قرار واحد يحل مشكلة الفقراء
فى مؤتمر الحزب الوطنى طرحت حلول كثيرة لمواجهة مشكلة الفقر فى المجتمع المصرى، وكلها حلول عملية ومضمونة، وبعضها يمكن تنفيذه الآن، وبعضها الآخر يحتاج إلى وقت قد يطول حتى تظهر آثارها، والفقراء بحكم الحالة التى يعانون منها لا يستطيعون الانتظار طويلا، وليس من مصلحة المجتمع أن تستمر أوضاعهم على ما هى عليه.
ولا أدرى لماذا نسى الجميع الفكرة التى سبق أن طرحها المفكر الاقتصادى (هيرناندو دوسوتو) عندما دعاه المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، وتحدث مع مجموعة من الخبراء والاقتصاديين المصريين عن رأس المال غير المستغل ومحدودى الدخل فى مصر.
وقد لخص الدكتور أحمد جلال المدير التنفيذى للمركز أفكار (دوسوتو) فى أن قليلا منا يدركون أن الفقراء فى الدول النامية يملكون قدرا كبيرا من العقارات والأعمال، ولكن مشكلتهم أن هذه الملكية غير مسجلة رسميا، وذلك مما يسبب صعوبات لهم فى بيع أو شراء هذه الأصول أو الاستفادة الكاملة من قيمتها الحقيقية فى السوق، وإذا ساعدنا هؤلاء الفقراء على تسجيل ممتلكاتهم بسهولة ودون أن نثقل كاهلهم بالإجراءات والرسوم، فإن ذلك سيؤدى إلى زيادة دخلهم، وزيادة الفرص أمامهم للعمل، وسيؤدى ذلك فى النهاية إلى حل مشكلة الفقر من ناحية،وزيادة التنمية فى المجتمع ككل.
والغريب أن المفكر المعروف (هيرناندو دوسوتو) لقى ترحيبا وتقديرا لمكانته العلمية وخبرته فى مجالات الصناعة والاقتصاد. إلا أن حديثه ذهب- كالعادة- إلى النسيان، ولم يتبق منه سوى كراسة سجل فيها المركز المصرى للدراسات الاقتصادية مادار فى المحاضرة وما أعقبها من مناقشات، وللعلم فإن (دوسوتو) رئيس لمعهد متخصص فى الدراسات الاقتصادية فى بيرو، وهو رئيس لعدد من شركات التعدين، وكان يشغل منصب المستشار الأول لرئيس جمهورية بيرو، وكان مسئولا عن إعداد 400 قانون ولائحة تنفيذية، مع خبراء المعهد الذى يرأسه، وقد ساعدت هذه التشريعات على تحديث النظام الاقتصادى والسياسى فى بيرو، وأدت إلى زيادة المشاركة من الأغلبية التى كانت محرومة من المشاركة، ومن المناصب العديدة التى شغلها (دوسوتو) منصب محافظ البنك المركزى فى بيرو. ومنصب المستشار لاتفاقية الجات، ومنصب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة الدول المصدرة للنحاس، ورئيس المجموعة الاستشارية المصرفية السويسرية، وله كتاب بعنوان (المسار الآخر) The Other Path ترجم إلى عدد من اللغات وتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعا الصادرة عن صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية.
وتجربة هذا المفكر الاقتصادى العالمى جعلته ينصح مصر بأن تستفيد من نموذج النمو الذى نجح فى دول شرق آسيا، وهو نموذج قائم على استراتيجية تشجيع الدولة للصادرات كثيفة العمالة، وزيادة الإنفاق الحكومى على التعليم والخدمات الصحية، والبداية لذلك هى دراسة أحوال الفقراء، وسوف تكون مفاجأة للاقتصاديين الذين يضعون النظريات من مكاتبهم، أن يكتشفوا أن الفقراء فى الدول النامية يملكون من العقارات والأصول أكثر مما يتصورون، ومشكلتهم أن رأس المال الذى يملكه ملايين الفقراء يعتبر (رأس مال ميت)، لأنه غير مستغل اقتصاديا، والسبب فى ذلك أنه رأس مال لا يمكن التعامل فيه مع الجهات الرسمية، ولا يمكن تحديده بسهولة، أو تبادله بشكل قانونى، ونتيجة لعدم وضع هذه الأصول والممتلكات فى الإطار القانونى أن أصحابها لا يستطيعون الاستفادة منها فى التعامل فى السوق لزيادة نطاق أعمالهم وزيادة مواردهم، فهم مثلا لا يستطيعون الحصول على قروض أو تسهيلات أو ضمانات من البنوك بضمان هذه الأصول، ولا يستطيعون التصرف فيها بالرهن، والحل هو تحويل رأس المال غير الرسمى إلى أصول مسجلة رسميا، وبذلك يتمكن أصحابها الفقراء من أن ينتقلوا من هامش الحياة الاقتصادية إلى وضع جديد يصبح لهم فيه دور معترف به وتفتح أمامهم الفرصة لزيادة مساحته مع الوقت..
