب المصلحة ولأنه الوحيد الذى يعرف كيف (تمشى) الورقة، وكيف (تقف). ولكى تمشى الورقة بسرعة فإن السعر يختلف، وربما يكون نظام الكشف عند الأطباء قد انتقل إلى الكتبة العموميين والموظفين العموميين، فالكشف المستعجل له سعر، والكشف العادى له سعر.
مشكلة المواطن أنه لا يوجد كتيب فيه كل ما يتعلق بالخدمة، كما فعلت وزارة الداخلية حين أصدرت دليلا للخدمات التى تقدمها للمواطنين، ووزارة الداخلية المصرية تتميز عن غيرها فى العالم بأن مهمتها لا تقتصر على حفظ الأمن، ولكنها تقدم خدمات للمواطنين فى حياتهم منذ قيد الميلاد، إلى استخراج البطاقة الشخصية، وحالات الزواج والطلاق، وإصدار تراخيص السيارات والقيادة، وتنفيذ الأحكام، والإشراف على السجون، وإصدار صحيفة الحالة الجنائية، وتصريح العمل، وجواز السفر، وأداء الحج والعمرة، وكثيرا ما يقف المواطن حائرا أمام كيفية الحصول على الخدمة إلى أين يذهب؟.. ما هى الإجراءات؟.. وما هى الأوراق المطلوبة؟.. وما هى الخطوات اللازمة واحدة واحدة؟.. متاهة كبرى لا يمكن التحرك فيها بدون دليل.. ولذلك فإن الدليل الذى أصدرته وزارة الداخلية يفيد المواطن.. وأفادنى أنا شخصيا فى بعض الحالات.. لأنى مثل أى مواطن ليس مفروضا أن أعلم كل شىء عن كل مكان فى مصر.. لكن معظم الوزارات احتفظت لموظفيها بالسر الأعظم ليفعلوا بالمواطنين ما يشاءون.
المشكلة هى التعقيدات فى الجهاز الحكومى. والغموض. وكثرة القواعد. واحتكار المعرفة.
والمشكلة الكبرى هى الموظف. هناك رواسب تاريخية قديمة جعلت الموظف المصرى يشعر بأهمية خاصة، ويمارس سلطته بطريقة تعسفية واستبدادية، وينعكس ذلك على الأمثال المصرية: (الميه لا تجرى فى العالى) أى أنه ليس من الحكمة أو المصلحة معاداة من بيده الأمر من موظفى الحكومة لأنهم فى (العالى)، و (يا بخت من كان النقيب خاله) أى الواسطة التى لا تسير مصالح المواطن بدونها. ومن الرواسب النفسية أن موظفى الحكومة أصبحوا بمرور الزمن مجموعة تدافع عن مركزها ومصالحها بغض النظر عن الأعمال التى يقومون بها، وموظف الحكومة لأنه محصن ضد المحاسبة تقريبا، ومحصن ضد العقاب والفصل بكل تأكيد، لذلك فهو يشعر بقوة غير عادية، ولا يجد حرجا من أن يقول للمواطن.. روح اشتكى.. اخبط دماغك فى الحيط.. فتّح مخك.. شوف مصلحتك..
ثم إن البيروقراطية المصرية لديها أسلحة أقوى من أسلحة الحكومة الإلكترونية، لتحصل على مكاسب من كل طريق، وتركز السلطة فى يدها.. تعطى وتمنع، تعطل وتسهل، لكى تعطى لنفسها وزنا كبيرا، والنتيجة أن الجهاز البيروقراطى المصرى جهاز استهلاكى أكثر منه جهازا إنتاجيا، ويعمل لنفسه فى أغلب الحالات رغم أنه مأجور للعمل فى خدمة المواطنين.
سيكولوجية البيروقراطية الراسخة هى سيكولوجية القبيلة، وهى تقاتل للإبقاء على الركود، ومقاومة التغيير، والالتفاف على التعليمات وعلى القانون، أما فى القرية فإن البيروقراطية تحكم حكما مطلقا بلا معقب ولا تقبل سوى الخضوع الكامل من المواطن المسكين.
هل تستطيع الحكومة الإلكترونية أن تقضى على سطوة الحكومة الموازية.. الحكومة الخفية.. الحكومة البيروقراطية؟.
هل تستطيع أن تغير الموظف؟.
بعض الخبراء يؤكدون - بناء على تجارب كثيرة سابقة - أن إصلاح الجهاز الإدارى فى مصر صعب لما اكتسبه من حصانات سيكولوجية وقانونية لها سمات خاصة، ولما استقر عليه المصريون - بعد طول الزمن والخبرة - من استسلام للموظفين، والتعامل معهم بشروطهم وبما يرضيهم، بالواسطة، ببطاقة توصية، بهدية، برشوة مالية أو عينية مباشرة أو عن طريق وسيط، وهذا السرطان ضرب فى الجهاز الحكومى فلم يعد مقصورا على صغار الموظفين، والقضايا الأخيرة لابد أن تثير الانتباه وتدعو للعمل، فهى جرس إنذار يدوى فى المجتمع. مشكلة المشاكل هى التراث الذى ورثه الموظفون، وجعلهم قادرين على إجهاض وإحباط كل إصلاح، تتغير اللوائح ولكن أساليبهم لا تتغير، والأمثلة كثيرة فى الضرائب والجمارك والإدارات الهندسية فى المحليات وفى أجهزة الرقابة على التموين وأجهزة التفتيش عموما، وما يتعلق بالمشتريات والمقاولات والمناقصات والمزايدات.. الخ وتجارب الوزارات السابقة التى حاولت إعادة الانضباط أو تحقيق الثورة الإدارية أثبتت أن الموظفين أقوى من هذه المحاولات. البيروقراطية المصرية مصابة بالشيزوفرينيا، وأهم أعراض هذا المرض الخوف من التغيير، وعدم القدرة على التجاوب والمبادأة، والسلبية، والاكتفاء بأحلام اليقظة التى تحقق لصاحبها الراحة والشعور بالرضا وبالعظمة.. فما هو العلاج؟
دهشت عندما قال لى الدكتور محمد المدنى أستاذ العلاج النفسى بطب الأزهر إنه يقود مجموعة من الخبراء فى البحوث والعلاج النفسى مهمتها دراسة سيكولوجية الشركة أو المؤسسة أو المصلحة لاكتشاف الأعراض النفسية السلبية السائدة فيها ووضع خطة للعلاج، والفكرة أن الشركة أو المصلحة أو الوزارة معرضة للإصابة بالأمراض النفسية واختلال الوظائف العقلية واضطرابات الشخصية تماما كما يصاب بها الإنسان الفرد.
فهل تستطيع الحكومة الإلكترونية علاج هذه الأمراض المزمنة بآلاف أجهزة الكمبيوتر والبرمجيات والأجهزة الرقمية؟.
أظن أنها تستطيع إذا نظرت إلى المسألة نظرة متكاملة: تغيير النظم، والقوانين والقرارات الحاكمة، وتغيير أسلوب العمل، وتغيير عقلية وشخصية الموظف، وغرس قيم وتقاليد جديدة للوظيفة.. طبعا مهمة صعبة.. ولكنها ليست مستحيلة.