وكان السؤال أمام (دوسوتو): هل ينطبق ذلك على مصر؟.. وأثار دهشة الجميع عندما ذكر أرقاما تشير إلى أن 90% من الملكية العقارية فى المدن و87% فى الريف مازالت غير رسمية، وأن أكثر من 64% من هذه الثروة العقارية مملوك للفقراء. وأن قيمة هذه الثروة العقارية لا تقل عن 240 مليار دولار، أى أنها تزيد 30 مرة على القيمة الأسمية للشركات المسجلة فى البورصة، وتساوى 55 ضعفا لقيمة الاستثمار الأجنبى المباشر فى مصر، وتزيد 116 مرة على قيمة شركات القطاع العام التى تمت خصخصتها بين عامى 1992-1996.
وهذه الثروة هى التى يسميها (رأس المال الميت) وإذا ساعدنا الفقراء على تسجيل أملاكهم الصغيرة (قطعة أرض- أو بيت صغير- أو غير ذلك) فسوف نفتح أمامهم بابا يساعدهم على تحسين أحوالهم ويدعم برامج الإصلاح الاقتصادى قطعا، وقد تحدث (دوسوتو) عن النجاح الذى تحقق فى بيرو نتيجة لهذه الخطوة، وتساءل: ما الذى يمنع من أن تنفذ مصر هذا المشروع؟.
ولا يمكن تجاهل الآثار السلبية لبرنامج الإصلاح الاقتصادى على الفقراء، ولذلك فإن الدول التى تنفذ هذا البرنامج تعمل فى نفس الوقت وبخطوات متوازية على تخفيف هذه الآثار السلبية، ومن هذه الخطوات تمكين الفقراء من التعامل رسميا فى الأصول الصغيرة التى يملكونها، ولا يملكون حقوق الملكية الرسمية لها، وإذا تم تسجيلها فسوف ترتفع قيمتها وتتحول إلى رأس مال مستغل ونشط، فالبيت الصغير الذى يملكه الفقير لن يكون مفيدا للسكن فقط، ولكنه سيكون (الضمان) الرسمى للحصول على قرض يوظف فى مشروع صغير وهكذا، لأن اقتصاديات السوق ليست سوى مؤسسات تعمل على تسهيل تبادل الممتلكات بشرط أن تكون حيازتها مسجلة رسميا.
ولقد تحدث (دوسوتو) عن الأعباء التى كان يتحملها الفقراء فى بيرو نتيجة عدم تسجيل ما يملكون وتعرضهم للسطو والابتزاز من الشرطة والموظفين العموميين.
وطبعا لا يمتلك كل الفقراء عقارات، ولكن الفقر له مستويات، وقطاع كبير من الفقراء لديهم ما يملكونه ويعانون من مشكلة عدم قدرتهم على إثبات هذه الملكية رسميا للجهات الرسمية والبنوك، أما الفقراء الذين لا يملكون شيئا فهؤلاء يمكن تحسين أحوالهم وإدماجهم فى التنمية بوسائل أخرى مثل تسهيل حصولهم على قروض صغيرة بدون ضمانات (مع احتمال عدم تحصيل جانب منها وفى هذه الحالة يعتبر إعانة)، أو بتجميع عدد منهم للاشتراك معا فى مشروع واحد.. على غرار ما يفعله بنك الفقراء فى بنجلاديش، وهو تجربة ناجحة تستحق الدراسة.
والحقيقة التى يعرفها الجميع أن عمليات اغتصاب الأراضى وخاصة الأراضى الصحراوية كانت بسبب عدم الالتزام بتسجيل الملكية فى مصر التزاما صارما، وعدم وضوح قاعدة اكتساب الملكية بوضع اليد، وقد شهدنا فى منطقة العجمى والساحل الشمالى مثلا مضاربات وعمليات اغتصاب وبلطجة حققت لأصحابها مليارات الجنيهات بدون أساس قانونى..
والحقيقة الثانية التى ركز عليها (دوسوتو) هى أن الفقراء الذين يعملون فى القطاع غير الرسمى هم أقوى الفئات المساندة للقطاع الخاص بشرط إيجاد النظام الذى يتيح تحقيق هويتهم،ويجعلهم خارج الفئات المهمشة..
قرار واحد يحل مشكلة هؤلاء الفقراء.. قرار بتخفيض رسوم التسجيل مرة أخرى أو حتى إلغائها حتى لو تحملت الحكومة التكلفة، لأن العائد الاقتصادى على التنمية أكبر بكثير من هذه الرسوم. على أن يشمل القرار تبسيط الإجراءات. لأن هؤلاء الفقراء لن يقدروا على التعامل مع الإجراءات المعقدة الحالية.
وأرجو أن تضم ورقة (دوسوتو) إلى أوراق لجنة السياسات فى الحزب الوطنى، فقد تصبح على جدول أعمال مجلس الوزراء.